كانت دول البلقان تاريخياً منطقة ساخنة قد تشتعل في أي لحظة، ولا عجب أن توصف بأنها "برميل بارود أوروبا"، فقد كانت فيما مضى الجسر الواصل ما بين أبرز قوتين عالميتين: روما عاصمة الكاثوليكية، والقسطنطينية عاصمة الأرثوذوكسية. ثمّ أصبحت جسراً للدولة العثمانية فيما بعد.
أما اليوم فهي "قنبلةٌ موقوتة" قد تنفجر في أي لحظة في أوروبا، خصوصاً بسبب الصراع بين روسيا من جهة وأوروبا وأمريكا من جهة أخرى.
الموقع الجغرافي ليس لعنة البلقان الوحيدة، فقد لعب التنوع العرقي والديني فيها دوراً أساسياً في اشتعال النزاعات والحروب الأهلية التي دومًا ما استغلتها بالطبع الدول العظمى لتحقيق مصالحها.
دول البلقان بين الشرق والغرب
قبل أن نروي لكم حكاية دول البلقان التي توصف أيضاً بأنها "الحديقة الخلفية لأوروبا" دعونا نمر سريعاً على خارطة القارة الأوروبيّة.
يضم الجزء الغربي من القارة الأوروبية دولاً قوية لعبت على مر التاريخ دوراً في إشعال الحروب والنزاعات في العالم، مثل: فرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا وإسبانيا.
بينما يضمّ الجزء الأوسط دولاً كانت محورية أيضاً تاريخياً مثل ألمانيا وبولندا. أمّا في الشمال فتقع الدول الإسكندنافية التي لم تكن مؤثرة في الخريطة العالمية مثل أوروبا الغربية والوسطى على سبيل المثال.
ننتقل الآن للشقّ الأخير من القارة العجوز: الجنوب الشرقي. وهنا نجد أنّ الوضع مختلف كثيراً، فهناك تمتد مجموعة من الدول المعروفة باسم "دول البلقان" والتي اتخذت اسمها من جبال البلقان الممتدة من الحدود الصربية البلغارية إلى البحر الأسود.
وعلى عكس إخوتها في أوروبا الغربية والوسطى، لم يكن لدول شبه جزيرة البلقان يوماً دور أساسي في إشعال الحروب، إنما تم استخدامها من قبل الشرق والغرب على حد سواء لتكون ساحةً لحلّ النزاعات الدولية، فهي تقع في منطقة متوسطة ما بين أوروبا وروسيا وتركيا، أو ما اصطلح عليه جغرافياً باسم "أوراسيا".
وتضم دول البلقان 11 دولة، هي: ألبانيا – بلغاريا – البوسنة والهرسك – كوسوفو – مقدونيا – الجبل الأسود – صربيا – رومانيا – سلوفينيا – اليونان – كرواتيا.
أما الديانات الأكثر انتشاراً في دول البلقان فهي المسيحية الأرثوذكسية والكاثوليكية ثمّ الإسلام. وفي البلقان وربما بسبب التداخل والتعقيد يرتبط الدين بالعرق بالقوميّة معاً.
بالتالي يتعصّب سكان كل دولة في البلقان لقوميّتهم بشكل أساسي، فلدينا الصرب والكروات والألبان والبوشناق (وهم مسلمو البوسنة والهرسك الذين تتم معاملتهم على أنهم عرق منفصل) وغيرهم. وإضافةً للتعقيد العرقي والديني في المنطقة، هناك تداخلات في كلّ دولة من خليط الأعراق هذا
انتشار الإسلام في دول البلقان
لنرجع معكم إلى الوراء قليلاً، بالتحديد إلى بداية تأسيس الدولة العثمانية. فقد بدأ السلاطين العثمانيون حروبهم على جبهتين رئيسيّتين: الأولى في الشرق في منطقة الأناضول حيث كان الأمراء الأتراك والتركمان يتصارعون فيما بينهم، والثانية كانت جبهة الجهاد في أوروبا، والتي كانت بوابتها بلاد البلقان بالطبع.
فبدؤوا منذ منتصف القرن الثالث عشر بغزو منطقة تراقيا الشرقية، الواقعة اليوم غرب مضيق البوسفور في تركيا، ثمّ تلتها بعد ذلك مقدونيا.
