مِثل العديد من الشخصيات التاريخيّة، يُنظر إلى القائد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف بطرق مختلفة، فبينما يرى الروس أنّه دمّر الاتحاد السوفييتي وكان سبباً في سقوطه، فإنه يحظى بالإعجاب والإشادة من قبل كثيرين في العالم الغربي، بسبب سياستيه الجلاسنوست (الانفتاح) والبريسترويكا (إعادة الإعمار).
فمن هو ميخائيل غورباتشوف؟ وكيف وصل مزارع أوكراني إلى أعلى منصب قيادي في الدولة السوفييتية، ولماذا لا يزال شخصية مثيرة للجدل في روسيا حتى اليوم؟
من هو غورباتشوف؟ وكيف اندمج في الحياة السياسية السوفييتية؟
وُلد ميخائيل غورباتشوف في 2 مارس/آذار 1931، بقرية بريفولنو، قرب ستافروبول في شمال القوقاز، لعائلة من الفلاحين هاجرت من تشيرنيهيف، وهي مدينة في شمال أوكرانيا.
عندما كان مراهقاً، عمل غورباتشوف في قيادة الآلات الزراعية بمحطة محلية للجرارات الآلية، ولا شك في أن تجربة غورباتشوف الزراعية ساعدته في التعرف على مشاكل إنتاج الغذاء التي كانت بوابته إلى دخول الحزب الشيوعي.
في يونيو/حزيران 1941، غزت ألمانيا النازية الاتحاد السوفييتي، فتم تجنيد غورباتشوف في أغسطس/آب بالجيش، وتولى قيادة فرقة هندسية قتالية، وشارك في العديد من المعارك.
دخوله الجيش ساعده على أن يكون أكثر دراية بسيطرة الـKGB (الشرطة السرية الروسية)، وهي المعرفة التي من شأنها أن تخدمه بشكل جيد في حياته المهنية المستقبلية.
في عام 1952، انضم غورباتشوف إلى الحزب الشيوعي وبدأ الدراسة بجامعة موسكو الحكومية، حيث تخرج في قسم القانون عام 1955، كما التقى وتزوج زميلته ريسا تيتورينكو في عام 1953.
مع وفاة رئيس الوزراء السوفييتي جوزيف ستالين في 1953، بدأ الاتحاد السوفييتي يعيش فترة من الاضطرابات السياسية والفكرية التي مهدت الطريق لإعادة هيكلة كبرى للنظام السياسي والإدارة الاقتصادية في الاتحاد السوفييتي، وبالنسبة لنشطاء الحزب الشباب مثل غورباتشوف، كانت هذه فترة من التغييرات والتحديات المثيرة لهم.
بعد تخرجه، عاد غورباتشوف إلى ستافروبول منظماً لحزب كومسومول (رابطة الشباب الشيوعي)، وبدأ حياته المهنية الناجحة مسؤولاً حزبياً وزعيماً إقليمياً.
في عام 1962 تمت ترقيته إلى منصب منظم الحزب للمزارع الجماعية والمزارع الحكومية في منطقة ستافروبول، وسرعان ما تولى مسؤوليات رئيسية للجنة مدينة ستافروبول أيضاً.
في العام 1966، قام زعيم الحزب الشيوعي ليونيد بريجنيف بمكافأة غورباتشوف على قدراته في تولي زمام أمور المزارع في منطقته بتعيينه سكرتيراً أول للمنطقة، وهو ما يعادل رتبة عمدة أو محافظ المدينة، وفقاً لما ذكره موقع Notable Biographies.
تسلَّق سلم الحزب بمساعدة بعض الأصدقاء!
بعد أن أصبح سكرتيراً أول في منطقة ستافروبول، حصل غورباتشوف على تدريب سياسي إضافي، تحرك بعده ليتولى قيادة الحزب الشيوعي من المنطقة بأكملها، قبل أن يتولى في 1970، منصب سكرتير أول للجنة الحزب الإقليمية في ستافروبول.
هذا المنصب الذي يعادل منصب "حاكم" في الولايات المتحدة الأمريكية، أثبت جدارة غورباتشوف وأن بإمكانه الانطلاق أكثر نحو الأعلى، فأصبح عضواً في اللجنة المركزية للحزب.
قبل أن يواصل الصعود نحو السلطة الوطنية التي ساعدته علاقاته في الوصول إليها من خلال رئيس المخابرات السوفييتية آنذاك يوري أندروبوف، وميخائيل سوسلوف الأيديولوجي الرئيسي للحزب.
