عرف التاريخ الإسلامي الكثير من الوزراء والمسؤولين من ذوي الديانات الأخرى. لكنّ أحد أشهر هذه الشخصيات على الإطلاق، الوزير اليهودي المسلم يعقوب بن كلس الذي أصبح الرجل الثاني بعد الخليفة الفاطمي في مصر. ورغم أنّ تواجده الرسميّ في مصر برز أيام الدولة الإخشيدية، فإنّ سلطته الحقيقية المطلقة بدأت في بدايات الدولة الفاطميّة.
هل كان يعقوب بن كلس من نسل النبي هارون حقاً؟ جدل حول نسبه
أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن إبراهيم بن هارون بن داود بن كلس، تجمع أغلب المصادر التاريخية على أنه وُلد عام 930 ميلادياً في بغداد ونشأ فيها لعائلة يهودية تزعم أنها من نسل النبي هارون بن عمران عليه السلام، كما قيل إنه كان يزعم أنه من نسل "السموأل بن عاديا اليهودي" صاحب الحصن المعروف بالأبلق، الذي كانت له قصة عرفت مع الشاعر امرئ القيس وأصبح رمزاً للوفاء، وفقاً لما ذكره ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان".
اختلف المؤرخون في وصفه بين المدح والذم، فقد قال عنه الأنطاكي في كتابه "تاريخ الأنطاكي" أنه كان رجلاً جيد العقل حسن السياسة كبير الهمة خبيراً بتدبير المملكة، وكان يهودياً في أول أمره متصرفاً حديثه مع بعض التجار. فيما وصفه ابن القلانسي في كتاب "تاريخ دمشق" ابن كلس كان يهودياً خبيثاً ذا مكر وحيلة ودهاء وذكاء وفطنة.
فيما يرى شمس الدين الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء" أن ابن كلس كان داهية، ماكراً، فطناً، سائساً، من رجال العالم، عالي الهمة، عظيم الهيبة، حسن المداراة.
ولكن ما اتفق عليه الجميع، هو أن ابن كلس كان يتسم بالذكاء منذ طفولته، فتعلّم الكتابة والحساب، ثم سافر مع والده من بغداد إلى الشام وعمل سمساراً في مدينة الرملة بفلسطين، ولكنه تعرَّض لأزمة مالية اضطرته للفرار إلى مصر العام 942 ميلادياً، لتبدأ رحلته في عالم السياسة.
وعن هذه الحادثة، يقول ابن القلانسي في كتابه "تاريخ دمشق"، إنه عندما خرج إلى الشام أصبح وكيلاً للتجار في الرملة، فلما اجتمعت الأموال التي للتجار كسرها وهرب إلى مصر. في أيام كافور الإخشيدي حاكم مصر، حاملاً إليه الكثير من الهدايا والأموال.
إعلان الإسلام لأجل الوزارة.. البداية في الدولة الإخشيدية
بعد وصول ابن كلس إلى مصر، أراد أن يصل بطريقة أو بأخرى إلى حاكم مصر حينها كافور الإخشيدي، ليعمل ضمن حاشيته. وهنا يخبرنا المؤرّخ ابن القلانسي أن الشاب اليهودي، حمل للإخشيدي الكثير من الأموال والهدايا التي جمعها من تجار الشام، تجهيزاً لخطته المدروسة.
فقد خصص جزءاً من ماله لنشاطه التجاري في مصر، وأوكل لنفسه مهمة معرفة ما يحدث في أرجاء مصر، يجمع أخباراً ومعلومات عن غلتها وأسعارها وظاهر أمرها وباطنها، حتى ذاع صيته بسبب المهارات التي يمتلكها في علوم الحساب والاقتصاد، وأوصلته شهرته إلى الإخشيدي.
ويرى ابن القلانسي أنه لما بلغ خبر ابن كلس لبلاط الحكم أعجب به الإخشيدي وقال: لو كان هذا (ابن كلس) مسلماً، لصلح أن يكون وزيراً. فبلغه ما قال كافور فطمع في الوزارة فدخل جامع مصر في يوم الجمعة وقال: أنا أسلم على يد كافور.
