تعد "الرهبنة اليسوعية" إحدى أهم مؤسسات الكنيسة الكاثوليكية حول العالم، وقد تأسست على أنقاض دولة الأندلس، إلى أن أصبح لها نفوذ كبير في كثير من المؤسسات العريقة في العالم بل والأنظمة السياسية، رغم أن بدايتها لم تكن بهذا التوسع، كما لم يكن يبدو على أول من أنشأ حركة الرهبة أن تنتشر مدرسته بهذا القدر.
مؤسس حركة الرهبنة "إغناطيوس دي لويولا" وُلد في مدينة تدعى أثبيتيا في إقليم الباسك في شمال إسبانيا بالعام 1491، أي قبل سقوط الأندلس بعام واحد، وكان ابناً لعائلة من النبلاء، ونشأ في أسرة متمرسة على الحروب، إذ قاتل العديد من إخوته في جبهات قتال متعددة، وقُتل بعضهم في تلك المعارك، بينما ذهب بعضهم مع جيوش المستعمرين الإسبان إلى أمريكا وقُتل هناك.
وبينما كانت الكنيسة والملكان فرناندو وإيزابيلا يعملون على تنصير أهل الأندلس من مسلمين ويهود، لم تكن عائلة لويولا تقبل أياً من المتنصرين الجدد المتحولين من الإسلام أو اليهودية، وهو ما ترك أثراً في لويولا وساهم في تشكيل ملامحه الأولى التي ستؤثر على حياته فيما بعد.
تاريخ "الرهبنة اليسوعية": الإكريليكي المحارب إغناطيوس دي لويولا
يذكر الكاتب اللبناني إلياس معلوف في كتابه "الآباء اليسوعيين" أنه طبقًا للتقاليد في ذلك الزمن، وهب والد إغناطيوس ابنه الأصغر إلى الحياة الإكريليكية، وبحلول عمر 14 سنة مات والداه، فأُرسل إغناطيوس إلى البلاط القشتالي؛ حيث كان فرديناند يحكم البلاد، ومن البلاط الملكي قام الدون خوان دي كويلار -خازن قشتالة العام- باحتضان لويولا.
في العام 1517 توفي كويلار، لتوصي زوجته إغناطيوس أن يذهب إلى الدوق دي ناخيرا -نائب ملك نافار- والذي بدوره جعله على رأس مجموعة عسكرية، وبذلك عاد إغناطيوس إلى مهنة عائلته الأساسية التي تمرست على الحروب، ولكن هذه المرة لحماية مملكة نافار، والذي خرج من أجلها على رأس عدة حملات.
لكن لم تدم حياة لويولا العسكرية طويلاً، ففي العام 1521 دخل لويولا في معركة ضد الفرنسيين الذين كانوا يهاجمون مدينة بامبلونا عاصمة مملكة نافار، وفي هذه المعركة أُصيب لويولا في رجله اليمنى وفخذه الأيسر مما أضعف من عزيمة الجند الذي كان يتولى قيادتهم، لتدب الهزيمة في صفوف النافاريين، ويدخل الفرنجة منتصرين.
إلا أن لويولا تلقى معاملة حسنة من قِبَل الفرنسيين، وذلك لصموده أثناء المعركة وشجاعته فيها، فأجروا له عملية جراحية في قدميه، إلا أن وضعه الصحي تدهور بسبب تلك الجراحة، وهو ما جعل الكثير ممن حوله يعتقدون أنه سيموت، فما كان من لويولا أن قرر إجراء عملية جراحية أخرى، وهو ما أدى لتحسن صحته وتعافي قدميه، إلا أن أحد قدميه أصبحت أقصر من الأخرى مما جعله أعرج، طبقاً لمعلوف.
وفي فترة نقاهته، طلب لويولا كتباً لكي يمضي فترة استشفائه في قراءتها، وكان من بين تلك الكتب الكتاب المقدس، وكتاب آخر عن حياة القديسين المسيحيين، وهو ما بدأ يُحدث تغييرات داخل لويولا، ليقرر ترك الملذات تشبهاً بالقديسين واستبدال حياة الترف بالتقشف ونذر حياته للبتولية، وهو ما جعل حياته تتخذ شكلاً جديداً كلياً عما سبق.
