هناك، في صحراء سيناء، كان يحلو للبدو التحلق حول النار أمام خيامهم والاستماع إلى آيات من القرآن الكريم أو أبيات من شعر المتنبي بصوت "عبد الله أفندي بالمر" الشجي.
كانوا يحبون ذاك الرجل، فهو يتحدث لغتهم العربية بطلاقة واستطاع الاندماج معهم وفهم عاداتهم وتقاليدهم وطباعهم، وربما لم يكونوا مدركين أن المستشرق الذي يدَّعي أنه سوري الأصل لم يكن إلا عميلاً للمخابرات البريطانية، أما هدفه الأول الذي لم يخفَ على أحد فكان القضاء على الثورة العرابية!
عبد الله أفندي بالمر.. ترجم القرآن وبرع في الفارسية والأوردية
لم يكن عبد الله أفندي ذاك سوى إدوارد هنري بالمر، أستاذ ورئيس قسم اللغات الشرقية في جامعة كامبردج العريقة، الذي وُلد عام 1840 وافتتن بالمشرق.
أتقن بالمر اللغة العربية كما لو كان عربي الأصل، كذلك أجاد الفارسية والأوردية ودرس اليونانية واللاتينية.
ولم تكن معرفته باللغة العربية فقط من خلال تعلُّمه النظري، فقد طاف بالمر بالمشرق وقام برحلات استكشافية في صحراء سيناء والنقب، واهتم بتسجيل عادات البدو وأعرافهم.
وسافر أيضاً إلى القدس ثم سافر إلى لبنان ثم دمشق ثم جبل العلويين ثم إسطنبول، وقد وصف هذه الرحلة في كتاب من جزأين.
وله كتب عديدة تصف رحلاته في المشرق ومعرفته باللغات، حتى إنه قام بترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية.
معرفة بالمر الواسعة باللغة العربية والأعراف البدوية وتاريخ المنطقة جعلته مؤهلاً مثالياً لمساعدة الجيش البريطاني في احتلال مصر.
بداية عمله مع المخابرات البريطانية
ما بين عامي 1879 و1882، قاد أحمد عرابي ثورة في مصر ضد الخديوي توفيق، وضدّ التدخل الأجنبي في الشؤون المصرية، وقد كان الخديوي هو الداعم الأوّل للتدخل الأجنبي في البلاد، خصوصاً من قِبل بريطانيا وفرنسا. وعُرفت هذه الثورة التي أقلقت الإنجليز باسم "الثورة العرابية".
عندما تم استدعاء بالمر لمقابلة وزير البحرية البريطاني "اللورد نورثبروك"، لم يكن لدى أستاذ اللغات فكرة عما قد يطلبه منه الوزير، لكنه كان يعلم أنه يرغب في توظيفه لعمل قد يدر عليه بعض النقود التي ستحل الأزمات المالية التي وقع بها مؤخراً.
آنذاك، كان الأسطول الإنجليزي بقيادة الأميرال سيمور، موجوداً قرب سواحل الإسكندرية، وعلى أهبة الاستعداد للتدخل العسكري، بهدف قمع ثورة أحمد عرابي التي كانت تشكل تهديداً سيؤدي إلى خروج مصر عن سيطرة الإنجليز.
كانت الخطة تقتضي بتنفيذ هجوم من جهتين على مصر، بهدف تشتيت الجيش المصري إلى قسمين.
الجهة الأولى ستكون عن طريق البحر من جهة الإسكندرية بقيادة أسطول الأدميرال سيمور، وهذه المعركة تعتبر محسومة النتيجة سلفاً لصالح الإنجليز، إذ إنه من غير المتوقع أن تصمد تحصينات الإسكندرية في وجه الأسطول البريطاني، الأقوى في العالم بذلك الوقت.
لكنّ المخاطر المحتملة كانت من الجهة الثانية، جهة قناة السويس الواقعة بين ضفتي صحراء سيناء، حيث من الممكن أن يقدّم بدو الصحراء دعمهم لعرابي فيكون النصر حليفهم، ومن الممكن كذلك أن يصل متطوعون من سوريا لدعم عرابي ضد الاحتلال، أمّا الاحتمال الأسوأ فهو وصول دعم عثماني بري لجيش عرابي. وطبعاً فإن هذا الدعم لا يستطيع الوصول إلى عرابي إلا من جهة صحراء سيناء بعد المرور بسوريا.
