هل تعلمون أن الدجاج كاد أن يكون جزءاً أساسياً من الترسانة النووية البريطانية إلى جانب طاووسٍ أزرق كبير، في حال اندلعت الحرب مع الاتحاد السوفييتي؟
خطّطت بريطانيا لذلك في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، حين قُدّمت سيناريوهات مختلفة لاحتمالية اندلاع حرب عالمية ثالثة، أحدها يتمثل في أن الجيش السوفييتي سيسير عبر أوروبا الوسطى لمواجهة قوات الحلفاء.
فالقنبلتان الذريتيان اللتان ألقتهما الولايات المتحدة على مدينتَي هيروشيما وناغازاكي في عام 1945 لعبتا دوراً رئيسياً في إنهاء الحرب العالمية الثانية. ويمكن القول إنهما شكّلتا عالم ما بعد الحرب. فبالإضافة إلى أنهما كانتا حجر الزاوية في الحرب الباردة، بدأ منذ ذلك الحين السباق على التسلّح النووي.
ولمواجهة خطر السوفييت قرّرت بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية نشر أعدادٍ كبيرة ممّا يُعرف بـ"الطاووس الأزرق"، وليس المقصود هنا الطائر الجميل الذي ينفش ريشه، بل كان هذا الاسم الذي اختارته بريطانيا للغم النووي الضخم.
قوة تدميرية تحت أراضي ألمانيا.. ما دور الدجاج؟
يبلغ طول "الطاووس الأزرق" ما يُقارب المترين، وينفجر بقوة 10 كيلوطن من مادة TNT، أي أنه كافٍ لتدمير وسط لندن. وبحسب موقع History Extra، فهو عبارة عن أنبوبٍ معدني كبير، بداخله جهاز كروي مُحاط بالكثير من الأسلاك والدجاج.
منطق بريطانيا كان بسيطاً: اللجوء إلى الدجاج يستند إلى فكرة بسيطة جداً مفادها أن "الطاووس الأزرق" مصمَّم ليبقى مزروعاً عدّة أيام تحت الأراضي الألمانية، القريبة من السوفييت.
والبقاء تحت الأرض يعني أن الأجهزة الإلكترونية، اللازمة لتنشيط اللغم، ستكون معرّضة لدرجات حرارة منخفضة للغاية. وانخفاض الحرارة من شأنه أن يمنع انفجار اللغم. لذلك، اختار المهندسون البريطانيون الاستعانة بالدجاج.
كانت مهمّة الدجاج بثّ الحرارة اللازمة. ووضع الدجاج داخل الأنبوب المعدني للغم سيبقيه عند درجة حرارة معيّنة تمكّنه من الانفجار في الوقت الصحيح، أي الوقت الذي يحدّدونه.
كان "الطاووس الأزرق" سيصبح رادعاً نووياً في مواجهة بريطانيا مع الاتحاد السوفييتي، لو اندلعت حرباً عالمياً ثالثة آنذاك. وهو صُمّم أساساً ليكون سلاح الملاذ الأخير، إلا أنه لم يُستخدم رغم الانتهاء من تصميمه وبنائه.
متى كان أول سلاح نووي لبريطانيا؟
في خريف عام 1941، زار هارولد سي أوري -وهو عالم أمريكي حائز على جائزة نوبل للسلام، وكان شخصية رئيسية في تطوير نظريات القنبلة الذريّة الأولى- بريطانيا بهدف إقامة تعاونٍ مشترك بين البلدين في هذا الإطار.
وبالفعل، مع حلول عام 1943، أُنشئت لجنة مشتركة للسياسات الأمريكية مع بريطانيا وكندا أيضاً. فانتقل في العام نفسه عدد من علماء البلدين إلى الولايات المتحدة بهدف الانضمام إلى المشروع.
فكان "مشروع مانهاتن"، الاسم الرمزي للجهود التي قادتها الولايات المتحدة وتعاونت معها كل من بريطانيا وكندا، لتطوير سلاحها النووي الأول خلال الحرب العالمية الثانية، والذي اتّخذ شكله النهائي في صحراء نيو مكسيكو.
لكن مع انتهاء الحرب، بدأت الأسئلة حول مستقبل هذا المشروع المشترك. فجاء قانون الطاقة الذرية الأمريكي الذي صدر لاحقاً في عام 1946 -والمعروف باسم قانون ماكماهون- ليمنع تبادل المعلومات التقنية بين الدول عن الطاقة النووية.
لكن في يناير/كانون الثاني 1947، اتخذ رئيس الوزراء البريطاني آنذاك كليمنت أتلي قراراً تاريخياً بأن تبدأ بريطانيا تطوير قنبلتها النووية المستقلة الخاصة بها.
احتاجت النووي لمواجهة الاتحاد السوفييتي
أصبح امتلاك الأسلحة النووية الشغل الشاغل لبريطانيا، التي دخلت على خطّ الاختبارات النووية الفعليّة في 3 أكتوبر/تشرين الأول 1952، بعد أن لمست سعي الاتحاد السوفييتي للامتلاك سلاحها النووي الخاص.
وكانت الحرب الباردة قد بدأت بالفعل بحلول عام 1952. حينها، عزَّز الاتحاد السوفييتي بقيادة ستالين سيطرته على مساحات كبيرة من شرق ووسط أوروبا، في الوقت الذي انتصر الحزب الشيوعي الصيني خلال الحرب الأهلية الصينية، وكان الصراع لا يزال محتدماً بين الشمال والجنوب في كوريا.