ولادة الرهبنة اليسوعية بعد خلع ملابس الفرسان
قرر لويولا السير على طريق القديسين وأراد بدأ الرحلة بالحج إلى القدس، وفي طريقه إلى هناك كان في رفقته أحد المسلمين الذين أُكرهوا على اعتناق المسيحية بعد سقوط الأندلس، فدار بينهما نقاشٌ حاد حول المعتقدات المسيحية وهو ما دفع لويولا لقتل الرجل، إلا أنه لم يتمكن من ذلك مما عكس طريقة تفكير لويولا ودفاعه عن معتقداته.
وفي طريقه، وصل لويولا إلى دير الرهبان البندكتيين -عند جبل مونتسيرات في كتالونيا بالقرب من مدينة برشلونة- حيث أمضى فيه ثلاثة أيام وخلع فيها ملابس الفرسان وارتدى ملابس الزاهدين، بعد ذلك وعلى مدار عام كامل قرر لويولا الانزواء في كهف وحده، وممارسة حياة التأمل، والانقطاع عن أكل اللحم إلا قليلاً، والعيش على أموال التسول، كما أطلق شعره وأظافره تعبيراً عن زهده في الدنيا.
وفي صومعة القديس بولس يحكي معلوف كيف ظهر السيد المسيح إلى لويولا على هيئة أشعة بيضاء، والتي جعلت لويولا يرتقي روحياً ويتحرر من وساوس الشيطان ووصل بهذا إلى درجة القديسين، وبحلول العام 1523 وصل لويولا إلى القدس، إلا أن الرهبان الفرنسيسيين منعوه من زيارة الكنائس هناك وأقنعوه بالعودة إلى أوروبا، فعاد لويولا أدراجه، وبوصوله إلى إسبانيا قرر "تجنيد" رجال مؤمنين للتبشير ومساعدة الفقراء، معلناً عن مشروعه اليسوعي، والذي يُعرف بـ"الرهبنة اليسوعية".
ومن أجل إيجاد الأتباع، انتسب لويولا إلى جامعة ألكلا دي هيناريس في برشلونة، إلا أن تعاليم اليسوعيين أثارت قلق محاكم التفتيش في إسبانيا، ليلقى القبض على لويولا أكثر من مرة، وبعد نفاد صبر لويولا قرر الانتقال إلى باريس في العام 1528 وانتسب إلى معهد مونتيغو، وهناك تكونت البطانة الأولى لليسوعيين إذ تعرف لويولا على رافقه الذين أسسوا معه الرهبنة.
يذكر المؤرخ اليسوعي بدرو دي ليتوريا أن تعاليم اليسوعيين كانت تنص على وجوب الذهاب إلى فلسطين لخلاص أنفسهم من الخطيئة، وحمل الكفار من غير المسيحيين على اعتناق المسيحية حتى ولو أدى ذلك إلى موتهم، إلا أن مشروعهم الهادف لاستيطان فلسطين لم يتحقق بسبب حظر التبشير هناك في ذلك الوقت، فاستعاضوا عن هدفهم الأصلي بالتوجه نحو روما بدلاً من فلسطين، والمناداة بالخضوع التام للكرسي الرسولي -أي بابا الفاتيكان- وبذلك سرعان ما حاز اليسوعيون دعم البابا، والذي استخدمهم في تحقيق أهدافه.
وفي طقوس الرهبنة اليسوعية؛ يعتمد اليسوعيون على إعلان النذور التي يكلّفون بها أنفسهم -وهي الطريقة التي يتبعونها إلى اليوم- حيث يضعون على مذبح الكنيسة نصاً يتضمن التزاماتهم، ويوقعون عليها، والتي يكون من بينها اتباع حياة الفقر، والطاعة الدائمة لرئيس اليسوعيين الذي يُطلق عليه "الجنرال"، كما يتعهدون دوماً "التقيد بجميع المهمات التي يحددها البابا دون تردد أو شروط".
الصعود الكبير لحركة الرهبنة وموت لويولا
بناءً على هذا الولاء التام للكرسي الرسولي، جاء التكليف الأول من البابا، أن ينخرط اليسوعيون في تعليم أطفال روما التعاليم المسيحية، وعند صعود نجمهم ومعرفة الناس بهم، أراد شارلكان -إمبراطور الإمبراطورية الرومانية- أن يذهب اليسوعيون إلى الهند ليقوموا بالتبشير للدين المسيحي هناك، وهو ما حدث بالفعل بجانب العديد من الدول الأخرى (بينها دول البرازيل والكونغو وإثيوبيا)، وبدأ اليسوعيون عملهم عن طريق تأسيس الجمعيات الخيرية بهدف التبشير.