كل ذلك سيجعل الجيش البريطاني بين طرفي كماشة: جيوش عرابي في غرب القناة وجيوش حلفائه في شرقها، مما يعني هزيمة أكيدة.
فالهدف إذاً بسيط وواضح أمام الإنجليز: السيطرة على صحراء سيناء. أما الوسيلة فلن تكون المدافع والجيوش والأساطيل إنما أستاذ حاذق يجيد اللغة العربية ويعرف عادات البدو وتقاليدهم ويدعى إدوارد بالمر.
مِن إدوارد البريطاني إلى "عبد الله السوري"
وفقاً لما ورد في كتاب "حكايات من دفتر الوطن" لمؤلفه صلاح عيسى، شرح اللورد نورثبروك لبالمر وظيفته على وجه التحديد. كانت مهمة بالمر الاندساس بين القبائل البدوية وكسب ثقتهم وودهم وإقناعهم بالوقوف مع بريطانيا ضد عرابي.
عام 1882، توجَّه بالمر في البداية إلى الإسكندرية بصفته صحفياً مبعوثاً من صحيفة "ذا ستاندارد" وطلب من أحد المستشرقين البريطانيين المناصرين للثورة العرابية أن يقدمه إلى الثوار ويؤكد لهم أنه مناصر أيضاً لقضيتهم وأنه سينصرهم بالكتابة عن ثورتهم في صحيفته.
وقد ألحَّ بالمر على المستشرق بلنت لتقديمه إلى عرابي ذاته، لكن بلنت تحفَّظ ورفض ذلك؛ لشكوكه في نوايا بالمر.
أمضى بالمر بعض الوقت في الإسكندرية برفقة الأدميرال سيمور، وتوجه بعدها إلى يافا ومنها إلى غزة ثم إلى قبائل صحراء سيناء بعد أن غيَّر زيه ليرتدي زياً عربياً، وزوده الأدميرال ببندقية ومسدس، وأطلعه على خطة الحرب القادمة.
أما اسمه فتحوَّل من إدوارد إلى عبد الله، تاجر الإبل السوري.
وادي التيه بداية الحكاية
عندما نتحدث عن الصحراء، نستطيع القول إنها تابعة للسلطة العثمانية بالاسم فقط، فهي مكونة من القبائل المتناثرة التي لا تخضع إلا للأحكام القبلية والتي من الصعب أن تتحكم بها حكومة مركزية ما.
فضلاً عن ذلك فقد طوروا علاقات عدائية مع بقية المصريين الذين يقطنون على ضفتي النيل، ولم تجمعهم بهم أي علاقات من أي نوع، كما لم يشعروا بالانتماء لأرض محددة.. باختصار كان للبدو في ذلك الزمن وضع خاص في مصر، وضع أحسن "عبد الله أفندي" استغلاله.
كما ذكرنا مسبقاً، كان الإنجليز يطمعون في أن يوفِّر عليهم البدو جزءاً من جهدهم الحربي، سواء بالاشتراك معهم في حربهم ضد عرابي أو بالتصدي لحلفائه سواء من العرب أو العثمانيين أو على الأقل الوقوف على الحياد ليخسر عرابي بذلك قوة مهمة من الممكن أن تجعل النصر حليفه في حربه مع الإنجليز.
كانت القبائل التي يتوجب على بالمر كسب ودها تسكن في وادي التيه، حيث يتوجد قوتان أساسيتان متناحرتان: قبيلة "تباها" وقبيلة "الترابين"، وإذا استطاع بالمر أو "عبد الله أفندي" كسب ودهما فقد كسب بذلك ود بقية القبائل التي كانت تخضع بشيء من التبعيّة، لهاتين القوتين المركزيتين.
الخبز واللحم.. عهد حماية حتى الموت
كان يتوجب على بالمر رشوة القبائل بالهدايا والأموال، وكسب ودهم بكل تأكيد، وقدَّم نفسه على أنه تاجر سوري مسافر في صحراء سيناء، واستطاع إثارة فضول أفراد القبائل الذين أعجبوا به وتجمهروا حوله، على الرغم من أنهم لم يعرفوا عنه إلا القليل، بينما استطاع هو جمع كثير من المعلومات عنهم وإيجاد طرق لإقناعهم بأفكاره وبضرورة الوقوف في وجه عرابي.
