بينما كانت التطورات العلمية تتشكل في أوروبا، التي أفرزت الثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر، كانت القيصرية الروسية تشهد أحداثاً، وتطورات أدت إلى مولد الإمبراطورية الروسية، ففي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تعمل على صياغة نفسها من جديد علمياً ومجتمعياً وسياسياً، كانت روسيا نحو الغزو الخارجي لتوسيع أراضي الإمبراطورية، وقد بدأت تلك الأحداث الكبرى مع تولي بطرس الأول مؤسس الإمبراطورية الروسية.
بالتوازي مع تلك الأحداث التي كانت تعيشها الإمبراطورية، عاشت روسيا تحولاً لتصبح تدريجياً دولة صناعية، وهو ما اعتمد على جهود كبرى على صعيد القطاع العلمي والتعليمي داخل روسيا، الذي يُعد ميخائيل لومونوسوف أحد كبار رموزه، ورغم أنه مشهور باكتشافه وجود غلاف جوي لكوكب الزهرة، لكن له إسهامات مهمة في مجالات عديدة مثل الفيزياء والكيمياء والرياضيات والاقتصاد والتاريخ وغيرها من المجالات العلمية.
ميخائيل لومونوسوف.. الهروب من الفقر إلى محراب العلم
بدأت القصة في العام 1730 عندما خطط بطل القصة، البالغ من العمر 19 عاماً حينها الهروب من أسرته الفقيرة، التي كانت تعيش في قرية في شمال روسيا، إذ إن أبوه كان يعمل صياداً ليتجه إلى موسكو عاصمة روسيا سيراً على الأقدام بسبب إفلاسه، ليحقق حلمه بدراسة العلوم هناك، وليهرب من زوجة أبيه، التي كانت تعمل دائماً على إيذائه، كما أشارت موسوعة Britannica.
وعن طريق حجة كاذبة، أدعى لومونوسوف أنه ابن أحد النبلاء ليستطيع الالتحاق بمدرسة "دير سباسكي"، لتبدأ رحلته العملية التي لم تكن سهلة، بل مليئة بالمعاناة والصعاب، إذ كان لومونوسوف يعاني من التضور جوعاً طوال مدة دراسته في الدير، بجانب معاناته من سخرية زملائه بشكل دائم، لأنه كان الوحيد الذي يكبرهم سناً في المدرسة.
خلال سنوات دراسته هناك استطاع والد لومونوسوف تعقب أثره ليصل إلى مكانه في الدير، ويرسل له لكي يعود إلى المنزل، ورغم المعاناة التي كان يعيشها لومونوسوف فإنه رفض العودة مع أبيه ليُكمل حلمه بدراسة العلوم، وبهذا علمت إدارة المدرسة بكذب لومونوسوف، وأن والده رجل بسيط ليس من النبلاء، وهددوه بالطرد، إلا أن لومونوسوف كان أحد أفضل الطلاب في المدرسة، وهو ما جعلهم يبقون عليه ولا يطردونه.
وفي العام 1736، انتقل لومونوسوف إلى أكاديمية سانت بطرسبرغ للعلوم أحد كبرى المؤسسات العلمية في البلاد آنذاك، وذلك لنبوغه وتفوقه في مدرسة سباسكي، وسرعان ما تميز بين أعضاء الأكاديمية ليُختار من ضمن بعثة إلى جامعة ماربورج في ألمانيا لدراسة العلوم الطبيعية والرياضيات هناك لمدة 3 سنوات.
في ألمانيا، درس لومونوسوف على يد كريستيان فولف، أحد أبرز العلماء والفلاسفة في ألمانيا في ذلك الوقت، وتخصص في علم المعادن والتعدين، ليعود في العام 1741 إلى روسيا ليصبح أستاذاً مساعداً للفيزياء في أكاديمية سانت بطرسبرغ.
أما عن تلك الأكاديمية، فقد أسسها الإمبراطور بطرس الأول في العام 1724، وانضم إليها عشرات الأكاديميين والأساتذة لدراسة العلوم الطبيعية والبلاغة والتاريخ والقانون. وتمحور هدف الأكاديمية منذ تأسيسها على تدريب العلماء الروس وترسيخ البحث العلمي والتعليم في البلاد، مع ذلك كانت الأنشطة التعليمية محدودة في الأكاديمية في بداية نشأتها.
