روت قصص كثيرة شهيةَ الإمبراطور الروماني كومودوس الجامحة للجنس والعنف، وأنه كان يملك 600 من المحظيات من الشابات والغلمان، وأنه ذبح عشرات الرجال والحيوانات الغريبة في حلبة المصارعة الدموية، وأنه كان يفرك جلده وشعره مع دم ضحاياه؛ ولو شاهدت فيلم Gladiator الفائز بالأوسكار لعام 2000، لعلك لمحت كومودوس الدموي.
لكن، بينما وصفه أحد المؤرخين القدامى بأنه "لعنة على الرومان أفدح من أي وباء أو جريمة"، قال باري شتراوس، مؤرخ العصور الكلاسيكية والمؤرخ العسكري في جامعة كورنيل، ومؤلف كتاب "Ten Caesars: Roman Emperors from Augustus to Constantine"، إن هذه القصص مبالغ فيها.
يوضح شتراوس: "المصادر القديمة مليئة بالنميمة الخبيثة حول جميع الأباطرة، باستثناء الحال مع ماركوس أوريليوس، والد كومودوس وسلفه في منصب الإمبراطور".
ويضيف في كتابه: "كانت المصادر تكتب بيد أعضاء مجلس الشيوخ أو بيد أشخاص يكسبون رزقهم من خدمة أعضاء مجلس الشيوخ. وكان ماركوس أوريليوس هو الأكثر لطفاً في مجلس الشيوخ، لذلك حصل على سيرة جيدة. وعلى النقيض تماماً كان كومودوس قد قتل الكثير من أعضاء مجلس الشيوخ، لذلك ألقوا به في مزبلة التاريخ".
الابن الذي لا يشبه والده
كان والد كومودوس، ماركوس أوريليوس، إمبراطوراً مستقيماً ومحبوباً ويتمتع بأخلاق عالية. حكم روما خلال وباء طاعون مدمر وحروب حدودية لا نهاية لها ضد القبائل الجرمانية الغازية.
وكتب ماركوس أوريليوس أيضاً "التأملات"، وهي مذكرات فلسفية لا تزال كلاسيكيات من الفلسفة الرواقية.
كان كومودوس (161-192 م) الابن الوحيد الباقي لماركوس أوريليوس على قيد الحياة، وقد جُهِّز لخلافة والده في كرسي الإمبراطور. فعندما كان كومودوس يبلغ من العمر 15 عاماً، أطلق عليه والده لقب الإمبراطور المساعد، حسب موسوعة Britannica.
وفي عمر 17 عاماً انضم كومودوس إلى والده في المعسكرات الحدودية، حيث كان ماركوس أوريليوس يقود القوات الرومانية لخوض المعركة.
كومودوس المراهق
إن القرائن الوحيدة موجودة في كتاب تاريخ روما، الذي كتبه كاسيوس ديو (135-235 م)، عضو مجلس الشيوخ والمؤرخ الذي لم يكن معجباً بكومودوس وربما يكون قد بالغ في تصوير بعض أخطائه؛ فهو يصف الشاب كومودوس بأنه جبان جاهل وقع مع رفقة السوء.
إذ قال: "لم يكن كومودوس شريراً بطبيعته، ولكن على العكس من ذلك، فهو بلا ذنب مثل أي رجل عاش على الإطلاق. ومع ذلك، فإن بساطته الكبيرة، جنباً إلى جنب مع جبنه، جعلاه عبداً لرفاقه، ومن خلالهم في البداية بدافع الجهل، غاب عن الحياة الفاضلة، ثم انتقل إلى عادات شهوانية وقاسية، سرعان ما أصبحت هي طبيعته الثانية".
تُوِّج كومودوس إمبراطوراً في الـ19 من عمره، عندما توفي ماركوس أوريليوس، ربما من الطاعون، وليس مقتولاً على يد ابنه كما جاء في فيلم Gladiator.
وعلى عكس والده، الذي حارب بلا كلل ضد القبائل الجرمانية، توصل كومودوس على الفور إلى اتفاقات سلام ووجه خُطاه مباشرة صوب روما، على حد قول كاسيوس ديو، "لأنه كره كل مجهود واشتهى حياة المدينة المريحة"، حسب موقع World History.
آلة القتل والمصارعة
في روما، قتل كومودوس بشكل منهجي جميع الأعداء المتصورين في مجلس الشيوخ، وكذلك أي شخص آخر بدا أنه يمتلك الثروة والشهرة اللازمتين للإطاحة به، ومرة أخرى تُلقي هذه الرواية بظلالها على ما عُرف حول هذا الإمبراطور نقلاً عن المؤرخ كاسيوس ديو.
وقد كتب ديو: "سأجعل روايتي مملة للغاية إذا حاولت تقديم تقرير مفصل عن جميع الأشخاص الذين أعدمهم كومودوس".
لم يكن كومودوس مهتماً حقاً بالأمور اليومية المملة الخاصة بالحكم، وفقاً لكاسيوس ديو. فقد ترك هذا العمل الذي لا يحظى بشعبية لسلسلة من القادة العسكريين، بما في ذلك بيرينيس، قائد الحرس البريتوري للإمبراطور.
وقد كتب كاسيوس ديو: "نظراً لأن كومودوس سلَّم نفسه لسباق العربات والفجور ولم يؤدِ أياً من الواجبات المتعلقة بوظيفته، فقد اضطر بيرينيس إلى إدارة كل شيء وليس فقط الشؤون العسكرية وإدارة الدولة"، مضيفاً أن جنود بيرينيس ثاروا في النهاية، وقتلوه هو وعائلته.