اندهش عبد الله أفندي بالمر من قدرته على التأثير في البدو الذين استجابوا لدعوته، بعدما لم يبخل عليهم بالأموال والهدايا. وبعد مفاوضات مع أبناء القبائل، انضم إليه من تباها وحدها قرابة 40 ألف رجل، وعَدوا بالوقوف ضد عرابي.
وهكذا تنقَّل بالمر بين مضارب القبائل، يفتن البدو بمهارته في تلاوة القرآن وفصاحته في إلقاء أبيات من شعر المتنبي، ويستميلهم بالهدايا ويفاوض زعماءهم على قيمة الرشاوى التي سيقدمها لهم مقابل الوقوف في وجه عرابي، وبعد أن يضمن ولاءهم يأكل معهم "الخبز واللحم" كعهد بينه وبينهم بأن يحمي كل منهما الآخر حتى الموت.
عضو في هيئة أركان الحرب
وفقاً للاتفاقات التي عقدها بالمر مع شيوخ القبائل، فقد ضمِن المستشرق تحييد القبائل عن الصراع على الأقل ريثما يذهب إلى قناة السويس ليحضر لهم النقود التي وعدهم بها من الأدميرال سيمور الذي وصل إلى قناة السويس.
عندما وصل بالمر إلى قناة السويس روى على مسامع الأدميرال ما حققه من نجاح، وكتب الأدميرال تفاصيل نجاح الخطة البريطانية في تقرير وأرسله على الفور إلى وزير الحربية البريطانية في لندن اللورد نورثبروك.
بقي بالمر أو عبد الله أفندي بعض الوقت في السويس التي خضعت لسلطة الإنجليز بعد هزيمة الجيش المصري، وتلقى خبر تعيينه رئيساً للمترجمين في الجيش الملكي، وبذلك يصبح عضواً في هيئة أركان الحرب التي يرأسها أمير البحر.
الرحلة الأخيرة
استطاع بالمر أن يدبر صفقة رائعة بالنسبة للإنجليز، فقد اشترى ولاء 50 ألف بدوي بقرابة 25 ألف جنيه، أي ما يعادل نصف جنيه للجندي الواحد.
وقد أمَّن له هذا المبلغ الكابتن البريطاني جيل، أحد ضباط إدارة المخابرات البريطانية والذي كان يقوم بمهمة مشابهة لمهمة بالمر في محافظة الشرقية، إذ كان يُعرف هناك باسم فضيلة الشيخ محمد.
توجَّه جيل مع بالمر برفقة الملازم تشارنجتون إلى الصحراء لتسليم النقود لقادة القبائل من جهة وتدمير أعمدة التلغراف من جهة أخرى؛ وذلك ليمنعوا التواصل بين عرابي وأي حلفاء محتملين من العثمانيين أو المتطوعين السوريين.
اصطحب الثلاثة معهم خمسة من البدو، أدلّاء الطريق، وساروا في الصحراء باتجاه القبائل؛ ليعطوها الأموال التي اتفقوا معهم عليها.
كان بالمر يحلم بالعودة إلى بلده حيث تنتظره زوجته مُحملاً بالمال محاطاً بالشهرة، لكن أحلامه لم تتحقق فهناك في وسط الصحراء، وقبل أن يصل إلى هدفه أنهت رصاصةٌ حياته، فيما أنهت رصاصتان حياة كل من الكابتن جل والملازم تشارنجتون.
قتل البدو مرافقيهم البريطانيين، ولا يُعرف السبب على وجه التحديد، ربما كان المال الذي استولوا عليه وفرّوا هاربين، وربما كانوا من أنصار ثورة عرابي.
ما نعلمه أن رفات المستشرق البريطاني قد دُفن في الصحراء، وأن حكومته قد رفضت الاعتراف بخدماته وأنكرت استخدامها الرشوة للظفر بالنصر في معركتها مع عرابي.
مع ذلك، وبعد الاحتلال الإنجليزي لمصر نجحت جهود السير تشارلز وارن (الذي كان آنذاك ضابطاً برتبة كولونيل) في الحصول على رفات بالمر ورفاقه، ليُدفن لاحقاً في كاتدرائية سانت بول بلندن.