أدار اليسوعيون العديد من المنظمات الخيرية؛ مثل الجمعيات التي تهتم بالبغايا السابقات، والجمعيات المخصصة لليهود المتحولين إلى الكاثوليكية، وكان التعليم بالنسبة لليسوعيين هو حجر الزاوية الذي ينطلقون منه نحو كل أهدافهم الأخرى، وهو ما جعلهم يؤسسون الكلية الرومانية في روما، التي سُميت لاحقاً بالجامعة الغريغورية الحبرية وهي مدرسة لتخريج الكهنة والإكليروس، كما أنها اهتمت بتدريس العلوم الإنسانية المختلفة.
انصب تركيز اليسوعيين في تلك المرحلة على تبشير المسلمين وضمهم لصفوف الكاثوليكيين الجدد، وكذلك اهتموا بصد المد البروتستانتي المنتشر في أوروبا وأمريكا آنذاك، وبهذا الصدد صرح لويولا بأنه على استعداد للذهاب مع رفاقه اليسوعيين إلى "الأتراك أو إلى العوالم الجديدة -أي الأمريكتين- أو عند اللوثريين -وهم البروتستانت الذين انشقوا عن الكنيسة الكاثوليكية- أو أي طرف مؤمناً كان أو كافراً"، وأمر أتباعه بالولاء والطاعة العمياء للبابا بولس الثالث ومن يخلفه على الكرسي الرسولي.
نتيجة لذلك حصل اليسوعيون على مباركة البابا، وفي العام 1540 وقّع البابا على "البراءة البابوية"، أي الاعتراف بالرهبنة اليسوعية رسمياً، في الوقت الذي كانت الكنيسة في أمسّ الحاجة ليد العون لكي تستطيع تجاوز المشاكل التي تعيشها في ذلك الوقت، والتي كانت متجذرة وبقوة في شتى أنحاء الكنيسة.
لكن مع قدوم البابا بولس الرابع الذي كان يُكن العداء للإسبان، وقعت خلافات بين الرهبنة اليسوعية والكرسي الرسولي، كما اهتزت إمبراطورية اليسوعيين الممتدة في العديد من الدول بسبب عدة صراعات خاضوها، في الوقت الذي كان فيه لويولا على فراش الموت ينازع موته، والذي بحلول العام 1556 كان قد طُويت صفحة حياته، والذي شهد أتباعه عهداً جديداً مليئاً بالصراعات والتقلبات.
انتشار التبشير والدخول للمؤسسات العلمية
في كتاب "الكنيسة والعلم" يقول المؤرخ الفرنسي جورج مينوا إن الرهبنة اليسوعية أصبحت أحد أعمدة الكنيسة لا سيما الواجهة العلمية لها. ففي العام 1584 أسس اليسوعيون المعهد الروماني الذي صار أحد المراكز الثقافية والعلمية المرموقة، خاصة في علمي الرياضيات والفلك، واستطاع المعهد تخريج العديد من العلماء في القرن السابع عشر، وبذلك صار اليسوعيون هم أهل العلم الرسميين في الكنيسة.
إلا أن تبعية اليسوعيين العمياء للكرسي الرسولي جعلت العلماء اليسوعيين يشهدون توتراً هائلاً ودائماً؛ إذ صار هؤلاء العلماء يرجحون براهين الكنيسة غير الصحيحة في مسائل علمية هامة مقابل الحقيقة العلمية، مثل قضية مركزية الشمس عند جاليليو، إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور الكثير من العلماء البارعين في العلوم الطبيعية والرياضيات، مثل الأب كريستوفر كالفوس الذي يعود إليه التقويم الغريغوري -وهو التاريخ الميلادي الحديث المستعمل حالياً- الذي سُمي على اسم البابا غريغور الثالث عشر الذي عدله كالفوس في عهده، واُعتبر كالفوس أفضل فلكي في عهده.
وغزا اليسوعيون العالم إلى أن وصلوا إلى الصين، وتغلغلوا فيها حتى وصلوا بلاط الإمبراطور مينج، واندمجوا اندماجاً كبيراً في الثقافة الصينية، فلبسوا ملابس الدهّاقين -أصحاب الحظوة وكبار أهل بكين- وتسموا بأسماء صينية، وتعلموا الصينية وكتبوا بها، وقاموا بنشر العلوم والاختراعات الحديثة والتي كان من بينها الأسلحة والاختراعات العسكرية مثل المدافع، كما أصبح اليسوعيون مديري المعهد الإمبراطوري لعلم الفلك.