وكان أوّل سلطان عثماني يسقُط شهيداً في ساحة المعركة في بلاد البلقان. وكان هذا السلطان الشهيد هو مراد الأول ثالث سلاطين الدولة العثمانية، والذي هزم الأمير الصربي لازار وجيشه البلقاني في كوسوفو عام 1389، وقتله أحد الأسرى في نفس يوم المعركة، ولا يزال قبره موجوداً في كوسوفو حتى الآن.
بعد هزيمة الجيش البلقاني في كوسوفو، هزم العثمانيون الجيوش البلغارية كذلك في معركة وقعت عام 1393.
لكنّ التوسع الأكبر للعثمانيين في دول البلقان جاء بعد فتح القسطنطينية حيث توجهت أنظار السلطان الشاب محمد الفاتح إلى صربيا فزحف بجيوشه إليها عام 1455، وبعد أربع سنوات من الحصار والكر والفر، أصبحت صربيا ولاية عثمانية بالكامل فيما عدا عاصمتها بلغراد التي فتحها سليمان القانوني لاحقاً عام 1521.
وبعد أن استتبت الأمور للفاتح في صربيا فتح اليونان عام 1458، ثم توجَّه نحو البوسنة والهرسك ليفتحها عام 1462.
وهكذا أصبحت مساحات واسعة من جنوب شرق أوروبا خاضعة لسيطرة العثمانيين، فبدأ الإسلام بالانتشار في دول البلقان منذ أواخر القرن الرابع عشر خاصة في البوسنة وألبانيا، حيث لم يستطع المبشرون المسيحيون منافسة الصوفيين المسلمين الذين نشروا نموذجاً دينياً أكثر تسامحاً بين السكان المحليين.
كذلك، كانت الدولة العثمانية قائمة على أسس الانتماء الديني، وكان للمسلمين امتيازات أبرزها الحصول على فُرصٍ في إدارة الدولة والجيش، وهذا عامل آخر شجَّع الكثيرين على التحول إلى الإسلام.
وعلى سبيل المثال لا الحصر كان أبرز ثلاثة وزراء في عهد سليمان القانوني مسلمين من دول البلقان، وهم إبراهيم اليوناني، ورستم البلغاري، ومحمد سوكولو من البوسنة، كذلك لعب الوزراء المسلمون الألبان دوراً أساسياً في توفير الاستقرار للدولة العثمانية في نهاية القرن السابع عشر، عندما بدأت الدولة مرحلة التدهور.
سقوط الدولة العثمانية ونمو الدول القومية
ظلّت أغلب دول البلقان لقرون ولاياتٍ عثمانية تضم عدداً كبيراً من المسلمين. لكن بدأ الوضع يتغيّر بشكلٍ جذريّ مع ضعف الدولة العثمانية ونمو الدول القومية القائمة على أسس عرقية في منطقة البلقان.
بدأت القصة مع تمكَّن الإمبراطورية النمساوية المجرية من هزيمة العثمانيين والحصول على أجزاء من كرواتيا الحالية عام 1699، كما حاز جنوب اليونان على استقلاله عام 1821، أمّا الصرب فقد نالوا استقلالهم بعد هزيمة العثمانيين في الحروب الروسية العثمانية (1877 – 1878)، وشكلوا بعد سنوات ما عرف باسم "مملكة صربيا".
لاحقاً خسر العثمانيون البوسنة واستقلّت عنها كل من رومانيا وبلغاريا، وكان كل ذلك في عام 1878، وأعلنت ألبانيا استقلالها التام عن العثمانيين أخيراً عام 1912.
وتزامن تشكُّل تلك الدول مع تغيُّر حال المجتمعات المسلمة فيها والتي فقدت مكانتها مع تراجع الدولة العثمانية، وبدأ يُنظَر للمسلمين في دول البلقان على أنهم حلفاء للعثمانيين، فتعرضوا على مدى سنوات خلال القرنين التاسع عشر والعشرين للمضايقات والمذابح والتهجير القسري، حيث أجبر آلاف المسلمين من اليونان ومقدونيا وكوسوفو وبلغاريا على الفرار إلى تركيا، وفقاً لما ورد في Encyclopedia.
نأتي الآن لسؤال نحاول الإجابة عليه عبر الغوص في التاريخ، وهو:
كيف أصبحت البلقان "برميل بارود أوروبا"؟
كما ذكرنا سابقاً ظلّت أغلب دول البلقان ولاياتٍ عثمانية لسنين، وكان من الطبيعي أنّ يُحدث تراجع الوجود العثماني في دول البلقان فراغاً كبيراً. وهكذا أصبحت هذه المنطقة "برميل بارود أوروبا"، وقد أدّى الانفجار الأول لهذا البرميل إلى نشوب الحرب العالمية الأولى.