ولأنه لم يكن هناك اتفاق دولي يحظر تصنيع واستخدام الأسلحة النووية بعد، صمّمت بريطانيا على امتلاكها وأصبحت ثالث قوة عالمية -بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي- التي تدخل العصر النووي.
فخلال اجتماعٍ لمجلس الوزراء، شدّد وزير الخارجية البريطاني آنذاك إرنست بيفن على ضرورة امتلاك بريطانيا هذا النوع من السلاح، قائلاً: "علينا امتلاك هذا الشيء.. يجب أن يكون لدينا أنواع بريطانية الصنع يرفرف عليها العلم البريطاني".
بين عامي 1952 و1991، أجرت بريطانيا 45 تجربة نووية، أقامتها في البداية في أستراليا ثم في الولايات المتحدة. ومنذ عام 1958، تمّ تنسيق برنامجها عن كثب مع برنامج الولايات المتحدة من خلال اتفاقية الدفاع المشترك، التي جعلت بريطانيا تقوم بتجاربها النووية بالشراكة مع الولايات المتحدة.
والجدير ذكره أن الولايات المتحدة رفضت في البداية التعاون مع بريطانيا في معظم المسائل النووية، حتى أظهرت بريطانيا قدرتها على صنع أسلحة هيدروجينية.
وبدأت لندن تختبر القنابل النووية الحرارية في عام 1957، فكانت أوّل تجربة ناجحة لقنبلة هيدروجينية في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه. لكن أكبر التجارب الحرارية كانت تجربة Grapple Y، في نوفمبر/تشرين الثاني 1958، والتي أنتجت 3 ميغا طن.
التعاون مع الجارة الأمريكية قبل الوجود النووي الدائم
في عام 1960 قرَّر رئيس الوزراء هارولد ماكميلان شراء برنامج صواريخ Skybolt الذي تصنعه الولايات المتحدة، التي صُمّمت لتُطلق من قاذفات قنابل Vulcan. لكن الولايات المتحدة ألغت البرنامج قبل أن يتسنى لبريطانيا نشره.
فعاد ماكميلان واتفق مع الرئيس الأمريكي جون كينيدي، قبل أيام من عيد الميلاد في عام 1962، على أن تشتري بريطانيا بدلاً من ذلك صواريخ Polaris النووية الأمريكية.
كانت الخطّة أن تُربط الرؤوس الحربية البريطانية بصواريخ Polaris الأمريكية، فتُطلق من الغواصات البريطانية. فمنذ تلك المرحلة وصاعداً أصبحت الغواصات تشكّل مستقبل الردع النووي وليس الطائرات.
بنت بريطانيا 4 غواصات، كل واحدة منها مزوَّدة بما يصل إلى 16 صاروخاً، يحمل كل واحدٍ منها مجموعة متنوعة من الرؤوس الحربية المختلفة. الأمر الذي سمح لبريطانيا بتحقيق وجودٍ نووي دائم، مع وجود عدد من الغواصات المنتشرة في دوريات مستمرة حول العالم، والمستعدّة لشنّ ضربات إذا لزم الأمر.
ومنذ ذلك الحين وحتى القرن الـ21، قوة الردع النووية البريطانية اعتمدت على الغواصات. تطوّرت التقنيات من نظام صواريخ Chevaline المبتكرة في سبعينيات القرن الماضي إلى صواريخ Trident المطوّرة في الثمانينيات.
بعد 30 عاماً.. رفعت سقفها النووي!
في يوليو/تموز 2016 وسّع البرلمان نطاق قوة الردع النووية النووية، من خلال الاستغناء عن غواصات Vanguard لصالح البوارج الحربية Dreadnought.
كما أعلنت بريطانيا في عام 2021 رفع سقف ترسانتها النووية 40%، للمرة الأولى منذ 30 عاماً، وأعلنت ذلك في ختام المراجعة الاستراتيجية للأمن والدفاع والسياسة الخارجية التي قدّمت روسيا -في ظلّ رئاسة فلاديمير بوتين- على أنها "التهديد المباشر الأكثر حدّة لبريطانيا".
وهدفت هذه المراجعة، بحسب رئيس الوزراء بوريس جونسون، "إلى جعل بريطانيا أقوى وأكثر أماناً وازدهاراً".
إحدى الخطوات الرئيسية التي أعلن جونسون عن القيام بها تتمثّل في زيادة السقف الأقصى لمخزون بريطانيا من الرؤوس الحربية النووية من 180 إلى 260، بزيادة تبلغ نحو 45%، لتضع بذلك حداً لعملية نزع السلاح التدريجية التي جرى تنفيذها منذ سقوط الاتحاد السوفييتي قبل 30 عاماً.
اليوم.. تمتلك بريطانيا 4 غواصات نووية، كل واحدة منها مسلّحة بنحو 8 رؤوس حربية نووية، تُنفذ باستمرار دوريات في جميع أنحاء العالم. وتعتزم تشغيل البوارج الحربية في عام 2030، إلى جانب 4 غواصات أخرى هي: Dreadnought ،Valient ،Warspite، وKing George VI.
ويبدو واضحاً أن رغبة إرنست بيفين في أن تمتلك بريطانيا أسلحتها النووية الخاصة التي يرفرف عليها العلم البريطاني لم تتحقق فحسب، بل أصبحت واقعاً ملموساً. الفرق الوحيد بينها وبين غيرها أن بريطانيا لا تأتي على ذكره ولا تهدّد باستخدامه لإظهار قوتها العسكرية.