كانت مسابقات المصارعين أداة ترفيهية كبيرة في روما القديمة وعرف كومودوس، مثل الأباطرة الآخرين، كيفية تنظيم العروض. لكن كومودوس تفوق على الأباطرة الآخرين؛ فقد كان يرتدي مثل المصارع وقاتل في المسابقات بنفسه.
يقول شتراوس: "كان الأمر نوعاً من الفضيحة"، لأنه كان على الأباطرة السمو فوق العنف القاسي لحلقة المصارعين، لكن كومودوس تخيل نفسه بطل الشعب ومقاتلاً ماهراً.
وفقاً لكاسيوس ديو، كان كومودوس يتحمس عن طريق ذبح الحيوانات الأليفة التي أُحضرت إليه مقيدة أو في الشباك. ثم ينتقل إلى الحيوانات البرية مثل الدببة والنمور وأفراس النهر والفيلة التي كان يقتلها من مسافة آمنة بالرماح.
أما بالنسبة لمحاربة الناس، فلم يقاتل كومودوس حتى الموت علناً.
وكتب كاسيوس ديو أنه كان يتنافس بسيف خشبي ضد الرياضيين والمُصارعين الآخرين، ويجمع مبلغاً رائعاً قدره مليون سيسترس يومياً من صندوق المصارعة، مضيفاً أن كومودوس "بالطبع" فاز في جميع هذه المباريات.
وفيما يتعلق بمسابقات المصارعة الحقيقية، أحب كومودوس إراقة الدماء، وفي إحدى المرات تردد بعض المصارعين المنتصرين في القضاء على خصومهم، لذلك قيدهم كومودوس معاً وأجبرهم على القتال حتى الموت، وفقاً لكاسيوس ديو.
ويشار أيضاً إلى أن أعضاء مجلس الشيوخ اضطروا إلى حضور كل هذه النزالات وحتى تشجيع كومودوس بالأغنيات المكتوبة، بما في ذلك هذه الأغنية: "أنت سيد، وأنت الأول، من بين جميع الرجال الأكثر حظاً. أنت منتصر، والنصر يجب أن يكون حليفك إلى الأبد".
كومودوس وجنون العظمة
لم يعانِ كومودوس بالتأكيد من نقص الثقة. يقول شتراوس إن كومودوس أطلق على نفسه اسم "هرقل الروماني"، حتى إنه ارتدى ملابس شبيهة بملابس هرقل من جلد أسد كامل وهراوة، وهي الهيئة التي ظهر بها في تمثاله النادر من القرن الثاني.
وفي مباراة مصارعة، أراد كومودوس إعادة تمثيل قصة هزيمة هرقل للعمالقة، لذلك جمع كل رجال روما الذين فقدوا أقدامهم بسبب مرض أو حادث "وبعد ذلك، بعد تثبيت ركبهم بمجسمات تشبه الثعابين، وإعطائهم الإسفنج لرميه بدلاً من الحجارة، قتلهم بضربات من الهراوة، متظاهرين بأنهم عمالقة"، على حد قول كاسيوس ديو.
كما أعاد كومودوس تسمية الأشياء باسمه؛ يقول شتراوس: "أعاد تسمية روما باسم Colonia Commodiana أو مدينة كومودوس. كما أعاد تسمية أشهر السنة بأسماء مختلفة أطلقها على نفسه، مثل أمازونوس وأغسطس وهيركوليوس".
وفي رسائله إلى مجلس الشيوخ، كان يبدأ:
"الإمبراطور القيصر لوسيوس يليوس أوريليوس كومودوس أوغسطس بيوس فيليكس سارماتيكوس جرمانتيكوس ماكسيموس بريتانيكوس، مصلح الأرض بأكملها، الذي لا يقهر، هرقل الرومان، بونتيفكس ماكسيموس، صاحب السلطة التريبيونكية للمرة الثامنة عشرة، الإمبراطور للمرة الثامنة، القنصل للمرة السابعة، أبو البلاد، إلى القناصل، والقضاة، والمدافعين، ومجلس الشيوخ الكومودي المحظوظ، تحية".
يشكك شتراوس في صحة تقارير كاسيوس ديو، لكنه يعترف بأن كومودوس لم يكن أول إمبراطور روماني يعاني من ميول جنون العظمة أو يتصرف كطاغية.
نهاية كومودوس
صنع كومودوس الكثير من الأعداء، وخلال حكمه الذي استمر 12 عاماً، نجا من محاولات اغتيال عديدة، بما في ذلك محاولة خططت لها أخته (التي أعدمها لاحقاً).
لكن القدر حاصر كومودوس أخيراً ليلة رأس السنة في عام 192 م، عندما خنقه شريكه في المصارعة في حمامه، بعدما فشلت محاولة تسميمه. ويقول شتراوس: "الأسوأ من ذلك كله، كان ضلوع عشيقته المفضلة مارسيا في المؤامرة ضده"، إذ إنها كانت من قدَّمت له الكأس المسموم من النبيذ.
يُؤرخ عهد كومودوس أحياناً لبداية نهاية الإمبراطورية الرومانية، لكن شتراوس لا يوافق على ذلك. ورغم أن موته أعقبته حرب أهلية دامية وطويلة الأمد، إلا أنه انتهى بتأسيس سلالة سيفيران، وهي مجموعة من الأباطرة المتنوعين عرقياً المنحدرين من شمال إفريقيا وسوريا وأركان أخرى من الإمبراطورية الرومانية.
وعلى الرغم من أن الكثيرين أرادوا جر جسده في شوارع روما، إلا أن بيرتيناكس الذي خلف كومودوس استولى على الجثة، ومنع تدنيسه، وأمر بوضع كومودوس في ضريح هادريان.