تتصارع الأحداث في حرب روسيا على أوكرانيا، وتتابع دول العالم التطورات في قلق، لكن زاد القلق مع إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تأهب "قوات الردع النووية" واستخدام أسلحة الدمار الشامل يشير إلى احتمالية قيام حرب نووية، وهو ما لم يحدث منذ ضرب هيروشيما وناجازاكي في الحرب العالمية الثانية.
التلويح باستخدام قوة الردع النووية جاء بعد يوم واحد من إعلان ألمانيا التاريخي تخليها عن سياسة الحياد، وإرسالها أسلحة من ترسانتها العسكرية إلى أوكرانيا، بعد أن كانت لا تسمح بإرسال أي من أسلحتها إلى أي من مناطق النزاع حول العالم، ليهدد بوتين بالسلاح النووي معزياً ذلك بأن "كبار المسؤولين في دول الناتو يسمحون بالتصريحات العدوانية ضد بلاده".
إنشاء "قوة الردع النووي" رغم سياسة "الحد من التسلح"
جعل انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991 من روسيا وريثة الغالبية العظمى من أسلحة الدمار الشامل التي امتلكها الاتحاد السوفييتي، فعلى الرغم من أن روسيا قد خفضت بشكل كبير من ترسانتها من أسلحة الدمار الشامل التي امتلكتها أثناء الحرب الباردة، إلا أن روسيا لا تزال تسيطر إلى اليوم على واحدة من أكبر الترسانات النووية وأكثرها فتكاً في العالم، كما أن تدهور العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة خلال السنوات الماضية تسبب في توقف دبلوماسية "الحد من التسلح" التي التزمت بها الولايات المتحدة وروسيا بعد انتهاء الحرب الباردة.
فخلال الأعوام القليلة السابقة، استطاعت روسيا تحديث قواتها النووية لتستبدل أسلحة الحقبة السوفييتية بأنظمة أحدث، ففي ديسمبر/كانون الأول 2021 ذكر وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو أن الأسلحة والمعدات الحديثة من الترسانة النووية الروسية تشكل الآن 89.1%، وفق ما ذكرته وكالة "تاس" الروسية، بينما قدّر بوتين في خطاب نهاية العام الذي ألقاه عام 2020 أن نسبة التحديث ستكون 88.3% بحلول نهاية عام 2021، أي أن عملية التطوير اجتازت ما توقعه بوتين.
في السنوات السابقة، شددت تصريحات بوتين على حاجة روسيا للسلاح النووي لمواكبة منافسي روسيا، بقوله: "من غير المقبول إطلاقاً أن تقف روسيا مكتوفة الأيدي. إن وتيرة التغيير في جميع المجالات الحاسمة للقوات المسلحة سريعة بشكل غير عادي اليوم، إنها ليست أسرع من سباقات الـ Formula 1، بل إنها تخطت سرعة الصوت".
وفي إطار الصراع الكلامي بين روسيا والولايات المتحدة بخصوص نشر أسلحة الناتو بالقرب من الحدود الروسية، وهي أحد المزاعم التي بدأ بوتين على إثرها هجومه العسكري على أوكرانيا، اتهم بوتين الولايات المتحدة بنشر أنظمة هجومية تستهدف روسيا في دول أوروبا الشرقية، فيما نفى المسؤولون الأمريكيون وقيادات الناتو ذلك.
لكن بوتين أشار إلى خيبة أمله إزاء تدهور نظام الحد من التسلح بين الولايات المتحدة وروسيا، وذكر أن روسيا بحاجة إلى "ضمانات طويلة الأجل، لأن الولايات المتحدة تنسحب بسهولة من جميع المعاهدات الدولية، والتي أصبحت لسبب أو لآخر غير مهمة بالنسبة لها"، وفق وكالة الصحافة الفرنسية (أ ف ب).
ترسانة روسيا النووية
طبقاً لتقرير مفصل حول عتاد الترسانة النووية الروسية من The Bulletin – وهي مجلة معنية بدراسة المخاطر النووية ومقرها بلجيكا – فإن روسيا لديها مخزوناً يقارب 4477 رأساً نووياً مخصصاً للاستخدام بواسطة قاذفات استراتيجية بعيدة المدى، وقوات نووية تكتيكية قصيرة المدى.
أظهر التقرير أن من بين مخزون الرؤوس النووية، نُشر نحو 1588 رأساً نووياً استراتيجياً، منها نحو 812 على صواريخ باليستية أرضية، ونحو 576 على صواريخ باليستية تطلق من الغواصات، وتقريباً 200 في قواعد قاذفات ثقيلة.
