يعتبر الإسلام ثاني أكبر ديانة في الهند بعد الهندوسية، إذ تضم الهند ما يزيد على 172 مليون مسلم، مما يجعلها أكبر دولة تضم سكاناً مسلمين إذا استثنينا الدول ذات الأغلبية المسلمة (مثل إندونيسيا وباكستان).
رغم ذلك، يتعرض مسلمو الهند للاضطهاد وصاروا حالياً ضحايا لأعمال العنف الطائفية.. لكن الأمر لم يكن كذلك دائماً، فقد استطاع المسلمون قبل الاحتلال البريطاني للهند تأسيس مملكةٍ قوية دامَ حكمها قرابة 8 قرون وامتدت في أوجها لتشمل معظم أراضي شبه القارة الهندية، وحكمها رجال جمعوا ما بين الحزم والحكمة، واستطاعوا التعامل بذكاء مع التنوع الديني والطائفي والعرقي في بلد شديد التنوع مثل الهند.
تعالوا نعرفكم على تاريخ الإسلام في الهند، ابتداء من انتشاره عن طريق التجار والدعاة، وانتهاءً بانهيار إمبراطورية المغول المسلمين بسبب الاحتلال البريطاني.
تاريخ المسلمين في الهند.. البدايات دائماً مع التجّار والدعاة
لطالما كانت العلاقات التجارية بين شبه الجزيرة العربية وشبه القارة الهندية قائمة حتى في عصر ما قبل الإسلام، فقد اعتاد التجار العرب زيارة ساحل كونكان-جوجارات وساحل مالابار الذي يربطهم بموانئ جنوب شرقي آسيا.
انتشر الإسلام عبر البحار والمحيطات مع التجار والدعاة الذين راحوا يتحدثون بحماسة عن نبيٍّ يدعو إلى عبادة الله الواحد ولا يفرّق بين عربيٍّ أو أعجمي إلا بالتقوى.ووفقاً لكتاب "تاريخ الهند" للمؤرخَين إليوت وداوسون، فقد رست أول سفينة تحمل عرباً مسلمين على السواحل الهندية عام 630، أي بعد 20 عاماً من بداية الدعوة إلى الإسلام، ومن حينها بدأ الإسلام ينتشر ببطء في الهند.
حلمٌ قاد عبيد الله من المدينة المنورة إلى جزر لكشديب
يُعتَقَد أن الإسلام انتشر على نحو كبير في جزر لكشديب الواقعة إلى الغرب من ساحل مالابار، على يد شيخٍ يدعى عبيد الله، وذلك في عام 661 على الأغلب.
توارث مسلمو المنطقة قصة الشيخ الجليل، وقيل إن عبيد الله الذي يقطن بمكة المكرمة، كان نائماً في المسجد عندما رأى النبي محمد- عليه الصلاة والسلام- يأمره بالذهاب إلى الأراضي البعيدة شرقاً؛ ليبشر الناس بالإسلام، وفقاً لما ورد في موقع U.T. ADMINISTRATION OF LAKSHADWEEP.
وعلى الرغم من عدم معرفة الكثير عن الشيخ عبيد الله فإن قصته لا تزال حية في تلك الجزر الهندية، ويُعتقد أنه توفي ودُفن في جزيرة أندروت بمسجدٍ اسمه "مسجد جمعة".
في وقتنا الحالي 97% من سكان لكشديب مسلمون، ويعتقد أهالي الجزيرة أن الفضل في ذلك يرجع إلى عبيد الله.
يعتقد أن الشيخ عبيد الله قد بدأ دعوته في الهند عام 661، لكن وحتى عام 672 كانت الدعوة إلى الإسلام بشبه القارة الهندية مقتصرةً على جهود التجار والدعاة من أمثال عبيد الله، إلى أن قام ملك السند (باكستان الحالية) بفعلٍ لا يحمد عقباه: لقد اعتدى على تجار مسلمين وسبى نساءهم.
أول جهود إسلامية عسكرية في شبه القارة الهندية
دعونا نتفق أولاً على أن حدود الهند اليوم مختلفة عما كانت عليه مع بداية انتشار الإسلام، وأن المسلمين قد استطاعوا بشكل تدريجي، بسط سيطرتهم على مساحات شاسعة من شبه القارة الهندية التي تتألف من (الهند وباكستان وبنغلاديش وبوتان ونيبال).