كما هو معروف قامت الحرب العالمية الأولى التي تسببت في مقتل 16 مليون إنسان، بين معسكرين هما دول الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وروسيا) ودول المركز (ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية والدولة العثمانية ومملكة بلغاريا)، أما شرارة انطلاقة هذه الحرب الطاحنة فقد كانت من دول البلقان، بعد أن أشعل الصرب ما عرف باسم "أزمة يوليو".
كانت منطقة البلقان محتقنة في ذاك الوقت، فقد تزعزع استقرارها مع ضعف الدولة العثمانية وتراجعها، وقيام حروب البلقان التي وقعت ما بين عامي 1912 و1913 بين اتحاد البلقان والدولة العثمانية وأسفرت عن استقلال ألبانيا وتوقيع معاهدة لندن للسلام لإنهاء الحرب.
وفوق هذا وذاك لدينا أيضاً التنافس الروسي – النمساوي المجري للسيطرة على المنطقة، فقد أعلنت الإمبراطورية النمساوية المجرية ضم البوسنة والهرسك إليها (كما كانت كرواتيا وسلوفاكيا تحت إمرتها) الأمر الذي أغضب مملكة صربيا وحليفتها الإمبراطورية الروسية التي كانت تتحكم في صربيا وتبسط نفوذها في رومانيا كذلك.
في ظل هذه الظروف، أقدم شاب قومي من مملكة صربيا على اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند مع زوجته بينما كانا في زيارة لمدينة سراييفو، وقد استخدمت الإمبراطورية النمساوية المجرية ذلك ذريعة لغزو صربيا، الأمر الذي لم يُرضِ موسكو بالتأكيد.
وهكذا استقطبت الأطراف المتصارعة في البلقان حلفاءها، فانضمّت فرنسا إلى معسكر روسيا، بينما انضمت ألمانيا إلى معكسر الإمبراطورية النمساوية المجرية، وسرعان ما انتشر الصراع في مساحات واسعة من العالم وأدى إلى نشوب الحرب العالمية الأولى.
يوغوسلافيا.. ساحة الأطماع الدولية
بانتهاء الحرب العالمية الأولى، استُبدِلَت العديد من الإمبراطوريات بدولٍ جديدة قائمة على الأسس القومية، فلم يعد هناك وجود للإمبراطورية الروسية أو الألمانية أو النمساوية المجرية وحتى الدولة العثمانية أصبحت ما يعرف إلى اليوم باسم "تركيا".
وبالعودة إلى دول البلقان، فقد قسّمت الإمبراطورية النمساوية المجرية واتحدت كل من صربيا، وكرواتيا وسلوفينيا تحت قيادة ملك الصرب بطرس الأول عام 1918 في دولة واحدة حملت اسم "مملكة صربيا وكرواتيا وسلوفينيا"، ثم أصبحت تعرف لاحقاً باسم "مملكة يوغوسلافيا".
وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، ناصر ملك يوغوسلافيا، بطرس الثاني دول المحور عام 1941، لكن هذا القرار لم يرق للجيش اليوغوسلافي الذي أسقط الملك بعد مناصرته للنازيين وحلفائهم.
وهنا، انتهز هتلر الفرصة كي تحتل القوات الألمانية والإيطالية البلاد، وهكذا انقسمت يوغوسلافيا ثانية، وتأسست دولة كرواتيا المستقلة والتي اعتبرت دولة تابعة للنازية، تحكمها الميليشيا الفاشية المعروفة باسم "أوستاشا" والتي كانت مسؤولة عن مقتل 500 ألف شخص وتهجير 250 ألفاً، وإجبار مئتي ألف على التحول إلى الكاثوليكية.
كذلك احتلت القوات الألمانية البوسنة والهرسك بالإضافة إلى جزء من صربيا وسلوفينيا، بينما احتلت بلغاريا والمجر وإيطاليا أجزاء أخرى من البلاد.
نهاية الاتحاد بموت زعيم المقاومة اليوغوسلافية
ومع حلول عام 1943 برز نجم جوزيف بروز الملقب بتيتو الذي تزعم المقاومة اليوغوسلافية وتحالف مع القوات السوفييتية لتحرير البلاد من هيمنة الألمان وحلفائهم الإيطاليين، وبالفعل قدم الجيش الأحمر مساعدة في تحرير بلغراد، ثم انسحب من البلاد بعد انتهاء الحرب.