كما أن هناك ما يقرب من 977 رأساً نووياً استراتيجياً آخر في المخزن، إلى جانب نحو 1912 رأساً نووياً غير استراتيجي – أي قصير المدى – بالإضافة إلى مخزون من نحو 1500 من الرؤوس النووية القديمة – أي من زمن الاتحاد السوفييتي – ولكنها لا تزال سليمة إلى حد كبير، وهو ما يعني امتلاك روسيا لمخزون إجمالي يُقدر بنحو 5977 رأساً نووياً.
معاهدة "ستارت" الجديدة واستراتيجية زيادة الاحتياطي
في عام 1991 وقع الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية معاهدة "ستارت 1" التي نصت على تقليل نشر الرؤوس النووية والصواريخ البالستية، وجُددت المعاهدة في عام 2010 وعرفت بـ "معاهدة ستارت الجديدة"، ثم مُددت معاهدة ستارت الجديدة مرة ثانية العام الماضي (2021) حتى عام 2026.
وتوفر المعاهدة إمكانية الوصول إلى البيانات حول كل ما يتعلق بالترسانة النووية لكل من الأسلحة النووية الاستراتيجية لروسيا والولايات المتحدة على السواء، وبحسب آخر تحديث للبيانات عن نشر القطع النووية الروسية، كانت روسيا قد وصلت إلى 1458 رأساً نووياً منتشراً – أي في حالة تأهب – في حين يمكن لروسيا تحميل عدة مئات من الرؤوس النووية الإضافية على قاذفاتها، لكن "معاهدة ستارت الجديدة" تمنعها من ذلك.
الإعلان لا يأتي من طرفٍ واحد فقط، بل برقابة من الطرف الآخر، فاعتباراً من يناير/كانون الثاني 2022، أكملت الولايات المتحدة وروسيا 328 عملية تفتيش ميدانية مشتركة، وتبادلا أكثر من 23 ألف إشعار حول ترسانة الدولتين، وذلك طبقاً لمكتب الحد من التسلح والتحقق والامتثال التابع لوزارة الخارجية الأمريكية.
توضح هذه الأرقام أن "ستارت الجديدة" تضع قيوداً حقيقية على القوات الاستراتيجية الروسية المنتشرة، إلا أن نتيجة تلك السياسة المتبعة من قبل الولايات المتحدة مع روسيا أدت إلى زيادة اعتماد روسيا على احتياطي استراتيجي من الرؤوس النووية غير المنتشرة التي يمكن تحميلها على الصواريخ في أي وقت تواجه فيه روسيا أزمة ما، وذلك لزيادة حجم قوة روسيا وردعها النووي إذا ما احتاجت إلى ذلك، وهي استراتيجية مشابهة لتلك التي اعتمدت عليها الولايات المتحدة لعدة عقود سابقة.
كانت تلك الاستراتيجية مدفوعةً برغبة الكرملين القوية في الحفاظ على التكافؤ مع الولايات المتحدة، بجانب اقتناع القيادة الروسية بأن نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي يمثل خطراً حقيقياً على مستقبل روسيا و"قدرتها الانتقامية" في حين اندلاع حرب بينها وبين الولايات المتحدة.
الوضع النووي الروسي: "التصعيد من أجل عدم التصعيد"
في عام 2018، أصدر البنتاغون مذكرة "مراجعة الوضع النووي" التي أوضحت أن موسكو تعتمد على استراتيجية تعمل على "التهديد باستخدام السلاح النووي لحسم أي صراع أو مطالب مقدمة منها للولايات المتحدة أو أي من البلاد الأخرى، ما يشير إلى توقع الروس بأن التهديدات النووية أو الاستخدام الأولي المحدود للأسلحة النووية يمكن أن يشلّ الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وبالتالي ينهي أي صراع قائم بينهم بالنزول على شروط روسيا".
تسمى هذه العقيدة "التصعيد من أجل عدم التصعيد" أو المصطلح الذي استخدمه بوتين منذ أيام والمسمى "الردع النووي"، ويعلق البنتاغون على ذلك بتصريحه أن تلك العقيدة "نابعة من افتراض موسكو الخاطئ للاستسلام الغربي لشروط موسكو تحت التهديد النووي أو استخدامه المحدود"، في الوثيقة سابقة الذكر.
بينما يعلق الرئيس السابق للقيادة الاستراتيجية الأمريكية، الجنرال جون هايتن، على عقيدة "التصعيد لخفض التصعيد" الروسية بقوله: "هذه العقيدة لا تقوم على التصعيد من أجل التهدئة، بل التصعيد للفوز، يحتاج العالم إلى فهم ذلك".