وقد كانت البداية من بلاد السند، أو باكستان اليوم، عندما قام الملك راجا داهر بالاعتداء على بعض التجار المسلمين وسبي نسائهم في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك.
جاء الرد قوياً ومباشراً، وسُيِّرت جيوش المسلمين شرقاً بقيادة محمد بن القاسم الثقفي عام 672، والذي تمكن من فتح السند بينما كان لا يزال في السابعة عشرة من عمره.
شكَّل هذا الفتح بداية لمعارك متتالية بين الأمويين والممالك الهندية. استطاع المسلمون على أثرها اقتطاع بعض المساحات من غرب وشمال الهند، لكن أياً من هذه المعارك لم يسفر عن إقامة إمبراطورية مسلمة في الهند، وتوقفت تلك المعارك بطبيعة الأحوال مع بداية العصر العباسي.
محمود الغزنوي.. حجر الأساس لانتشار الإسلام في الهند
لعل الدولة الغزنوية كانت سبّاقة إلى نشر الإسلام في الهند بقيادة محمود الغزنوي، الذي قاد 17 حملة هناك حتى حاز لقب "الإسكندر الثاني".
تأسست الدولة الغزنوية في مدينة غزنة (بأفغانستان الحالية) عام 961، وقد أسسها ألب تكين، وكانت دولة واقعة ضمن نطاق الخلافة العباسية، مثلها مثل العديد من الدول الإسلامية الصغيرة التي انتشرت في آسيا الوسطى، والتي حظيت باستقلال ذاتي وتبعيّة اسمية فقط للخليفة العباسي في بغداد.
أما أعظم سلاطين هذه الدولة فقد كان محمود الغزنوي الذي ضمَّت الدولة في عهده معظم مناطق باكستان وأجزاء من أفغانستان وإيران، والأهم من ذلك أنه بدأ أولى معارك فتح الهند عام 1000 بهدف نشر الإسلام في المنطقة.
تلا تلك المعركة 16 حملة انتشر على أثرها الإسلام في الشمال الهندي، وكانت حجر الأساس لترسيخ حكم إسلامي بالمنطقة امتد 8 قرون بعد ذلك.
لم تصمد الدولة الغزنوية كثيراً بعد وفاة السلطان محمود الغزنوي عام 1030، وسرعان ما انهارت على أيدي الغوريين المسلمين الذين تابعوا بدورهم التوسع في الهند.
قبل أن نكمل قصة انتشار الإسلام في الهند، اسمحوا لنا بأن نعطيكم لمحة سريعة عن الغوريين: ينحدر الغوريون من إحدى القبائل الأفغانية التي دخلت الإسلام في القرن العاشر الميلادي، وكانوا قد وضعوا أنفسهم تحت خدمة الدولة الغزنوية لكنهم استطاعوا تأسيس دولتهم الخاصة والقضاء على آخر سلاطنة الغزنويين، بعد ذلك كانت الهند وجهتهم.
وبالفعل اقتحمت جيوش الغوريين الإسلامية سهول الهند الشمالية، وتمكنوا من السيطرة على مساحات واسعة وإنشاء مملكتهم الخاصة هناك.
وكان أشهر ملوك الغوريين شهاب الدين محمد الغوري الذي انتهت الدولة بوفاته أيضاً، مع ذلك فقد أسس الغوريون لإنشاء سلطنة دلهي التي أرست دعائمها عام 1206، وتوالى على حكمها العديد من السلالات، كان أولاها المماليك (لكنها دولة غير دولة المماليك التي كانت في مصر والشام).
كان قطب الدين أيبك أحد أبرز قادة شهاب الدين الغوري، لكن وبعد أفول الدولة الغورية، تمكَّن أيبك من تأسيس الدولة المملوكية في الهند، واتخذت سلطنته اسم "سلطنة دلهي" التي حكمها المماليك قرابة 90 عاماً.
انتهاء حكم المماليك لم يكن يعني انتهاء الحكم الإسلامي في سلطنة دلهي، فقد تتالت على حكم السلطنة سلالات أخرى، كانت أولاها السلالة الخلجية التي بدأت عام 1290، لتستمر 31 عاماً ثم تسقط، لتحل مكانها الدولة التغلقيّة التي صمدت في حكم سلطنة دلهي قرابة قرن كامل، وقد حكم التغلقيون أغلب مساحة الهند الحالية، إضافةً إلى البلاد المجاورة، وضمن ذلك أفغانستان وباكستان الحاليتان.