كان أنصار الملك السابق لا يزالون متواجدين في الساحة اليوغوسلافية، لكن المارشال جوزيف تيتو كان مسيطراً على مقاليد الأمور، ومصمماً على تأسيس دولة شيوعية مستقلة، وحظي بدعم موسكو ولندن من ناحية كما كانت له شعبية كبيرة في يوغوسلافيا إذ ينظر إليه على أنه الزعيم الذي حرر البلاد من النازيين.
واستطاع تيتو أن يحقق تصوراته بعد تحرير يوغوسلافيا من الاحتلال الألماني عام 1945، فأعلن عن قيام ما سمي بـ"اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية الشعبية"، وضم هذا الاتحاد كلاً من صربيا، وكرواتيا، وسلوفينيا، والبوسنة والهرسك، والجبل الأسود وجمهورية مقدونيا.
بعد التحرير، بقيت يوغوسلافيا متحالفة مع الاتحاد السوفييتي مدة 3 سنوات، لتظهر بعدها خلافات على السطح كان سببها الرئيسي إنشاء السوفييت قواعد عسكرية بالقرب من الحدود اليوغوسلافية، تلك الخطوة دفعت تيتو إلى التخلص من الهيمنة السوفييتية واتباع سياسة محايدة على الصعيد الدولي، حتى إنه كان أحد المؤسسين لحركة عدم الانحياز إلى جانب الرئيس المصري جمال عبد الناصر ورئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو.
أما عن سياسته الداخلية، فقد ازدهرت يوغوسلافيا اقتصادياً وعسكرياً في عهده خاصة خلال فترة الستينيات والسبعينيات، ومن الناحية السياسية فقد لجأ تيتو إلى القمع لمواجهة أي حركة قومية قد تزعزع الوحدة بين دول يوغوسلافيا.
وبقي تيتو رئيساً للاتحاد حتى موته عام 1980 -والذي كان بداية النهاية للاتحاد اليوغوسلافي-، فبعد وفاته لم يكن هناك قيادة ذات كفاءة قادرة على توحيد البلاد، وهكذا دخلت دول الاتحاد اليوغوسلافي سلسلة من الحروب الأهلية والاضطرابات نجم عنها تفكك دول البلقان ثانية.
فمع انهيار الاتحاد السوفييتي وتزايد الأصوات المنادية بحل الاتحاد اليوغوسلافي، أعلنت كل من كرواتيا وسلوفينيا وجمهورية مقدونيا الاستقلال عام 1991، ما أدى لقيام الحرب اليوغوسلافية لإعادة الجمهوريات المنفصلة وذلك بين الجيش الاتحادي (الصربي) وبين هذه الدول.
وأعلنت البوسنة والهرسك استقلالها عام 1992 مما أدخلها في حرب أهلية أيضاً مع الصرب، والصرب البوسنيين، والكروات والكروات البوسنيين. في حين لم تنل الجبل الأسود استقلالها حتى عام 2006.
حرب البوسنة والهرسك واتفاقية دايتون
لم تدفع دولة من دول البلقان ثمن استقلالها كما فعلت البوسنة والهرسك، والتي خاضت حرباً دامية استمرت 3 سنوات منذ أن أعلنت استقلالها عام 1992.
ولنفهم ما حدث هناك يجب أن نعرف أولاً الأعراق الموجودة في البوسنة والهرسك، ففي عام 1991، كان 44% من السكان يعتبرون أنفسهم مسلمين بوسنيين و 32.5% يعتبرون أنفسهم صرب (وهم صرب البوسنة) و 17% كرواتيين (وهم كروات البوسنة) و 6% يصفون أنفسهم بأنهم يوغوسلافيون.
أما طرفا النزاع في الحرب التي اندلعت بعد الاستقلال، فقد كان القوميون الصرب والكروات من جهة، كان البوسنيون المسلمون الجهة الأخرى والحلقة الأضعف في الحرب التي أدت إلى ارتكاب مجازر بحقهم وقتل قرابة مئتي ألف مسلم وتهجير ما يقارب 2.2 مليون بوسني.
