وليت الذي بيني وبينك عامر.. وبيني وبين العالمين خراب
تذكر هذه الأبيات غالباً على أنها أبيات شعر صوفية يناجي فيها الشاعر خالقه، فلا يبالي إن كان تقطعت حبائل الود بينه وبين الناس ما دام خالقه عنه راضياً، ولكن ما لا يعرفه كثيرون أن قائل هذا البيت هو أبو فراس الحمداني وقد قاله مستعطفاً ابن عمه سيف الدولة، في قصيدته الشهيرة التي يقول في مطلعها: "أما لجميل عندكن ثواب".. تعالوا نروِ لكم القصة من البداية:
قصة قصيدة "أما لجميل عندكن ثواب"
لأسباب وجيهة أطلق على الشاعر أبي فراس الحمداني لقب "فارس السيف والقلم".
فأما عن علاقته بالسيف، فقد عرف عن الحمداني شجاعته وفروسيته وإقدامه في القتال، وأما عن علاقته بالقلم، فقد عرف ببلاغته لدرجة أنه الشاعر الوحيد الذي كان منافساً للمتنبي في زمانه، وقد قال عنه الصاحب بن عباد، وهو من كبار العلماء والأدباء في عصره: "بُدئ الشعر بملك وخُتم بملك"، ويعني بذلك أن بداية الشعر كانت عند امرؤ القيس أما نهايته فكانت عند أبي فراس الحمداني.
كان أبو فراس من أعيان بني حمدان، فوالده سعيد بن حمدان الحمداني التغلبي كان والياً على الموصل، وابن عمه هو سيف الدولة الحمداني أمير الدولة الحمدانية التي امتدت لتشمل أجزاء من شمالي سوريا والعراق وكانت عاصمتها حلب في القرن العاشر للميلاد.
ولد أبو فراس عام 932، وقد عاش يتيم الأب، إذ قُتل والده وهو لا يزال في الثالثة من عمره، أما أمه فقد كانت رومية، وتولت رعايته بمساعدة ابن عمه سيف الدولة.
شب الحمداني فارساً مدافعاً عن دولة ابن عمه وحامياً لها من غزوات الروم، فعينه أميراً على مقاطعة منبج (الواقعة في شمال سوريا حالياً).
وقوع الحمداني في الأسر
بينما كان أبو فراس الحمداني والياً على منبج، كثرت المواجهات ومعارك الكر والفر بين الحمدانيين والروم، وفي إحدى المعارك وقع الحمداني أسيراً لهم، وتذكر بعض المراجع أنه قد تم أسره مرتين من قبل الروم، إذ اقتيد في الأولى إلى حصن رومي منيع في منطقة الفرات، إلا أنه تمكن من الفرار والعودة إلى منبج، أما في المرة الثانية فقد اقتيد إلى القسطنطينية حيث طال أسره لثلاث أو أربع سنوات.
ولكن يرجح المؤرخون أنه وقع في الأسر مرة واحدة فقط، وهي المرة التي اقتيد فيها إلى القسطنطينية، كما ذكر الثعالبي.
كان الحمدانيون في المقابل قد أسروا ابن أخت ملك الروم، فطلب أبو فراس من ابن عمه أن يفتديه من الأسر مقابل ابن أخت الملك، لكن سيف الدولة رفض ذلك، فقد كان يبتغي أن يبادل ابن أخت الملك بكل الأسرى الموجودين في سجن الروم وليس بأبي فراس وحده.
4 سنوات من الشعر البديع
دام سجن أبي فراس قرابة الأربع سنوات، دأب خلالها على مراسلة ابن عمه سيف الدولة الحمداني وامتداحه بأعذب الأشعار لحثه على إنقاذه من السجن، لكن سيف الدولة أبطأ في ذلك، وقيل إنه ربما كان يشعر أن أبا فراس طامع في الملك فأراد أن يتركه في الأسر ليكسر شوكته.
ولم يحصل تبادل للأسرى إلا بعد مضي أعوام أنهكت أبا فراس، حيث اتفق الحمدانيون والروم أخيراً على المبادلة، وأطلق سراح 3000 أسير عربي كان بينهم أبو فراس.
وبعد عام من خروج أبي فراس من الأسر توفي سيف الدولة الحمداني عام 967، وكان له مولى يدعى قرغويه دعا إلى أن يتولى الحكم "أبو المعالي" ابن سيف الدولة طمعاً في السيطرة على الدولة الحمدانية من خلاله، فتصدى له أبو فراس ودارت بينهما معركة قتل فيها فارس السيف والقلم عام 968.
وبالرغم من أن السنوات الأخيرة من حياة أبي فراس كانت مأساوية للغاية، فقد أمضى أربعاً منها في السجن وعاماً يصارع المرض إلى أن قتل أخيراً في معركته مع قرغويه، إلا أنه كتب خلال هذه الفترة أروع قصائده والتي كانت في معظمها موجهة لاستعطاف ابن عمه سيف الدولة.
ومن أبرز القصائد التي كتبها أبو فراس في سجنه كانت قصيدة "عصي الدمع" التي تغنت أم كلثوم بأبياتها، ويقول في مطلعها:
أَراكَ عَصِيَّ الدَّمـعِ شيمَتُــكَ الصَّبـرُ .. أَمـا لِلهَوى نَهيٌ عَلَيكَ وَلا أَمرُ
بَلى أَنا مُشــــــــتاقٌ وَعِندِيَ لَوعَـةٌ.. وَلَكِنَّ مِثلي لايُذاعُ لَهُ سِــــــرُّ
وكذلك قصيدته الشهيرة التي يقول في مطلعها:
أقُولُ وَقَدْ نَاحَــتْ بِقُرْبي حمامَـــــة .. أيــا جارتا هل تشعرين بحــــالي؟
معاذَ الهوى ما ذقتِ طـارقةَ النَّوى.. وَلا خَطَرَتْ مِنكِ الهُمُـــومُ ببـــالِ
أما لجميل عندكن ثواب
أما قصيدته الأكثر شهرة والتي يبدؤها بقوله: "أما لجميل عندكن ثواب" فقد قالها أيضاً خلال سنوات سجنه يستعطف فيها ابن عمه سيف الدولة الحمداني عله يرأف بحاله ويفتديه ليخرجه من السجن، فيقول:
أَمِن بَعدِ بَذلِ النَّفسِ فيما تُريدُهُ أُثابُ بِمُرِّ العَتبِ حينَ أُثابُ
فَلَيتَكَ تَحلو وَالحَياةُ مَريرَةٌ وَلَيتَكَ تَرضى وَالأَنامُ غِضابُ
وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِرٌ وَبَيني وَبَينَ العالَمينَ خَرابُ