فعيّنه كافور لعمارة قصره، ثم صار ملازماً لباب داره، ووفقاً لابن خلكان، رأى كافور من نجابته وشهامته وصيانته ونزاهته وحسن إدراكه ما جعله يستخدمه. فأمر بإحضاره وأجلسه في ديوانه الخاص، وكان يقف بين يديه ويخدم ويستوفي الأعمال والحسابات، ويدخل يده في كل شيء، حتى ظلت أحواله تترقى داخل الدولة.
كما صار الحجاب والأشراف يتوددون له ويكرمونه، فيما لم يكن ابن كلس يسعى لاكتساب المال، حتى من كافور نفسه. وبلغت سلطته في عهد كافور أنّه أمر سائر الدواوين أن لا يَخرج دينار ولا درهم من خزينة الدولة لأي سبب من الأسباب إلا بتوقيع يعقوب بن كلس، الأمر الذي أثار حفيظة واستغراب العديد من رجال الدولة، من هذا النفوذ والسلطة لشخصٍ من أصلٍ يهوديّ، أسلم طمعاً في الوزارة.
أمَّا عن إسلام ابن كلس، فكان لابن خلكان رواية أخرى، إذ يقول إنه أسلم عام 967 ميلادياً، أي بعد حوالي 20 عاماً من الرواية الأولى التي ذكرها ابن القلانسي، كما أنه أكد أنه لزم الصلاة ودراسة القرآن الكريم، وأصبح ملازماً لشيخٍ يعلمه القرآن وتعاليم الإسلام، وبقي موثوقاً يحظى على مكانةٍ مرموقة حتى وفاة الإخشيدي العام 968 ميلادياً.
بطبيعة الحال، كان لابن كلس أعداء داخل الدولة، أبرزهم وزير كافور أبو الفضل جعفر بن الفرات "ابن حنزابة"، الذي كانت له قوة ونفوذ في الدولة الإخشيدية.
يعقوب بن كلّس يساعد الدولة الفاطمية في دخول مصر
بعد وفاة كافور مباشرة، انتقل عرش مصر إلى أحد أحفاد الإخشيد الأول محمد بن طغج الذي كان ما زال طفلاً، فأراد بعض وزراء وأمراء مصر وعلى رأسهم جعفر بن الفرات، السيطرة على زمام الأمور، عبر إقصاء المنافسين أولاً، ومنهم بالطبع رجل كافور القوي يعقوب بن كلس.
أمر ابن الفرات بالقبض على منافسيه من الأعوان وأصحاب الدواوين، وقبض على ابن كلس معهم، حتى استطاع يعقوب الحصول على قرار الإفراج عن طريق دفع مبلغ كبير من المال، ثم اقترض مبلغاً آخر من أخيه ورفاقه، ليفر هارباً صوب بلاد المغرب.
وفي طريقه، قصد يهوداً كانوا في المغرب مع أبي تميم، المعز لدين الله الفاطمي، الذي كان على حالة عداء مع العباسيين والإخشيديين، وكان يتحيَّن الفرص للانقضاض على مصر عدة مرات، وكان لابن كلس بعد ذلك دور تاريخي بارز لتكليل محاولاته بالنجاح.
فبعد وصوله إلى مقصده في بلاد المغرب، التقى بالمعز وأخبره عن جميع أسرار وأحوال مصر السياسية والاقتصادية والعسكرية، وأقنعه بترتيب حملة نجاحها مضمون، قادها القائد الفاطمي الشهير جوهر الصقلي.
وبالفعل زحف الفاطميون إلى مصر، التي كانت قد دخلت تلك الفترة في حالة من الضعف وعدم الاستقرار، فكانت فرصة ذهبية للسيطرة عليها بكل سهولة، ومنها يمكن للفاطميين أن ينافسوا الخليفة العباسيّ في بغداد، حتى دخلها الصقلي بالفعل العام 969 ميلادياً، وثبّت أركان الدولة لخليفته الفاطميّ المعزّ لدين الله، الذي كان لا يزال في شمال إفريقيا.
وما إن استتبّ له الأمر حتّى بنى عاصمةً له لتكون مقرّه عندما يأتي إليها، فبنى مدينة القاهرة، وأثناء بنائها بدأ في بناء جامعٍ كبير يكون هو الجامع المركزيّ فيها، الذي تُخطب فيه الجمعة، ويُصلِّي فيه الخليفة، وهو جامع الأزهر.