كان ذلك باباً كبيراً لدخول العديد من الصنيين إلى الكاثوليكية، إذ إن كون اليسوعيين أصحاب علم كان يحتاج إليه الصينيون، وذلك لتقهقر الصينيين في العلوم عن الأوروبيين خاصة في علم الفلك، ما جعل من اليسوعيين نماذج وقدوات يحتذى بها، مما جعلهم قادرين على التبشير للمسيحية بسهولة في صفوف أبناء هذه البلاد، كما وافق البابا إينوسنت الحادي عشر على طريقة اليسوعيين في "استخدام العلم الدنيوي في خدمة نشر الإيمان"، وفقاً لجورج مينوا.
وفي اليابان المجاورة، استطاع اليسوعيون في البداية إرسال عدد كبير من أعضائها للتبشير، واستطاعوا بناء العديد من الكنائس وهو ما أدى إلى تزايد أعداد المتحولين إلى الكاثوليكية، إذ قُدر عدد المسيحيين بحلول العام 1582 بحوالي 200 ألف كاثوليكي في اليابان، كما انضم 26 ألفاً منهم إلى الرهبنة اليسوعية، طبقاً للموسوعة الكاثوليكية New Advent.
إلا أن الوضع لم يدُم كذلك طويلاً، إذ بدأت السلطات في ملاحقة اليسوعيين في العام 1587 واستمر ذلك على مدار عدة عقود حيث أعدمت السلطات اليابانية العديد من اليسوعيين، ولاحقت كل من نزل على أرض اليابان من اليسوعيين وهو ما أوقف الحملات التبشيرية هناك بحلول العام 1660.
انحدار الرهبنة اليسوعية
لم يكن وضع الرهبنة اليسوعية مختلفاً كثيراً في أوروبا عما يحدث في اليابان، فبعد أن حظيت الرهبنة اليسوعية بتأييد كبير من الشعوب الكاثوليكية والملوك والأساقفة والباباوات منذ نشأتها وطيلة عقود، أصبح اليسوعيون فجأة موضع عداء مسعور بحلول القرن الثامن عشر، حيث سقطت مؤسسات الرهبنة اليسوعية بسرعة هائلة، وسُلبت الكثير من أعمال اليسوعيين من أول بعثاتهم الواسعة، إلى كلياتهم وكنائسهم، كما تم نفيهم معظمهم، وقُمع نظامهم، بتحريض من الناس وشجب من البابا نفسه.
ففي فرنسا مهد اليسوعيون ومركز انطلاقهم الأول، كانت الرهبنة اليسوعية تربح الكثير من المال مما تنتجه أديرتها، وهو ما أدى إلى إدانة تعاليم اليسوعيين التي تنادي بالتقشف وحياة الزهد وألبت عليها الرأي العام حتى باتت الرهبنة اليسوعية متهمة بالاستبداد، ووصل الأمر أن تولى البرلمان عملية رصد ومراقبة أنشطة اليسوعيين.
في هذا السياق، أصدر البرلمان كتاب "التأكيدات الإضافية" الذي أدان فيه ممارسات اليسوعيين واتهمهم بشتى أنواع الفجور والخطيئة من عمليات القتل المنظمة، وممارسة السحر، وخيانة الكنيسة واتباع الأريوسية -التي تنادي بأن المسيح ليس بإله بل هو نبي مرسل من عند الله الواحد- وفي 6 أغسطس/آب من العام 1762 صدر الحكم بحل الرهبنة اليسوعية.
كان الملك يقف في صف اليسوعيين، مما أدخله في مناوشات مع البرلمان وأخّر تنفيذ الحكم بحل الرهبنة، إلا أنه في نهاية الأمر حدث ما أراده البرلمان وحُلت الرهبنة اليسوعية في نوفمبر/تشرين الثاني 1764 وأُغلقت الكليات الخاصة بهم، وهو ما اُعتبر انهيار كبير لصرح الرهبنة اليسوعية.
وفي إسبانيا بلد إغناطيوس دي لويولا ومنبع العديد من أعضاء الرهبنة اليسوعية، قامت السلطات بطرد 6000 يسوعي من إسبانيا ورُحلوا إلى كورسيكا في فرنسا، وهددوا بالقتل في حال عودتهم إلى إسبانيا مرة أخرى، وأُعلن حل الرهبنة اليسوعية في إسبانيا في 29 يناير/كانون الثاني 1767، كما صُدرت ممتلكاتهم في بعض المناطق.