وفي 1978، تمّ تعيين غورباتشوف سكرتيراً للحزب مسؤولاً عن الإدارة الزراعية في موسكو.
وعلى الرغم من مشاكل الزراعة بالاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت، اكتسب غورباتشوف سمعة طيبة كسياسي نشط، وهو ما أكسبه الشهرة عكس القادة المسنين في الكرملين.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 1980، أصبح غورباتشوف عضواً بالمكتب السياسي الحاكم، وهي المجموعة الصغيرة التي تدير الحزب الشيوعي.
نوع جديد من الزعامة السوفييتية.. حسّن الإنتاجية الاقتصادية فاكتسب شعبية جماهيرية
في العام 1985، تولى غورباتشوف منصب الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي وهو لقب يمنح لرئيس الحزب الشيوعي، فجلب معه روحاً جديدة إلى الكرملين، وهي روح الشباب، إذ كان ينظر إلى غورباتشوف على أنه شاب نشيط متزوج بامرأة جذابة وأنيقة ومتعلمة، وهو ما جعله يمثل جيلاً جديداً من القادة السوفييت والبعيد كل البعد عن سياسة ستالين.
كانت الخطوات الأولى لغورباتشوف في منصبه رئيساً للحزب تهدف إلى تحسين الإنتاجية الاقتصادية، فبدأ بحملة نشطة ضد عدم الكفاءة والهدر، وأشار إلى نيته فصل العمال الكسالى وغير الفعالين في كل مجال من مجالات الحياة السوفييتية، وضمن ذلك الحزب.
بعد فترة وجيزة من توليه السلطة، تحرك غورباتشوف أيضاً لتطوير علاقة أكبر مع المواطنين العاديين، حيث نزل إلى الشوارع في عدة مناسبات؛ لمناقشة آرائهم.
أقام علاقات أفضل مع الولايات المتحدة وخفض من الإنفاق العسكري
كما سعى غورباتشوف أيضاً إلى إقامة علاقات أفضل مع الولايات المتحدة؛ حتى يستطيع تخفيض ميزانية الإنفاق العسكري السوفييتي لصالح السلع الاستهلاكية.
في نوفمبر/تشرين الثاني 1985، التقى الرئيسَ ريغان في جنيف؛ لمناقشة المشاكل الوطنية والدولية، وتم إحراز تقدم ضئيل، لكن الزعيمين اتفقا على عقد اجتماع "قمة" آخر بالولايات المتحدة في عام 1986.
عندما تطورت التوترات الجديدة بين البلدين القويين، اتفق الزعيمان على عقد اجتماع تمهيدي في ريكيافيك بآيسلندا، في 11-12 أكتوبر/تشرين الأول 1986.
أما أوضح العلامات على تحسن العلاقات السوفييتية-الأمريكية فجاءت في عام 1988 عندما ترك غورباتشوف انطباعاً إيجابياً حينما دخل إلى حشد من المتفرجين في مدينة نيويورك لمصافحة الناس، الأمر الذي جعل ريغان يزور موسكو في العام نفسه.
إنهاء احتلال أفغانستان وبدء الصراعات الداخلية وظهور منافس قوي
أجرى غورباتشوف تغييرات سياسية كبيرة داخل الاتحاد السوفييتي، من بينها عندما أجرى في عام 1989 انتخابات أجبرت أعضاء الحزب الشيوعي على التنافس ضد المعارضين الذين لم يكونوا أعضاء بالحزب، وفي وقت لاحق من العام نفسه، أنهى الاحتلال العسكري السوفييتي لأفغانستان.
ومع كل تلك الإصلاحات، تسببت مشكلتان في تزايد صعوبة المهمة أمام غورباتشوف.
أولاً، كانت هناك مشكلة القوميات، حيث كان الاتحاد السوفييتي يتألف مما يقرب من 100 مجموعة عرقية مختلفة، إذ بدأت العديد من هذه المجموعات بالانخراط في حرب مفتوحة ضد بعضها البعض مثل الليتوانيين والأوكرانيين، الذين بدأوا في الدعوة إلى الاستقلال التام.
ثانياً، كان اقتصاد البلاد الذي بدأ يغرق في أزمة، بسبب تراجع الإنتاج الصناعي والزراعي.