مع نهاية الدولة التغلقية بدأت الاضطرابات في الهند التي لم تعد تخضع لسلطانٍ واحد، وكانت آخر سلالة حكمت سلطنة دلهي هي سلالة اللودهيون الذين استمروا في الحكم ما بين 1451 و1526 إلى أن سقطت دولتهم على يد القائد الاستثنائي ظهير الدين بابر مؤسس الدولة المغولية في الهند.
وهكذا أفل نجم سلطنة دلهي الذي سطع طوال 320 عاماً، جمعت المنطقة خلالها توليفة فريدة من الحضارتين الهندية والإسلامية، وازدهر في الهند خلالها فن العمارة الإسلامي، وتطور الاقتصاد في المنطقة، وزادت معدلات نمو السكان، كما ظهرت اللغة الهندوستانية كذلك.
قمَّة القوة والازدهار: إمبراطورية مغول الهند المسلمين
مرة أخرى، انهيار سلطنة دلهي لم يكن سوى قيامة جديدة لإمبراطورية إسلامية أكبر وأوسع هذه المرّة. كانت هذه المرة الإمبراطورية المغولية التي حكمت الهند قرابة 300 عام، وأسسها ظهير الدين بابر الذي ينحدر من مدينة فرغانة في أوزبكستان الحالية.
المفارقة أن ظهير الدين بابر الذي أسس أقوى الممالك الإسلامية في الهند وآخرها، كان من نسل جنكيز خان، المغولي الذي دمّر أحفاده عاصمة الخلافة العباسية بغداد وأجزاء كبيرة من العالم الإسلامي، وقد استطاع بابر أن يرفع راية الإسلام في معظم الأراضي الهندية، إضافة إلى أفغانستان وأطرافها.
بدأت انتصارات بابر عام 1526 عندما واجه بابر، سلطانَ دلهي آنذاك إبراهيم اللودهي، ويقال إنه على الرغم من أن عدد جنود بابر كان 12 ألفاً فقط وأن عدد جنود إبراهيم اللودهي بلغ 100 ألف، فإن الأسلحة المتطورة وحسن التخطيط جعلا النصر حليف بابر في معركة "بانيبات".
ولا تكمن عظمة بابر في كونه قائداً عسكرياً فذاً فحسب، بل كذلك بكونه رجلاً حكيماً استطاع استيعاب التنوع الثقافي والديني في الهند التي تحتوي على عدد هائل من الديانات والأعراق واللغات، وكانت وصية بابر لابنه هي عدم الانسياق وراء الخلافات الطائفية والعرقية في الهند، ليحافظ على وحدة الدولة. ويبدو أن هذه هي الوصفة الرئيسية للحكم في الهند، عكس ما هو موجود الآن.
بعد وفاة ظهير الدين بابر عام 1530، تتالى على حكم إمبراطورية المغول الإسلامية في الهند عدد من القادة العظماء، لكن واحداً منهم كان جديراً بالمقارنة بجده ظهير الدين بابر.. عن جلال الدين محمد أكبر نتحدث.
السلطان الأشهر: جلال الدين أكبر
بعد وفاة ظهير الدين بابر لم يستطع ابنه همايون البالغ من العمر 22 عاماً، السيطرة على زمام الأمور في البداية، فقد ساد عهده الاضطرابات، بسبب محاولة إخوته الانقلاب عليه، لكنَّه تمكَّن في نهاية المطاف من توحيد دولته وإعادة الأمور إلى طبيعتها قبل وفاته عام 1556.
خلف همايون، ابنُه البالغ من العمر 13 عاماً، جلال الدين أكبر، ونظراً إلى صغر سنِّه لم يتوقع أحدٌ أنه سيصبح واحداً من أعظم القادة المسلمين الذين عرفتهم الهند.
امتد حكم جلال الدين أكبر على مدار خمسة عقود (من 1556 وحتى 1605)، مدَّ سلطانه خلالها على أغلب أنحاء شبه القارة الهندية، فاتسعت رقعة دولته بشكل هائل لتشمل منطقة غوجارات، والبنغال، وإقليم كشمير، والسند (باكستان)، وقندهار (في أفغانستان) وتحرّكت قواته جنوباً نحو سلسلة جبال فنديا نحو هضبة الدكن، لتُضاف أيضاً إلى الإمبراطورية المغولية كل من خانديش وبيرار وقطعة من أحمد نجار، وفق ما ذكره موقع الموسوعة البريطانية Britannica.