ثلاث سنوات من المجازر بحق مسلمي البوسنة مرت في ظل صمت دولي كسر أخيراً بعقد اتفاقية دايتون، فقد نجحت المساعي الأمريكية والأوروبية والروسية في دفع أطراف النزاع -خاصة الصرب- لعقد مفاوضاتٍ سياسية في دايتون بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1995.
ووفقاً لهذه الاتفاقية، مُنح صرب البوسنة جمهورية مستقلة تمتد على 49%من المساحة الإجمالية للبوسنة والهرسك، في حين جُمِعَ المسلمون والكروات في فدرالية على 51% من أراضي البوسنة، وجعلت رئاسة فيدرالية البوسنة والهرسك جماعية تتألف من مجلسٍ ثلاثي يُمثل المكونات الثلاثة (الصرب والكروات والمسلمين). ويتناوب أعضاؤه الثلاثة على الرئاسة بمعدَّل مرتين مدة كل واحدة منهما ثمانية أشهر خلال العهدة الرئاسية المحددة بأربع سنوات.
واعتبرت اتفاقية دايتون اللغات الثلاث (الصربية والكرواتية والبوسنية) لغاتٍ وطنية، ووضعت البوسنة والهرسك تحت الوصاية الدولية. وتم نشر 60 ألف عسكري من قوات حلف شمال الأطلسي في البوسنة لضمان الاستقرار وتوفير مناخٍ ملائم لتنفيذ الاتفاق.
من يريد الانفصال عمن؟
على الرغم من تقسيم دول البلقان و استقلالها بعد انهيار الاتحاد اليوغوسلافي فإنه لا يزال هناك بعض العرقيات الراغبة في مزيد من الانفصال داخل هذه الجمهوريات. وأبرزها صرب البوسنة وسكّان كوسوفو.
صرب البوسنة: وفقاً لاتفاقية دايتون التي سبق وتحدثنا عنها فقد مُنِحَ صرب البوسنة جمهورية تتمتع بكيان قانوني مستقل إلا أنها لا تزال تمثل جزءاً من البوسنة والهرسك، لكن صرب البوسنة في واقع الأمر يرغبون بالانفصال عن البوسنة والهرسك والحصول على دولة مستقلة عن البوسنة بشكلٍ كامل.
كوسوفو: لدينا أيضاً جمهورية كوسوفو (ذات الأغلبية الألبانية الساحقة)، وهي دولة معترف بها بشكل جزئي فقط، إذ يعترف بها حوالي 51% من دول العالم، لأنها تعتبر موضوع نزاع إقليمي مع صربيا التي تعتبر كوسوفو جزءاً من أراضيها وتطلق عليها مسمى "إقليم كوسوفو".
إقليم السنجق: كان إقليم السنجق جزءاً من البوسنة والهرسك، لكن تم تقسيمه بعد الحرب ما بين صربيا والجبل الأسود، ويشكِّل المسلمون الغالبية الساحقة في هذا الإقليم، ولديهم طموحات في إعادة رسم حدود إقليمهم.
البلقان بين روسيا والناتو
في الصراع الدائم ما بين روسيا والمعسكر الغربي، من المهم أن نعرف موقف دول البلقان التي تعتبر الجسر الواصل بين الطرفين المتنازعين.
لطالما كانت صربيا حليفةً لموسكو، مع ذلك تتزايد أعداد الصرب الراغبين في الانضمام للاتحاد الأوروبي، لكن تلك الرغبة تتراجع عند الحديث عن كوسوفو الراغبة بالانفصال بدعم من الأوروبيين.
ففي عام 2017، أظهر استطلاع أنّ أكثر من 51% من الصرب يريدون الانضمام للاتحاد الأوروبي، لكن أكثر من 70% منهم قالوا إنهم لن يرغبوا بذلك إذا كان الثمن هو الاعتراف بانفصال كوسوفو. وفي حين كانت الجبل الأسود حليفاً قديماً لموسكو لكن سياستها تغيرت خطوة خطوة باتجاه الغرب.
من ناحية أخرى، فإن كلاً من ألبانيا وكرواتيا والجبل الأسود ومقدونيا هي دول أعضاء في حلف الناتو. ومن الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة دفعت باتجاه ضم دول غرب البلقان إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو لإدراكها أهمية الموقع الاستراتيجي الذي تحتله هذه الدول الفاصلة بين روسيا والغرب.
أما البوسنة والهرسك ذات الغالبية المسلمة، فتعاني مما يشبه العزلة الدولية فلا هي جزء من الناتو ولا تحظى بدعمٍ من موسكو بالطبع.