وكانت الأكاديمية، عند التحاق لومونوسوف بها، تعاني من أزمة مالية، فعمل لومونوسوف على تحسين أوضاع الأكاديمية ونجح في زيادة عدد الدوريات والمحاضرات العلمية باللغة الروسية مقابل اللاتينية، وهو ما خلق تياراً علمياً جديداً داخل البلاد، وبدأت الحركة العلمية الروسية في الانتعاش، ما زاد من عدد الأكاديميين الروس، الذين اعتبروا لومونوسوف قدوةً لهم ونموذجاً يُحتذى به.
رحلة لومونوسوف العلمية: الكهرباء والضوء والفضاء، والنجاة من الصعق
اعتمد لومونوسوف على المنهج التجريبي في بحثه العلمي، إذ سعى لإثبات نظرياته وفرضياته عن طريق التجربة، وكان لومونوسوف يعمل على موضوعات البحث لسنوات، وفي بعض الأحيان لعقود لاختبار نظرياته وفرضياته، وكان دائماً يركز على تحويل الاكتشافات إلى اختراعات جديدة يمكن الاستفادة منها.
وفي إطار أبحاثه، عمل لومونوسوف على دراسة الكهرباء مع جورج ريتشمان -العالم الروسي من أصل ألماني- في أواخر عام 1744، إذ عمل العالمان على اختراع أول جهاز لقياس الكهرباء (شدة التيار)، والذي قادهم إلى دراسة كهرباء الغلاف الجوي.
ففي العام 1753 كانت تجارب ريتشمان ولومونوسوف تدور حول الاستفادة من العواصف الرعدية التي يصاحبها برق، والاستفادة من ذلك في توليد الكهرباء، وبينما كان كل من العالمين يقومان بتجاربهما أثناء عاصفة رعدية شديدة، قُتل ريتشمان بسبب كرة صاعقة، في حين "نجا لومونوسوف بأعجوبة"، الذي كان موجوداً في نفس نطاق ريتشمان، على بعد ثلاث بنايات منه فقط، بفضل تشتت انتباهه للحظات، ما أنقذ حياته، كما شرحت مجلة Physics Today العلمية.
بعد تلك الحادثة، وتعبيراً منه عن وفائه لصديقه، نسب لومونوسوف تلك النظرية إلى ريتشمان، الذي أوضح فيها أن البرق هو كهرباء مولدة عن طريق الاحتكاك بين الهواء الدافئ المتدفق لأعلى والهواء البارد المتدفق إلى أسفل، مع تراكم الشحنة الكهربائية على الجسيمات الدقيقة، والتي يمكن أن يتم حساب قدرها بناءً على درجة الحرارة والضغط.
واستكمالاً لأبحاثه في هذا المجال، صمم لومونوسوف أداة تشبه الطائرة الهليكوبتر، التي احتوت على مروحتين تدور كل منهما في اتجاهين متعاكسين لموازنة جسم الطائرة، وخلال عرضه للنموذج الذي صنعه على الأكاديمية في العام 1754، تمكن الجسم من رفع نفسه قليلاً، إلا أن هذا الاختراع الكبير وقتها لم يُستفد منه فيما بعد.
وفي العام 1756، جمع لومونوسوف 127 ملاحظة حول نظرية الضوء والكهرباء، في رسالة بعنوان "أصل الضوء والألوان"، وفي اجتماع عام للأكاديمية؛ قرأ لومونوسوف ورقته البحثية عن الطبيعة الموجية للضوء، وعرض نظرية جديدة للألوان، التي أوضح فيها أنها ما هي إلا شكل من أشكال الضوء.
ومن الضوء إلى علم الفلك، أدت جهود لومونوسوف في الأكاديمية الروسية بتبنيها لتنظيم حملة شملت أكثر من 170 عالم فلك لمراقبة الفضاء عالمياً من خلال 117 محطة رصد للفضاء، 4 منها في روسيا.
وفي إطار تلك الحملة الكبرى، قام لومونوسوف بدراسة بعض ظواهر كوكب الزهرة، وأكد وجود قوس حول الكوكب على شكل هالة، فيما أكد العديد من علماء الفلك الآخرين رؤية القوس بعدما لاحظه لومونوسوف، ونشر لومونوسوف تقريراً يلخص فيه ملاحظاته يشرح فيه كيف ينكسر الغلاف الجوي للزهرة -الضوء- ليشكل الهالة التي لاحظها وأكدها العلماء من بعده، فيما خلُصَ لومونوسوف إلى أن الزهرة "لديها غلاف جوي مشابه للغلاف الجوي المحيط بالأرض".