في حين أعرب الخبراء الأمريكيون عن أنه عندما يشير الروس إلى استعدادهم لاستخدام الأسلحة النووية فإن هذا يعني أن يقوم الروس بالاستباق نحو ضربة نووية قبل أن يلحق الخصم بالانتقام من هجوم روسي تقليدي – غير نووي – أو من خلال "اللجوء للتهديد باستخدام التهديد النووي لإحباط معارضة أي عدوان محتمل قد تقوم به روسيا"، وهذا يعني احتمالية استخدام روسيا للأسلحة النووية لإخافة خصومها.
في المقابل، تنفي روسيا هذه التحليلات المعلنة من قبل البنتاغون، وتوضح أن العقيدة الروسية النووية تعتمد على ما أعلنه بوتين في "المبادئ الأساسية لسياسة الدولة بشأن الردع النووي"، والتي تشير إلى أن روسيا "تعتبر الأسلحة النووية وسيلة للردع حصراً، التي تحدد 4 حالات فقط يمكن لروسيا بموجبها استخدام الأسلحة النووية:
- التأكد من إطلاق صواريخ بالستية مهاجمة لأراضي الاتحاد الروسي أو أحد حلفائه.
- استخدام الأسلحة النووية أو أنواع أخرى من أسلحة الدمار الشامل من قبل خصم ضد الاتحاد الروسي أو أحد حلفائه.
- الهجوم من قبل خصم ما على مواقع حكومية أو عسكرية حساسة في الاتحاد الروسي والتي قد تؤدي لتعطيلها، وهو ما يستلزم اللجوء إلى إجراءات رد القوات النووية.
- العدوان على الاتحاد الروسي باستخدام أسلحة تقليدية تهدد الأمن القومي الروسي أو تعرِّض الدولة للخطر المحقق.
بهذا الشأن، علق بوتين مصرحاً بأن "عقيدة أسلحتنا النووية لا تنص على توجيه ضربة استباقية"، بدلاً من ذلك، تابع قائلاً: "يعتمد مفهومنا على ضربة مضادة متبادلة.. وهذا يعني أننا مستعدون، لكن لن نستخدم الأسلحة النووية إلا عندما نعرف على وجه اليقين أن هناك معتدياً محتملاً يهاجم روسيا، وأراضينا".
أوكرانيا غير النووية مقابل روسيا النووية
كانت أوكرانيا تمتلك الأسلحة النووية في الماضي، حيث إن ترسانة الاتحاد السوفييتي كان أغلبها في أوكرانيا، خاصة في منطقة تشيرنوبل الأوكرانية، وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي واستقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفييتي أصبحت كييف تمتلك تلك الأسلحة، إلا أن أوكرانيا تخلت عنها في إطار اتفاق مع روسيا لنزع السلاح النووي في بودابست عام 1994 مقابل ضمانات أمنية، وذلك بتشجيع من الولايات المتحدة، وبذلك سلمت كييف الأسلحة النووية لروسيا وأصبحت أراضيها خالية من الأسلحة النووية.
استمر العمل بتلك المعاهدة حتى عام 2014، وعندما غزت القوات الروسية أوكرانيا وضمت شبه جزيرة القرم، واستولت على مناطق أخرى من شرق أوكرانيا في إقليم دونباس، وهو ما قلب الأوضاع داخل أوكرانيا ضد روسيا، ما أدى للحرب الدائرة الآن، في الوقت الذي لم تلتزم فيه باتفاقية "بودابست"، وأصبحت أوكرانيا بلا سلاح نووي.
يقول الصحفي الأمريكي ومحلل الشؤون الخارجية ماركوس كونالاكيس في Los Angeles Times الأمريكية: "إن تخلي أوكرانيا عن سلاحها النووي في الماضي هو ما عرضها لهذا الاجتياح اليوم.. ومع احتمالية كسب الروس المعركة بالتهديد باستخدام السلاح النووي، يعزز ذلك من انتشار أهمية ذلك السلاح في حسم المعارك في القرن الـ21".
ويُكمل: "من المرجح أن تستنتج إيران وكوريا الشمالية من نزع سلاح كييف أحادي الجانب والمأزق الحالي التي هي فيه في وجه جحافل الجيش الروسي، أنه يجب عليهما بذل جهدهما الكامل في برامج الصواريخ النووية والصاروخية العسكرية، ما يضع عالمنا في مأزق كبير"، لذا يرى كونالاكيس أنه من مصلحة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي أن يفعلوا ما يلزم لتظل أوكرانيا دولة ذات سيادة رغم تخليها عن أسلحة الدمار الشامل.