في 16 يوليو/تموز 1945، عند الخامسة و29 دقيقة فجراً، حقّق مشروع مانهاتن نتائج مذهلة، بعدما تمّ اختبار أوّل قنبلة نووية بنجاح في آلاموغوردو، نيو مكسيكو.
وُضعت خطط إنشاء قنبلة يورانيوم (من ضمنها خطة مشروع مانهاتن) من قبَل الحلفاء في وقتٍ مبكر من العام 1939، عندما التقى الفيزيائي الإيطالي المهاجر إنريكو فيرمي مع مسؤولي وزارة الخارجية الأمريكية في جامعة كولومبيا، لمناقشة استخدام المواد الانشطارية في الأهداف العسكرية.
في العام نفسه، وقّع آلبرت أينشتاين رسالة إلى الرئيس الأمريكي آنذاك فرانكلين روزفلت داعماً النظرية القائلة بأنّ تفاعلاً تسلسلياً نووياً، غير خاضع للرقابة، يمكنه أن يشكّل أساساً لسلاح دمارٍ شامل. وحذّره من خطر تهديد البشرية إذا استطاعت النازية أن تكون الأولى في صنع القنبلة الذريّة.
لاحقاً، في فبراير/شباط 1940، أنشأ روزفلت لجنة استشارية لليورانيوم؛ وهي فريق من العلماء والمسؤولين العسكريين مكلّفين بالبحث عن الدور المحتمل لليورانيوم كسلاح.
وبناءً على نتائجها، منحت الحكومة الفيدرالية ما يُقارب 6 آلاف دولار من أجل البحث الذي أجراه الفيزيائي الإيطالي الأمريكي آنريكو فيرمي وزميله المجري ليو زيلارد في جامعة كولومبيا.
وفي أوائل العام 1942، مع دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية مع دول المحور، ومع الخوف المتزايد من صناعة ألمانيا لقنبلة يورانيوم واستخدامها، اتخذت إدارة الحرب في وزارة الدفاع الأمريكية خطوة أكثر فعالية عبر إزالة القيود المفروضة على موارد مشروع مانهاتن.
"مشروع مانهاتن".. بمساعدة علماء بريطانيين وكنديين
في تلك الفترة، كان الجنرال المهندس ليسلي غروفز، المسؤول المباشر عن إيجاد أكثر العقول عبقرية في العلم، بهدف اكتشاف كيفية تسخير قوة الذرة كوسيلة لإنهاء الحرب بشكلٍ حاسم.
وفي خريف العام 1941، زار هارولد سي أوري- وهو عالم أمريكي حائز على جائزة نوبل للسلام عام 1934 لاكتشافه الشكل الثقيل للهيدروجين، أو الديوتيريوم، وكان شخصية رئيسية في تطوير نظريات القنبلة الذريّة الأولى- زار إنجلترا بهدف إقامة تعاونٍ مشترك بين البلدين في هذا الإطار.
وبالفعل، بحلول العام 1943، أُنشئت لجنة مشتركة للسياسات مع إنجلترا وكندا أيضاً. فانتقل في العام نفسه عدد من علماء البلدين إلى الولايات المتحدة بهدف الانضمام إلى المشروع.
فكان "مشروع مانهاتن"، الاسم الرمزي للجهود التي قادتها الولايات المتحدة وتعاونت معها إنجلترا وكندا، لتطوير سلاحها النووي الأول، والذي اتّخذ شكله النهائي في صحراء نيو مكسيكو.
اعتبرت الحكومة البريطانية الأسلحة النووية اكتشافاً مشتركاَ، لكن قانون الطاقة الذرية الأمريكي الذي صدر لاحقاً في العام 1946 -والمعروف باسم قانون ماكماهون- منع الدول الأخرى، بما فيها إنجلترا، من الحصول على معلومات عن الأسلحة النووية.
في العام 1943، عُيّن عالم الفيزياء النظري الأمريكي من أصل ألماني روبرت أوبنهايمر (وهو أيضاً أستاذ فيزياء في جامعة كاليفورنيا) في إدارة مشروع مانهاتن Y في مختبر لوس ألاموس، إلى جانب فيرمي وعقول مثل الفيزيائي الأمريكي من أصل ألماني هانز بيث، والفيزيائي النظري الهنغاري (أمريكي المولد) إدوارد تيلر.
أُسندت إلى أوبنهايمر مهمّة قيادة فريقٍ مؤلّف من نحو 1500 عالم فيزيائي وكيميائي وعسكري، بهدف إنجاز تصميم أوّل قنبلة ذريّة.
جمع هؤلاء- مع علماء آخرين عملوا على تطوير الهندسة الكهربائية وإنتاج البلوتونيوم وغيرها من المهمّات التقنية- النظرية والتطبيق، ونجحوا في بناء أوّل قنبلة ذريّة قابلة للاشتعال في التاريخ.
وفي صباح 16 يوليو/تموز 1945، أجرت الولايات المتحدة أولى تجاربها النووية التي حملت اسم "ترينيتي" (الثالوث)، وتمّ تفجيرها في صحراء نيو مكسيكو.
وقف العلماء على بعد 10 آلاف ياردة من موقع التفجير، ولاحظوا أنّ سحابة عيش الغراب امتدّت لـ40 ألف قدم في الهواء، وولّدت قوّة تدميريّة تراوحت بين 15 و20 ألف طن من مادة TNT؛ فتبخّر البرج، حيث وُضعت القنبلة عن التفجير.
كانت ألمانيا الهدف الأساسي، لكنّها استسلمت.. على من ستُلقى القنبلة؟
في غضون ذلك، حدّد القادة العسكريون لمشروع مانهاتن هيروشيما في اليابان كهدفٍ مثالي لقنبلة ذريّة. فحقيقة عدم وجود أسرى حرب أمريكيّين في المنطقة، بالإضافة إلى حجم القنبلة، عاملان ساهما في اعتبار هيروشيما مدينة مثالية لإرغام اليابان على الاستسلام في الحرب.