واعتقد لومونوسوف أنه قد تكون هناك حياة على كوكب الزهرة، وحتى لا يقع في مأزق ديني مع معتقداته، قال إن ذلك لا يتعارض بالضرورة مع الكتاب المقدس، وهو ما اعتُبر موقفاً جريئاً منه، في الوقت الذي كانت تحارب فيه الكنيسة الروسية الكثير من النظريات العلمية، وعلى رأسها "المبدأ الكوبرنيكي للكون"، الذي يقول إن الشمس هي مركز الكون وليس الأرض كما كانت تدعي الكنيسة.
واستكمالاً لجهوده في علم الفضاء، اخترع لومونوسوف في العام 1756 ما سماه بـ"أنبوب الرؤية الليلية"، وهو تلسكوب أدعى أنه يساعد في الرؤية بشكل أفضل في الظلام، في حين جادل منتقدوه بأن الاختراع لم يقدم جديداً، إذ بدا أن أنبوب لومونوسوف لا يختلف عن التلسكوب المألوف، إلا أن البحرية الروسية قامت باستخدامه في القطب الشمالي في العام 1765، وحُسم الصراع العلمي لصالح لومونوسوف بعد أكثر من قرن من الزمان، إذ أُثبتت أهمية الاختراع فيما بعد.
تأسيس جامعة موسكو
في العام 1755 سعى ميخائيل لومونوسوف لتأسيس جامعة موسكو الحكومية، لتصبح أول جامعة في روسيا، لتسمى فيما بعد باسم "جامعة لومونوسوف الحكومية بموسكو"، تكريماً لجهوده في تأسيسها. وتُعد الجامعة أكبر جامعات البلاد، وأهم مركز للبحث العلمي والمنح الدراسية في روسيا، كما أنها تضم واحدة من أكبر المكتبات في روسيا.
فكرة إنشاء الجامعة كانت من بنات أفكار لومونوسوف، التي أقنع بها الإمبراطورة إليزافيتا بيتروفنا، لتوقع على مرسوم يأمر بإنشاء الجامعة، وهو يوم لا يزال يُحتفل به سنوياً في روسيا باعتباره يوم الطلاب.
وفي أعقاب الثورة الروسية، خضعت الجامعة لتوسع كبير، ويوجد بالجامعة حالياً أكثر من 350 معملاً، بجانب عدد من معاهد البحث، كما أن هناك العديد من المراصد والمتاحف التابعة لها. كما تخرج في الجامعة على مدار تاريخها العديد من الأسماء المعروفة والكبيرة في روسيا، مثل أديب الثورة الروسية ميخائيل ليرمونتوف، والزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف.
ومن الجدير بالذكر أن جامعة لومونوسوف هي الجامعة الأعلى تصنيفاً في روسيا، وتتمتع بموقع ثابت ضمن أفضل 150 جامعة عالمية في تصنيف QS العالمي، لتحتل المركز 78 لهذا العام (2022)، متراجعة عن العام السابق الذي احتلت فيه المركز 74. وتستضيف الجامعة أكثر من 47 ألف طالب، وتستقبل 4 آلاف طالب دولي كل عام.
حياة لومونوسوف المليئة بالعجائب وعلاقته بالدولة
عُرف لومونوسوف بقوته البدنية التي ساعدته في العراك بالعديد من المرات على مدار حياته، فطبقاً لموقع "الفيزياء اليوم" تعرض لومونوسوف وهو في الخمسين من عمره لمحاولة سرقة من قبل 3 رجال، إلا أنه قام بضربهم وتجريدهم من ثيابهم.
وفي أكاديمية سانت بطرسبرغ، حيث زملاؤه الأكاديميون، وفي إحدى المناقشات العلمية بين لومونوسوف وأحد زملائه، احتدّ لومونوسوف في الحديث، وانتهى الأمر بالاشتباك معه باليد، وهو ما جعله يدفع ثمن ما فعل باهظاً، إذ خُفض راتبه إلى النصف ووضُع قيد الإقامة الجبرية لمدة 8 أشهر، ولم يُطلق سراحه إلا بعد اعتذار علني، إلا أن هذه الفترة كانت إحدى أهم الفترات في إنتاج لومونوسوف العلمي، فيما علق زملاء لومونوسوف على تلك الحادثة بأن لومونوسوف معتاد على الجدال بشدة مع "زملائه غير الأكفاء" في الأكاديمية، إذ إن لومونوسوف كان يرى أن قادة الأكاديمية ما هم إلا نبلاء غير أكفاء.