وإلى جانب توسعاته العسكرية، ازدهرت الدولة في عهد "أكبر" الذي استوعب تنوُّع الهند الثقافي والديني واستطاع أن ينشئ صلحاً بين الأعراق والأديان المختلفة.
فيما عدا "أكبر"، هناك العديد من الأباطرة المسلمين المميزين الذين حكموا الهند، نذكر منهم شاه جيهان الذي شهدت الهند في عهده نهضة معمارية استثنائية نستطيع رؤية آثارها إلى اليوم في تاج محل والحصن الأحمر والمسجد الجامع في دلهي.
لكن عظمة المغول المسلمين لم تستمر في الهند إلى الأبد، فلطالما كانت المنطقة مطمعاً للأوروبيين الذين بذلوا جهدهم للسيطرة عليها.
عهد الاستعمار.. البنغال هي البداية والتفرقة هي كلمة السر
مع بداية القرن الثامن عشر عاش في الهند نحو 180 مليون شخص شكَّلوا قرابة خُمس سكان العالم، لكن كانت التفرقة تسود هذه القوة البشرية الهائلة، فقد تحدَّث هؤلاء مئتي لغة بـ500 لهجة، وسادت الهند انقسامات أدت إلى ضعف الإمبراطورية المغولية وقادت إلى دمار البلد السياسي في نهاية الأمر، فقد قَسَّمت الدولة إلى دويلات متصارعة انقسم كثير منها داخلياً بحواجز دينية وعرقية وطائفية ولغوية.
مع ذلك كانت الهند عظيمة الثراء، وبمواردها الضخمة وحالة الضعف والانقسام التي تعيشها شكَّلت بيئة خصبة بلا شك للمستعمرين.
لم يكن على البريطانيين الطامعين في الهند الدخول إلى أراضيها بأعدادٍ ضخمة، كان يكفي أن يستخدموا السكان المحليين ويدفعوهم لقتال بعضهم البعض.
كانت البداية شركة تجارية تدعى (شركة الهند الشرقية البريطانية)، دخلت إلى الهند لتنافس نظيراتها الهولندية والفرنسية على احتكار التجارة مع الهند، في البداية كانت الشركة تستأجر السكان المحليين لحراسة محطات تجارتهم وليس لاحتلال الأرض، لكن تطور الأمر فيما بعد وبدأ البريطانيون بتجنيد الهنود بهدف دفعهم إلى قتال بعضهم بعضاً وتحقيق المكاسب من وراء ذلك.
وفي عام 1757 جمع الكولونيل البريطاني روبرت كلايف ألف أوروبي ونحو ثلاثة آلاف هندي؛ للمشاركة في معركة بلاسي التي تهدف إلى سيطرة شركة الهند الشرقية البريطانية على البنغال، وبالفعل حقق كلايف نصراً ساحقاً على البنغال وحلفائهم الفرنسيين.
بفضل هذا النصر بسطت الشركة البريطانية سيطرتها على البنغال، وتحولت إلى قوة استعمارية ما لبثت أن تضخمت إلى حدٍّ هائل، فبحلول عام 1820 كان لديها أحد أكبر الجيوش في العالم: نحو 350 ألف رجل، جميعهم تقريباً من الهنود!
بمعنى آخر لم تتكلّف بريطانيا كثيراً من القوات البشرية لاحتلال الهند، بل استخدمت الهنود أنفسهم لفعل ذلك. وخلال مئة عام بعد معركة بلاسي، كان البريطانيون قد سيطروا على شبه القارة الهندية بالكامل وعلى ميانمار وعلى أفغانستان لفترة وجيزة.
فتيل الثورة.. المسلمون يحاولون طرد المستعمر
عمل البريطانيون على تعزيز التفرقة بين الهنود سواء من الناحية الطبقية أو الدينية، وكانوا يعاملون الهنود على أنهم بالكاد من البشر.