كان السبب وراء اتخاذ هذه الخطوات خشية ملوك ووزراء إسبانيا من تأثير اليسوعيين في العديد من القطاعات وقدرتهم على التدخل في الشؤون السياسية وتحويل مسارها لصالحهم. كما شهدت بعض المناطق داخل إسبانيا مناهضة لرجال الدين الذين هددوهم باللوم الكنسي، ما أثار أهل هذه المناطق ضد الكنيسة.
وفي محاولة منهم للقضاء على اليسوعيين، ضغط آل بوربون على البابا كليمنت الرابع لقمع اليسوعيين، في حين وعدهم البابا بالموافقة على الإجراءات المقترحة من قبلهم، ولكن يجب أن يعطوه الوقت الكافي لذلك، وعلى هذا رتب البابا خطة متكاملة وسرية ضد اليسوعيين. كان آل بوربون عائلة ملكية حكمت العديد من الدول الأوروبية منها فرنسا وإسبانيا وإيطاليا منذ 1589 إلى 1848 أعقاب الثورة الفرنسية، ومنهم من استمر شكلياً في البلاط الملكي الإسباني إلى يومنا هذا.
وفي العام 1773 اُحتجز الأب العام وجنرال اليسوعيين ومرافقوه في الكلية الإنجليزية، في حين صادرت الكنيسة كل أوراق الرهبنة اليسوعية وتسليمها للجنة خاصة للتحقيق فيها، كما صادرت الكنيسة مخزن الأموال الخاص باليسوعيين والتي كانت الجمعيات الخيرية تعتمد عليه في تمويل نشاطاتها، وبدأ التحقيق في الأوراق وأنشطة اليسوعيين، إلا أن اللجنة لم توجه أي تهمة أو تتطرق إلى أي من القضايا.
ومن بعد ما كان اليسوعيون يحظون بالاحترام والتقدير عند الملوك الذين أشادوا بها وبأعمالها، صارت الرهبنة اليسوعية تواجه العديد من الشائعات التي وصمتها بالعديد من الأعمال غير الأخلاقية. في المقابل، قال ألفونس دي ليجوري أحد الأساقفة الإيطاليين: "أيها البابا المسكين، ما الذي يمكنه أن يفعله في الظروف التي وُضع فيها مع تآمر جميع الملوك للمطالبة بهذا القمع؟".
محاولات العودة من جديد
أُغلقت الأبواب في وجه اليسوعيين ولم يستطيعوا تنفيذ أنشطتهم كما في السابق، إلا أنه بقيَ هناك متنفس ظل مفتوحاً لليسوعيين، ففي ألمانيا سُمح لهم بالتدريس، ولكن مع وجود رجال دين غير يسوعيين كرؤساء يشرفون عليهم، وبذلك أصبح العديد من اليسوعيين رجالاً ذائعي الصيت كوعّاظ مثل الإيطالي ألفونسو موزاريلي والفرنسي ألكسندر لانفانت.
وفي روسيا حيث رغبت الإمبراطورة كاثرين والملك فريدريك الثاني في الحفاظ على الرهبنة اليسوعية كهيئة تعليمية، أمر الأسقف ماسالسكي في روسيا البيضاء في 19 سبتمبر/أيلول 1773 الرؤساء اليسوعيين بمواصلة ممارسة أنشطتهم حتى إشعار آخر.
وفي تلك الفترة نظم اليسوعيون أنفسهم في تجمعات تحافظ على تعاليم وطقوس اليسوعيين الأساسية، مع تجنب اسم اليسوعيين الذي لا يحظى بشعبية آنذاك، فتسموا بأسماء مختلفة مثل "آباء الإيمان" التي تأسست بمباركة البابا في 1797 والتي قادها الكاهن نيكولاس باكّاناري، وكذلك تأسست "آباء القلب المقدس" في العام 1794 في بلجيكا.
وبرغبة من البابا بيوس السادس اندمجت الجماعتان وعُرفتا باسم "الباكّاناريين" وسرعان ما انتشر هذا التنظيم في الكثير من الدول الأوروبية، واكتسب سمعة طيبة في الأنشطة التربوية والتعليمية المتنوعة، ثم جاء البابا التالي بيوس السابع ليؤكد دعمه للتنظيم وقبوله "لجنود جدد" داخل التنظيم، وبهذا تعالت الأصوات مرة أخرى لإحياء الرهبنة اليسوعية من جديد.