وفي 6 أغسطس/آب 1945، أسقطت قاذفة إينولا جاي قنبلة Little Boy التي لم يكن قد تمّ اختبارها بعد من على ارتفاع 1900 قدم فوق هيروشيما. فتسبّبت بدمارٍ غير مسبوق، على مساحة 5 أميال مربّعة، وموت مئات آلاف المدنيّين.
وبعد 3 أيام، ومع رفض اليابان إعلان استسلامها، ألقت الولايات المتّحدة قنبلتها الثانية Fat Man فوق مدينة ناغازاكي، موقع مصنع لبناء الطوربيد، فدمّرت أكثر من 3 أميال مربّعة من المدينة.
لكن مشروع مانهاتن ليس قصّة انتهت في أغسطس/آب من العام 1945، بعد إلقاء القنبلتين الذريّتين على اليابان. فقد ألقت القدرة النووية بظلالها على العلاقات الدولية آنذاك، واليوم. فإنشاء قوة عابرة للقارات، بإمكانها تدمير الكوكب بلحظات، ساهم بتلوين المخاوف العامة ولعب دوراً أساسياً بالضغط السياسي بين دول العالم.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، شكّلت الولايات المتحدة هيئة الطاقة الذريّة للإشراف على تطبيق التقنيات التي تمّ تطويرها في إطار مشروع مانهاتن في مجالات أخرى. لكن ومع العام 1964، وضع الرئيس الأمريكي ليندون جونسون آنذاك حداً لاحتكار الحكومة الأمريكية للطاقة النووية، من خلال السماح بالملكية الخاصة للمواد النووية.
وبحسب موقع History.com، فإنّ تقنية الانشطار النووي، التي أتقنها مهندسو مشروع مانهاتن، أصبحت منذ ذلك الحين أساس تطوير المفاعلات النووية وابتكارات أخرى، بما في ذلك أنظمة التصوير الطبي والتصوير بالرنين المغنطيسي، والعلاجات الإشعاعية لمختلف أشكال السرطان.
أوبنهايمر اتُّهم بالعمالة للسوفييت
في 21 ديسمبر 1953، شُكّك بولاء أوبنهايمر للولايات المتحدة من خلال رسالة وصلت إلى FBI من المحامي وليام بوردن -الذي كان عضواً في لجنة القنبلة الذرية- ادّعى فيها أنّ أوبنهايمر كان على الأرجح جاسوساً سوفييتياً.
لاحقاً، برّأته اللجنة من تهمة الخيانة لكنها حرمته الوصول إلى مزيد من الأسرار العسكرية، وأُلغي بذلك تعاقده مع وكالة الطاقة الذريّة مستشاراً لها. كما دافع اتحاد العلماء الأمريكيّين عنه، مؤكّدين أنّه ضحية حملة.
بقي أوبنهايمر حتى آخر حياته يدير حلقات بحثٍ نظرية حول الطاقة الذرية ويشجّع العلماء الشباب، وانشغل في إيجاد العلاقة المناسبة بين العلم والمجتمع والأخلاق قبل أن يتوفى جرّاء إصابته بسرطان الحلق في العام 1967.
في كتاب مذكراته Timebends a life، يروي الكاتب المسرحي الأمريكي آرثر ميلر تفاصيل لقاء أجراه مع عالم الذرة الأمريكي روبرت أوبنهايمر أوائل الستينيات، قبل أعوام قليلة من وفاته.
يقول ميلر إنه وجد أوبنهايمر شديد المرارة والحزن، ويائساً من كلّ شيء. ولم يكن ذلك بسبب مرضه، بل لأنّ الرجل لم يتخلّص من الاكتئاب الذي أصابه بعد أن أسقط الأمريكيون سلاحهم النووي الفتاك على مدينتي هيروشيما وناغازاكي.
فأوبنهايمر- كما يروي ميلر- كان يشعر أنه صاحب مسؤولية في ما حدث. وكان يرى أن حالته تستدعي بحثاً معمّقاً حول مسؤولية العالم إزاء النتائج التي يسفر عنها علمه.
بحسب موقع Independent Arabia، فإن أوبنهايمر عُرف منذ طفولته بالذكاء الخارق وتلقى دراساته الجامعية في هارفرد وكامبريدج، ثم في جامعة غوتنغن الألمانية، حيث وضع أطروحة تخرّجه في مجال الفيزياء باللغة الألمانية التي كان يتقنها كإتقانه الإنجليزية.
وفي 1929 حاز مقعد تدريس خاص في جامعة بروكلي، قبل أن ينخرط بالعمل على مشروع مانهاتن.
أوبنهايمر عن أينشتاين: "أعظم من في عصرنا"
كتب أوبنهايمر عن أينشتاين مديحاً طويلاً بعد وفاته، واصفاً إيّاه بأنه كان "فيلسوفاً بالفطرة، أعظم من في عصرنا".
ففي مقالةٍ نُشرت في العام 1966: "على الرغم من أني كنتُ أعرفه طيلة عقدين أو ثلاثة، إلا أننا كنا زملاء مقرّبين وأصدقاء نوعاً ما في العقد الأخير من حياته فقط".
وأشار في المقالة إلى أنّ حقيقة أينشتاين أجمل بكثير من الأساطير التي حيكت عنه، مؤكّداً أنّه في وقتٍ متأخر من حياته وبسبب يأسه من الحروب والأسلحة، عبّر آينشتاين عن تمنّيه في أن يكون سباكاً، لو قدّر له أن يعيش حياةً أخرى.