عاش البريطانيون في مدن منعزلة وكانوا يترفعون عن ارتداء اللباس الهندي أو تناول الطعام الهندي، وكان على الهنود حتى المنتمين إلى طبقات نبيلة أن يخضعوا لقوانين مُذلة عند التعامل مع البريطانيين، فكان عليهم المجيء سيراً على الأقدام في حال أرادوا مقابلة مسؤول بريطاني، ويُمنَعُون من ركوب الخيل أو العربات، كما كانوا يُمنعون من الجلوس على كرسي في قاعة تضم أشخاصاً بريطانيين، وكان يشار إلى جميع الهنود بأنهم "السود".
نهب ثروات البلاد بشكل وقح، وتجنيد الهنود لقتل بعضهم بعضاً ومعاملتهم بازدراء شديد، لم تكن هذه فقط أسباب الثورة الهندية التي اندلعت عام 1857.
فقد استخدم البريطانيون الجنود الهنود في حرب أفغانستان عام 1842، وكانت النتيجة خسارة فادحة أدت إلى تذمُّر الجنود الهنود، كذلك فقد خرق البريطانيون قواعد استخدام جنود من السكان الأصليين، إذ لم يجد الهنود مشكلة في استخدامهم لقتال هنود آخرين من ديانة مختلفة، لكن استخدامهم لقتل هنود ينتمون إلى ديانتهم نفسها شكَّل مشكلةً كبيرة بالنسبة لهم.
ففي عام 1824 استخدم البريطانيون الهنود الهندوس لقتل بعضهم بعضاً، وفي عام 1857 حدث ذلك مع المسلمين أيضاً.
دهن الخنزير الرجس والأبقار المقدسة
في عام 1857 أُدخِلَت بعض التغييرات التقنية إلى الجيش الهندي الذي يقوده البريطانيون، فقد قرر المستعمرون استخدام بندقية جديدة في المعارك يطلق عليها اسم "الانفيلد" والتي تحتاج للتلقيم من الخلف وتطلق النار أسرع بكثير ولها مدى رمي أبعد من البنادق السابقة.
ولمنع الصدأ والاهتراء في مناخ الهند الرطب، تمت تغطية طلقات البندقية بالدهن، وكان على الجنود قضم رأس الرصاصة قبل تلقيمها.
وكان الجنود المسلمون يخشون أن يكون الدهن المستخدم هو دهن الخنزير المُحرّم في الإسلام، فيما يخشى الهندوس أن يكون الدهن من الأبقار، التي هي مقدسة بالنسبة لهم.
لم يراعِ البريطانيون هذه الحساسية الدينية ولم يقوموا بشرح الهدف من دهن الخنزير، إذ يمنعهم ترفُّعهم وعنصريتهم عن ذلك.
كان الجنود المسلمون منهم والهندوس قد سئموا من الإهانات والذل الذي حملوه على مدار السنوات الفائتة، وكانت بندقية الانفيلد الشعرة التي قصمت ظهر البعير.
رفض العديد من الجنود تنفيذ الأوامر بتلقيم البندقية الجديدة، وكان ذلك يعتبر خيانة وتمرداً عُوقبوا عليه بتجريدهم من ثيابهم العسكرية وإعادتهم إلى منازلهم بلا نقود، لكن القادة البريطانيين وجدوا أن هذه العقوبة لم تكن كافية، وقدروا أنهم على مفترق طرق سيحدد فيما إذا كانت الهند ستبقى مستعمرة بريطانية أم لا.
"المتوحشون الجبناء" يواجهون "الأوروبيين البيض"
جمع البريطانيون 85 رجلاً اعتبروهم قادة التمرد، في صباح يوم التاسع من مايو/أيار عام 1857، وذلك في ساحة للاستعراضات العسكرية، حيث تم تجهيز الكتائب الأوروبية بمدفعيتها وبنادقها لصدِّ أي تمرد محتمل.
جُلب الجنود الـ85 إلى المقدمة وهم لا يزالون يرتدون بدلاتهم الرسمية، كان من بين هؤلاء رجال من أفضل جنود الجيش ممن خدموا الحكومة البريطانية في أوقات عصيبة وأماكن غريبة ولم يترددوا في إظهار ولائهم قط.
تمت قراءة الحكم بصوتٍ مرتفع، وصنّف الجنود الـ85 على أنهم خونة ومجرمون، وحُكم عليهم بالسجن لسنوات طويلة أقلّها 10 سنوات، وجُرِّدوا من ملابسهم العسكرية، وتم تقييدهم بالأصفاد.
