سأروي لكم اليوم قصة شاب وسيم للغاية عشقته جميع فتيات وحوريات المروج الخضراء اليونانية، لكن أياً منهن لم تستطع الاستحواذ على قلبه، وبسبب غضب أفروديت عليه لم يعشق في حياته سوى انعكاس صورته في الماء… كان اسمه نركسوس وقد حوَّلته الآلهة إلى زهرة نرجس بعد أن قتله حبه لنفسه.
نركسوس.. ابن إله النهر والحورية ليريوبي
حمل نركسوس جمالاً استثنائياً ذوَّب فيه قلوب كل مَن حوله، كيف لا، ووالده هو كفيسوس، إله النهر، ووالدته هي ليريوبي، واحدة من أجمل الحوريات الموجودة في المروج الخضراء.
تقول الأسطورة إن نركسوس نشأ في بيوتيا، إحدى مقاطعات اليونان، وقد كان مزهوّاً فخوراً بنفسه، لم يدخل الحب إلى قلبه قط ولم يتمكن أحد من تحريك عواطفه، على الرغم من وجود العديد من المحبين المولعين حوله من الذكور والإناث والآلهة حتى.
رفض نركسوس تذوُّق حلاوة العشق مع أي من محبيه، ولم يكن يدري أنه سيتجرع المرارة بعد أن تقع الحورية "إيكو" في غرامه.
إيكو تغوي نركسوس وتفقد كرامتها كما فقدت صوتها
أما "إيكو" فقد كانت حورية ساحرة الجمال، تعيش كذلك في المروج الخضراء قريباً من مسكن نركسوس.
ولم تتميز إيكو بجمالها فحسب؛ بل كانت أيضاً حلوة الحديث وسريعة البديهة، قصصها لا تُمَل وحكاياها لا تنتهي، لكن شاءت أقدارها التعيسة أن تستخدم موهبتها بشكل خاطئ ذات مرة.
كان زيوس، كبير الآلهة، كثير اللهو مع النساء والحوريات، ولطالما ألهبت الغيرة قلب زوجته هيرا وأعمت عيونها، وبينما كانت تتبعه في المروج لتقبض عليه متلبّساً بخيانتها، صادفتها إيكو التي أرادت أن تتستر على زيوس، فراحت تلهي هيرا بعذب حديثها حتى هدأت نفْس الآلهة الغيورة وذهب غضبها.
غابت الشمس وأقبل الليل ولا تزال هيرا تستمع إلى حكايات إيكو المسلية وكلها آذان مُصغية، إلى أن تنبهت إلى زوجها زيوس يتسلل هارباً بعد أن قضى وقتاً طويلاً مع إحدى الحوريات الحسان، فعادت نيران الغيرة والغضب لتلتهب في صدرها.
كانت هيرا قاسية لا ترحم، وعندما علمت أن إيكو كانت تتستر على زيوس قررت حرمانها من القدرة على الكلام العذب، وحكمت عليها بأن تُردد آخر ثلاث كلمات فقط من كل جملة تسمعها (من هنا جاء لفظ eco "إيكو" الذي يعني "صدى" باللغة الإنجليزية).
فقدت إيكو صوتها بسبب غضب هيرا، وما لبثت أن فقدت كرامتها أيضاً بسبب حب نركسوس.
فذات مرة لمحته ضائعاً في الغابة بعد أن قضى وقتاً طويلاً وهو يلاحق فريسته، لكنها لم تجرؤ على الاقتراب منه، فكيف تغويه وقد فقدت قدرتها على الكلام الحلو؟
راح نركسوس ينادي على أصدقائه الذين فقدهم في الغابة ويطلب منهم المجيء إليه، ولم تمتلك إيكو سوى أن تردد صدى صوته، ثم اقتربت منه بقلب مرتجف وعينان يملؤهما ،الحب وحاولت أن تضمه إليها، لكنه ابتعد عنها مُشمئزاً وعامَلها بقسوة وغرور، فما كان من إيكو إلا أن جرت مبتعدةً عنه كَسِيرة القلب ومُحطَّمة الكرامة.
انتقام الآلهة أفروديت
آلهة الحب، أفروديت هي أيضاً أحد أبطال هذه القصة، فلما علِمت بما حصل مع إيكو لم يرضها سلوك نركسوس المتعجرف، ورقَّ قلبها لحال العاشقة المسكينة إيكو، فقررت أن تجازي نركسوس على فعلته، وحكمت عليه بأن يتجرع مرارة الحب هو أيضاً، لكن من ذا الذي سيحظى بقلب نركسوس المتعالي؟
وذات مرة كان نركسوس يطارد فرائسه كالعادة، حتى وصل إلى غدير مياه، فألهمته الآلهة أفروديت أن يميل إلى الغدير كي يشاهد انعكاس وجهه فيه.
كانت المياه صافية حتى بدت كأنها مرآة. تأمَّل نركسوس الوجه الجميل الذي ارتسم على صفحة المياه وأعجب بحُسنه وساوره شعور غريب لم يعرفه من قبل، وخز خفيف لكنه لذيذ، ابتدأ في قلبه وسرى في أنحاء جسده كافة.. إنه الحب.
عاد نركسوس إلى منزله مُخلِّفاً قلبه وراءه في الغدير، لم ينم تلك الليلة وبقي يتقلب في فراشه، يفكر في الوجه الحسن الذي رآه في صفحة الماء.
ومنذ ذلك اليوم لم ينقطع نركسوس عن زيارة الغدير؛ لتأمُّل وجه محبوبه، كان العشق يؤلمه بشدة، خاصةً أنه كلما مد يده إلى وجه المحبوب اختفى فجأةً هارباً منه، أتراه لا يبادله المشاعر ذاتها؟
تمكن العشق من قلب نركسوس ولم يعد يطيق البعد عن محبوبه، وقرر في آخر المطاف أن ينزل إلى محبوبه، فغرق في المياه، وقيل أيضاً إنه فارق الحياة حزناً وجوعاً وعطشاً وهو جالس على حافة الغدير بلا حراك، يتأمل انعكاس وجهه الجميل في الماء.
جسد نركسوس الجميل لم يذهب سدى
بعد موت نركسوس، أشفقت الآلهة عليه ولم ترغب بالتفريط في جسده الجميل، فقررت تحويله إلى زهرة نرجس، لاتزال تنمو إلى يومنا هذا على ضفاف الأغادير وفي ربوع المروج، ويستطيع الناظر إليها أن يلاحظ جمالاً يشبه جمال نركسوس، وربما حزناً يشبه الحزن الذي خلّفه الحب في قلبه.
ولزهرة النرجس تحديداً رمزية خاصة، فهي تنمو في الصباح ثم سرعان ما تذبل، مما يجعلها رمزاً لفناء جمال الإنسان وتعبيراً عن أهمية عدم الزهو بالنفس.
في الفن والثقافة وعلم النفس
أسطورة نركسوس كانت أكثر من مجرد حكاية مُثيرة للاهتمام تناقلها الناس شفوياً من جيل إلى جيل، فقد ظهرت كذلك في الفن والأعمال الأدبية، وشكَّلت قصة نركسوس إلهاماً للعديد من اللوحات الفنية التي تألقت على وجه الخصوص في عصر النهضة.
كذلك باتت كلمة "نرجسية" مصطلحاً شائعاً في علم النفس، يشير إلى أولئك الأشخاص الذين يفرطون في الإعجاب بأنفسهم والانشغال بمظهرهم، وفقاً لـWorld History.