"الوزير الأجل".. قوة لا تضاهى في الدولة الفاطمية
كان المعز قد ضم لحاشيته يعقوب بن كلس، الذي قربه إليه وسار معه إلى مصر، وهناك أُوكل إليه مهام الخدم الديوانية وإصلاح منظومات جباية الضرائب، وقد أدى هذه المهام على أكمل وجه حتى عينه وزيره، إلى أن توفي المعز العام 975 ميلادياً.
وعن هذه الترقية، قال ابن زولاق في تاريخه، إن يعقوب بن كلس هو أول من وزر للدولة الفاطمية في الديار المصرية. أي أنّه كان أوّل وزير في العهد الفاطمي الذي سيمتدّ عبر قرنين ونصف القرن.
بعد وفاة المعز، تولى ابنه العزيز الذي كان يثق بابن كلس ثقةً كبيرة. وكانت منزلة ابن كلس عنده عظيمة، وقد عينه وزيراً وقدّمه على غيره من رجال الدولة.
فيما يصف ابن خلكان أن الدنيا أقبلت على يعقوب، وانثال الناس عليه ولازموا بابه، كما قال إنه مهد قواعد الدولة وساس أمورها أحسن سياسة، ولم يبق لأحد معه كلام.
وفي ذلك الزمان كانت صلاحيات ابن كلس غير مسبوقة لوزير مثله، فقد كان بمثابة الرجل الثاني في الدولة بعد الخليفة الفاطمي العزيز بالله، لما يمتلكه من صلاحيات واسعة، فضلاً عن اكتسابه شعبيةً كبيرة بين الناس مشتهراً بحب العلم والعلماء، كما أنه بلغ من الثراء نصيباً كبيراً، وانهال عليه الشعراء بالمديح، حتى لقبه العزيز بـ"الوزير الأجل".
وعلى الرغم من مكانة ابن كلس عند العزيز، فإن العلاقة ساءت بينهما لبعض الوقت، وقد اختلفت المصادر في تحديد السبب، أولها أنه أساء في أحد مجالسه للعزيز والمعز، الثانية أنه قتل خَادِمه، الثالثة بسبب حقد وتحريض بعض رجال الدولة ضده.
وعلى أثر ذلك أمر العزيز بعَزلِهِ وحبسه لفترة قصيرة العام 983 ميلادياً، لكن ما لبث أن أعيدَ إليه اعتباره، واستعاد مكانته وثقته عنده كما كانت، بل وأكثر.
حزن في أرجاء الدولة الفاطميّة على وفاته
كانت حياة الوزير مثيرة للجدل فعلاً، لمن عاصروه ولمن أرخوا سيرته، وكان أبرز عناوين الإثارة بالنسبة لهم، هو حقيقة صحة إسلامه من عدمها، وحقيقة تواصله مع أقربائه اليهود حتى آخر أيامه، وكيفية صعوده وتأثيره بطريقة لا يمكن إنكارها على كافور الإخشيدي، ومن حكموا البلاد من بعده.
وقد توفي الرجل عام 991 ميلادياً، ويصف لنا الأنطاكي مدى حزن الخليفة الفاطمي العزيز على وفاة وزيره الذي توجه فور سماعه الخبر إلى داره بعد موته وصلَّى عليه، وكشف عن وجهه وبكى عليه بكاء شديداً وحزن على موته حزناً عظيماً.
فيما يقول ابن خلكان إن العزيز أمر بتكفين يعقوب بن كلس بخمسين ثوباً، واجتمع الناس كلهم من القصر إلى داره. وخرج العزيز وعليه الحزن ظاهر، وركب بغلته بغير مظلة، وكانت عادته أنه لا يركب إلا بها، وصلى عليه وبكى، وحضر مواراته التراب.
ويقال إنه كُفِّن وحنط بما مبلغه عشرة آلاف دينار، وذكر من سمع العزيز وهو يقول: واطول أسفي عليك يا وزير، وبكى عليه القائد جوهر الصقلي بكاءً شديداً.
أما عن ثروته الضخمة، فقد نقل لنا الذهبي أنه كان يتقاضى سنوياً مئتي ألف دينار، ولما مات وجد له من المماليك، والجند والخدم، أربعة آلاف مملوك، وبعضهم أمراء، وقيل إنه تركَ من الذهب والجوهر والمتاع ما لا يوصف كثرة، ولا ريب أن ملك مصر في ذاك العصر كان أعظم وأغنى بكثير من خلفاء بني العباس.