عودة الرهبنة والرفض الشعبي الأوروبي والتغلغل في أمريكا
في 7 أغسطس/آب 1814 وبينما تنادي الأصوات داخل الكنيسة بعودة الرهبنة اليسوعية من جديد، أعلن البابا بيوس السابع استعادة الرهبنة اليسوعية وتلقيها الدعم الرسمي من الكنيسة الكاثوليكية، وبمجرد سماع الروس لتلك الأخبار قاموا بطرد اليسوعيين في العام التالي 1815، الذين آووهم طوال العقود السابقة عندما انقلبت عليهم الدول الأوروبية، وانتهوا من طردهم من عموم البلاد بحلول عام 1820، وعاد العداء من قبل الروس لليسوعيين من بعد ذلك التاريخ.
وبالرغم من عودة الرهبنة اليسوعية رسمياً من قِبل الفاتيكان، واجه اليسوعيون مصاعب في إيطاليا، حيث واجهوا عدة قوانين لا تسمح لهم بإنشاء المدارس إلا على نطاق صغير، وظل جّل اليسوعيين يواجهون تضييقات داخل إيطاليا إلا أنهم تكيفوا معها وظلوا في محاولات لأخذ قدر من السلطة السابقة التي كونوها منذ تأسيس الرهبنة.
وكما إيطاليا، ظل اليسوعيون يواجهون ضغوطاً ومواجهات في فرنسا وذلك بسبب الثورة الفرنسية التي نادت بالليبرالية ووقفت نداً للكنيسة والإكليروس مما وضعهم في مواجهة مع الجمهورية الفرنسية التي شهدت تقلبات كثيرة في تلك الفترة.
كذلك كان الأمر شبيهاً في إسبانيا إلا أنها أخذت منحى أعنف بسبب الثورة التي انقضت على اليسوعيين -بعد اعتراف الكنيسة بهم مرة أخرى- إذ قُتل 25 يسوعياً في مدريد في 1822. وهكذا ظل اليسوعيون في صراع دائم؛ إذ قتل منهم آخرون في مواقف مختلفة، كما واجهوا الطرد في العديد من المرات بسبب تولي السلطة حكومات ليبرالية.
إلا أن الأمر كان مختلفاً في إنجلترا؛ حيث شهدت الرهبنة اليسوعية ازدهاراً هناك، وانتشرت مؤسساتها في نواحي لندن والمدن الإنجليزية، وزاد عدد أعضاء الرهبنة بالتبعية ونمت نشاطاتهم حتى باتت تشبه بداية تأسيس الرهبنة اليسوعية.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية تكللت جهود اليسوعيين بتأسيس جامعة جورج تاون الشهيرة في وقتنا الحالي إحدى أكبر وأعرق جامعات أمريكا والمصنفة ضمن أعلى 100 جامعة في الولايات المتحدة في المرتبة الـ 26.
وتُعد جامعة جورج تاون أقدم جامعة كاثوليكية في الولايات المتحدة، التي تأسست في 1789 في واشنطن والتي أصبحت قلعة اليسوعيين الكبرى في العالم الجديد. وعلى هذا المنوال سار اليسوعيون حيث أسسوا العديد من الكليات المتخصصة ليس فقط في تدريس اللاهوت، بل أيضاً العلوم الحياتية المختلفة، وبهذا أصبحت تلك المؤسسات التعليمية هي رأس الحربة وقوة اليسوعيين الضاربة في أمريكا، حيث يتخرج فيها عشرات الآلاف من الطلاب سنوياً من شتى أنحاء العالم.
أما في عصرنا الحالي، فيُعد وصول البابا فرانسيس -بابا الفاتيكان الحالي، وأحد أعضاء الرهبنة اليسوعية- للكرسي الرسولي هو الحدث الأول من نوعه، إذ يُعد هذا البابا أول بابا يسوعي يعتلي الكرسي الرسولي، وهو ما قد يعني أن الرهبنة اليسوعية باتت متغلغلة داخل الكنيسة الكاثوليكية، وما قد يعني أيضاً تسامحاً شعبياً مع هذه الرهبنة التي تصادمت معها الحشود في وقت سابق من التاريخ الذي طويت صفحته وجاءت صفحة جديدة بدلاً منه، وهو ما يقود هذه الرهبنة إلى أقصى قوتها على مر تاريخها.