روسيا.. عين على أوكرانيا وأخرى على البلقان
بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، يبرز التساؤل التالي: هل يفجر بوتين برميل بارود أوروبا مرة ثانية؟
كما هو معلوم فرض الغرب العديد من العقوبات على روسيا بعد دخولها الحرب على أوكرانيا، ويرى العديد من المحللين أن موسكو قد تلجأ رداً على تلك العقوبات إلى ليّ ذراع أوروبا وزعزعة استقرارها عن طريق زعزعة استقرار البلقان التي تعتبر بمثابة خط النار بين الغرب وروسيا.
وقد كان لافتاً إشارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في خطاب إعلان الحرب على أوكرانيا، إلى إقليم كوسوفو، في سياق حديثه عن "نفاق الغرب"، الذي يدعم انفصال الألبان عن صربيا، فيما يقف ضد طموحات أقليات أخرى في أوكرانيا وجورجيا وغيرهما بالانفصال.
الأمر الذي فسره كثيرون باحتفاظ بوتين بورقة إشعال الجبهة الجنوبية الشرقية لأوروبا، في حال تعثَّر هو على الساحل الشمالي للبحر الأسود في أوكرانيا.
أما عن الجبهات التي قد يشعلها بوتين فقد تكون إما في كوسوفو أو البوسنة والهرسك، مع العلم أن جبهة كوسوفو (ذات الغالبية الألبانية) قد لا تكون الخيار الأفضل لموسكو، لأن ألبانيا وكرواتيا قد تتحركان حينها وهما عضوتان في الناتو مما يعني أن الحلف قد يتحرك لصالحهما.
أما جبهة البوسنة والهرسك فهي الخيار الأكثر أماناً، وقد تلجأ موسكو إلى تحريك صرب البوسنة المتطرفين للانفصال بإقليمهم عن البوسنة، لتُشعل بذلك معركةً تُشغل المعسكر الغربي عن مغامرتها في أوكرانيا.
المجتمعات المسلمة في البلقان
أخيراً قد ترغبون في التعرف سريعاً على خارطة توزُّع المسلمين في دول البلقان في يومنا هذا، حيث يتوزعون بشكل رئيسي في الدول التالية:
البوسنة والهرسك: بالرغم من المجازر ومحاولات التطهير العرقي والتهجير الجماعي للمسلمين من البوسنة والهرسك، لا يزال المسلمون أغلبية في هذه الدولة إذ يتجاوز عددهم نصف عدد السكان، ويعتبر المجتمع المسلم في البوسنة والهرسك من أكبر المجتمعات المسلمة في دول البلقان.
ومن المفارقات في حرب البوسنة أن محاولة القوميين الصرب والكروات للقضاء على التاريخ الإسلامي والشعب المسلم في المنطقة قد أدى إلى أثر عكسي تمثل في تنشيط الممارسات الإسلامية هناك.
ألبانيا: يقع ثاني أكبر تعداد سكاني للمسلمين في البلقان في ألبانيا، لكن العديد منهم علمانيون بسبب خضوع البلاد لفترة طويلة من الحكم الشيوعي.
بلغاريا: في بلغاريا يشكل المسلمون 10% من مجموع السكان، وفقاً لما ورد في موقع refworld، ويشكل الأتراك النسبة الأكبر بين المسلمين يليهم البوماك، وهم السلاف الذين يعيشون في الجبال الجنوبية.
أثناء الحكم الشيوعي لبلغاريا، كانت هناك سياسات مباشرة لـ "بلغرة" الشعوب المسلمة من خلال إجبار المسلمين على تغيير أسمائهم الإسلامية إلى أسماء بلغارية سلافية، وفي ثمانينيات القرن الماضي، ذهب أكثر من 300 ألف تركي من بلغاريا إلى تركيا تجنباً للخضوع لسياسات بلغاريا المعادية للإسلام. وقد عاد البعض منهم إلى موطنهم بعد انتهاء الحكم الشيوعي وإلغاء تلك السياسات.
رومانيا: تضم رومانيا مجموعتان مسلمتان صغيرتان.
اليونان: غادر معظم المسلمين من اليونان، أو كانوا جزءاً من عمليات تبادل السكان بين تركيا واليونان والتي وقعت في أوائل عشرينيات القرن الماضي. ومع ذلك، لا يزال هناك مسلمون أتراك من غرب تراقيا في شمال شرق اليونان.