كان لسان حال بقية الجنود يقول: إذا كان الرجال الذين لم يترددوا في إظهار الولاء للبريطانيين تعرضوا لكل تلك الإهانة وحُكموا بالسجن وحُرموا من رواتبهم التي كانت تعيل أسرهم، فقط لأنهم رفضوا مخالفة أحكام دينهم، فماذا سيحل بالبقية؟
لم يتصور البريطانيون أن هؤلاء "المتوحشين الجبناء" سيتصرّفون كرجال حقيقيين "مثل الأوروبيين البيض"، كما ورد في مذكرات كتبها جنرالات بريطانيون، لكن حدث عكس المتوقع تماماً.
فقد هجم الهنود على السجن وحرروا زملاءهم، وقتلوا عدداً من الضباط الإنجليز وعائلاتهم، لكن ثورتهم تلك كانت عشوائية ومن الواضح أنهم لم يفكروا جيداً في الخطوة التالية، فقرروا التوجه إلى بهادر شاه الثاني آخر أباطرة المغول المسلمين، القابع في قصره بلا أي سلطة، ليكون قائداً لهم.
وريث ظهير الدين بابر الأخير يريد الموت بسلام
كان الإمبراطور المغولي بهادر شاه الثاني رجلاً مُسناً فوق الثمانين من العمر، احتفظ به البريطانيون سجيناً داخل الحصن الأحمر في دلهي، وعندما وصل الثوار كان الشيخ مذعوراً وطلب منهم أن يتركوه يموت بسلام.
خاب ظن الثوار بحفيد ظهير الدين بابر، ولم يكن أمامهم من خيار سوى المحاربة ببسالة في معارك صغيرة، إلا أن الهزيمة كانت تنتظرهم، بسبب ضعف خبراتهم العسكرية وعدم وجود قائد واحد لهم، وعدم امتلاكهم المدافع التي امتلكها البريطانيون والتي كانت بمثابة سلاح دمار شامل في ذلك الوقت.ومن الغريب أن الهنود لم يتَّحدوا بعد اشتعال شرارة الثورة، فقد فشل الثوار المسلمون في كسب ولاء بقية الطوائف الأخرى، بل سارع الهنود من مدراس وبومباي والسيخ إلى مساعدة البريطانيين الذين ساعدتهم الخلافات المحلية والطائفية في الهند على الانتصار ثانية، كما ورد في كتاب "الصليبية والجهاد" لمؤلفه المؤرخ الأمريكي ويليام بولك.
الانتقام البريطاني الوحشي
ازدات كراهية البريطانيين لـ"الأهالي السود"، خاصة بعد أن قتلوا الضباط الإنجليز، وطالبوا بسلخ السجناء الهنود وهم أحياء، لكن استقر الرأي في نهاية الأمر على إعدام السجناء بربطهم على فوهات المدافع ونسفهم؛ ليتحولوا إلى أشلاء تطايرت في الهواء، على مرأى من الهنود الآخرين.
فيما قُتل عشرات أو مئات آلاف الأشخاص الآخرين شنقاً أو رمياً بالرصاص، ولم يستطع أحدٌ إحصاء عدد الهنود القتلى على وجه التحديد.
وأحرقت مدن بأكملها حتى لو لم يكن لسكانها أي علاقة بالثورة، باختصار: أصبحت الهند ساحة للتعذيب والقتل العشوائي والهمجي بعد قمع التمرد.
أما السلطان المغولي المسنُّ فلم يَسلم كذلك من البطش البريطاني، إذ تم إعدام جميع أولاده الذين يعتبرون آخر ورثة الإمبراطورية المغولية، فيما نُفِي الإمبراطور عن الهند ولم تتحقق أمنيته بالموت في "سلام"، فقد عاش 5 سنوات إضافية مع صور أولاده الموتى في ذاكرته حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
ضمُّ الهند إلى الإمبراطورية البريطانية
من الناحية التاريخية، كانت أبرز تداعيات الثورة هي ضم الهند إلى الإمبراطورية البريطانية بشكل رسمي، حيث أصبحت الملكة فيكتوريا إمبراطورة الهند.
وفي ظل الوضع الجديد تم استبعاد أغلب المسلمين من الجيش البريطاني الهندي الذي أعيد تشكيله، ومن الواضح أنه منذ هذه اللحظة سيصبح المسلمون مستبعدين من نواحٍ أخرى كثيرة بعد انقضاء 8 قرون على حكمهم في شبه القارة الهندية.