وبينما كان غورباتشوف يتصارع مع هذه المشاكل، بدأ منافس قوي في الظهور أمامه وهو بوريس يلتسين الذي كان يُعتبر حليفاً وداعماً رئيسياً للإصلاح الاقتصادي الراديكالي.
وفي مارس/آذار 1990، عُيّنَ غورباتشوف رئيساً للاتحاد السوفييتي الذي كان آخر رئيس له قبل الانحلال.
الجلاسنوست والبريسترويكا
بسبب الاقتصاد المتهاوي الذي كان الاتحاد السوفييتي يعاني منه، بدأ غورباتشوف اتباع سياستي الجلاسنوست (الانفتاح) والبريسترويكا (إعادة الإعمار)؛ لمواجهة تحديات الأمة التي يرى المؤرخون أنها كانت سبباً في سرعة تفكك الاتحاد السوفييتي، وفقاً لما ذكره موقع History التاريخي.
كانت الجلاسنوست، التي بدأت في أواخر الثمانينيات، بمثابة دفع للشفافية في الحكم، فحدت من رقابة الدولة، مما سمح لوسائل الإعلام السوفييتية بنقل الحقائق المؤلمة التي تم التستر عليها منذ فترة طويلة.
مثل حقيقة أن إدمان الكحول ومعدل وفيات الرضع آخذان في الزيادة، وأن مستويات المعيشة في الغرب تفوق تلك الموجودة بالاتحاد السوفييتي، كما سمح للأحزاب غير الشيوعية بالمشاركة في الانتخابات.
أما البيريسترويكا، فكانت عملية إصلاح اقتصادي تهدف إلى "إحياء الاقتصاد" الذي كانت تسيطر عليه الحكومة.
افتتاح أول مطعم لماكدونالدز في الاتحاد السوفييتي!
تضمنت الإصلاحات التجارية إصلاح السوق الحرة، كما سُمح للمواطنين بالبدء في فتح أعمال تجارية خاصة بهم، وسمح للأجانب بدخول البلاد للمشاركة في مشاريع مشتركة.
أبرز الشركات التي تمّ افتتاحها في الاتحاد السوفييتي كان مطعم ماكدونالدز الأمريكي الشهير بموسكو في يناير/كانون الثاني 1990، وهو ما جعل سكان العاصمة يبدون استغرابهم من "الساندويتشات المكونة من 3 طوابق".
السقوط من السلطة
في أغسطس/آب 1991، قامت مجموعة من المحافظين في الحزب الشيوعي بمحاولة القبض على غورباتشوف بينما كان يقضي إجازة في شبه جزيرة القرم وتحركت للاستيلاء على السلطة.
من بين هؤلاء الرجال كان رئيس الوزراء فالنتين بافلوف الذي يعتقد أنه من قاد الانقلاب الذي فشل بمجرد عودة غورباتشوف إلى موسكو.
في 25 ديسمبر/كانون الأول وعشية عيد الميلاد الغربي، صدم الرئيس ميخائيل غورباتشوف العالم عندما أعلن حلّ الاتحاد السوفييتي واستقالته من منصبه، في خطاب وجهه إلى الشعب عبر التلفزيون الرسمي للاتحاد السوفييتي.
وأشار في الخطاب إلى أن مكتب رئيس اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية قد تم إلغاؤه، وأعلن تسليم كافة سلطاته الدستورية وضمنها السلطة على الأسلحة النووية الروسية، إلى الرئيس الروسي بوريس يلتسن، ليكون بذلك آخر رئيس للاتحاد السوفييتي.
هل فعلاً يكره الروس غورباتشوف؟
من وجهة نظر الغرب، يعتبر غورباتشوف شخصية بطولية أنهت الحرب الباردة وجلب الحرية إلى أوروبا الشرقية.
ومع ذلك، في نظر عامة الشعب الروسي، فهو رجل تمكن في غضون 6 سنوات فقط من وضع قوة عظمى على ركبتيها، كما أظهر استطلاع للرأي نشره المركز الروسي لأبحاث الرأي العام VTsIOM، أن غورباتشوف "أكثر شخص مكروه في الحقبة السوفييتية"، وفقاً لواحد من بين كل 5 مشتركين، وهذا يعني أنه أقل شعبية حتى من جوزيف ستالين الذي صنفه واحد من بين كل 10 مشتركين بأنه الأسوأ.
قد يهمك أيضاً: اثنان منهما تزعما الحزب الشيوعي لنحو 30 عاماً.. قادة من أصل أوكراني قادوا الاتحاد السوفييتي