وكان مزاج لومونوسوف الحاد وشخصيته المتمردة جزءاً لا يتجزأ من صعوده كرمز داخل روسيا، ففي الوقت الذي كان فيه العديد من العلماء يعتمدون على نظريات نيوتن، وأشهرها الجاذبية، كان لومونوسوف على عكس الكثيرين، متشككاً في نظرية الجاذبية، في الوقت الذي كان يؤمن فيه بنظريات فيزياء الكم وميكانيكا الجسيمات، الأمر الذي جعله يغرد خارج السرب في ذلك الوقت.
بجانب دور لومونوسوف في الحركة العلمية الروسية، كان لومونوسوف معروفاً بدوره كمؤرخ وأديب وخطيب وشاعر، وبهذا الصدد نُقل عن لومونوسوف عبارة كان يقولها دائماً، هي: "الشعر هو عزائي، والفيزياء مهنتي".
أما عن مؤلفات لومونوسوف فهي كثيرة ومتنوعة، إذ تتكون أعمال لومونوسوف من 4 مجلدات في الفيزياء والكيمياء وعلم الفلك، واثنين في علم المعادن والتعدين والجيولوجيا، بالإضافة إلى مؤلفات في التاريخ الروسي، والاقتصاد، والجغرافيا، وكذلك في علوم اللغة الروسية والشعر والنثر. كما كانت هناك ترجمات بارزة للومونوسوف.
وفيما يخص اعتماد لومونوسوف على الدولة في دعم مشاريعه العلمية والفنية، فقد حصل لومونوسوف على منحة قدرها 1500 روبل من مجلس الشيوخ الروسي، والتي أنشئ بها أول مختبر كيميائي للبحوث في روسيا، والذي قاده لمدة 8 سنوات، وأجرى فيه 4 آلاف تجربة خلال 3 سنوات فقط.
كما حصل لومونوسوف على تمويل قدره 4 آلاف روبل لتأسيس مصنع للفسيفساء، وبعد ذلك حصل على 80 ألف روبل -حوالي 12 مليون دولار اليوم- لإنشاء 17 فسيفساء للاحتفال بتاريخ روسيا، خاصة ما حققه بطرس الأول، إلا أن لومونوسوف لم ينته إلا من واحدة فقط قبل وفاته، وهي جدارية معركة بولتافا الكبرى، المعروضة الآن في الأكاديمية الروسية للعلوم، وهكذا كانت العلاقة بين لومونوسوف والدولة، ممثلة في الإمبراطورة وأعضاء مجلس الشيوخ، جيدة، إلا أن ذلك لم يستمر لنهاية حياته، فلقد تغير الوضع بعد وفاة الإمبراطورة إليزافيتا.
فبعد وفاة الإمبراطورة في العام 1762، ومقدم الإمبراطور بيتر الثالث -الذي لم يدُم حكمه إلا شهوراً بسبب الإطاحة به بانقلاب مُدبر من قِبل زوجته الإمبراطورة كاترين الثانية- عانى لومونوسوف من اضطهاد من قبل السلطات، إذ صُودرت أعماله بسبب مخالفتها لبعض قيم الإمبراطورية، خاصة تهديد "نظام القنانة الروسي"، الذي عُد أحد أشكال العبودية، حيث كان يُجبر الفلاحين على العمل لصالح أصحاب الأراضي دون أي حق لهم.
ولم يستمر هذا الوضع كثيراً، إذ وافت لومونوسوف المنية في 1765، عن عمر يناهز 54 عاماً، بدورها دفنته الإمبراطورة كاترين الثانية في مراسم كبرى، واعتبرته عالماً وطنياً، كما نُظر إلى لومونوسوف على أنه شاعر في البلاط الإمبراطوري، وداعم للملكية والدين وليس عدواً لهما، في حين اعتبره الكثيرون في روسيا بطل التعليم الشعبي.قد يهمك أيضاً: شاعر الثورة الروسية الأول الذي تأثر بالشرق والإسلام واقتبس معاني من القرآن.. تعرف على قصة ميخائيل ليرمنتوف