ربما كانت الأحداث المروعة التي حصلت خلال مذبحة غوانغشي ستكون في طي النسيان لو لم يسافر الصحفي الصيني زينغ يي إلى تلك المدينة في العام 1986 للتحقيق في شائعات تحدثت عن ممارسات أكل لحوم البشر في تلك المنطقة قبل نحو 20 عاماً.
فما هي قصة مذبحة غوانغشي، وما علاقة الحرس الأحمر الصيني بها؟
أكل لحوم البشر في مذبحة غوانغشي
في ثمانينيات القرن الماضي كان هناك صمت رسمي كامل إزاء شائعات انتشرت بكثرة عن حدوث جرائم وممارسات أكل لحوم بشر في غوانغشي، فقرر زينغ يي الذهاب إلى هناك وإجراء تحقيق صحفي لكشف الحقيقة.
نجح الصحفي الصيني بمساعدة فرد سابق من الحرس الأحمر الذي قضى بعض الوقت في غوانغشي خلال الثورة الثقافية من الوصول إلى سجلات رسمية تثبت أنَّ السلطات المحلية كانت على دراية بهذه الأعمال الوحشية أثناء وبعد حدوثها، فقام بنشرها تحت اسم مستعار في كتاب في أوائل التسعينيات، ثم هرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية عبر هونغ كونغ.
وكشف زينغ أنّ أفراد الحرس الأحمر مارسوا مستويات مروّعة من الإذلال والعنف بحق مَن اعتبروهم "أعداء الثورة" والتي وصلت إلى حد أكل لحوم الخصوم، وكان ذلك على مرأى ومسمع مسؤولين شيوعيين.
ثورة ماو الثقافية التي أغرقت البلاد في الفوضى
بدأت القصة عندما دشَّن قائد الحزب الشيوعي الصيني، ماو تسي تونغ، مشروعاً اقتصادياً في عام 1958 أطلق عليه اسم "القفزة الكبرى إلى الأمام" بهدف تحويل البلاد إلى قوة صناعية.
لكن النتائج كانت كارثية، إذ أدت مجموعة السياسات المرتبطة بمشروع "القفزة الكبرى إلى الأمام" إلى حدوث المجاعة الصينية الكبرى، ووفاة ملايين الأشخاص وفقاً لما ذكره موقع BBC History البريطاني.
اضطر ماو إلى الاعتراف بفشله في عام 1962 والتنحي عن رئاسة البلاد، لكنه احتفظ بقيادة الحزب الشيوعي وسرعان ما بدأ يخطط للعودة إلى الهيمنة على مقاليد السلطة من جديد.
في مايو/أيار 1966 أمر ماو بإطلاق "الثورة الثقافية" التي رأى من خلالها أنه سيبعد المعارضين ويعزز أيديولوجية الحزب، وفقاً لما ذكرته صحيفة The Guardian البريطانية.
فيما صورتها الصحف على أنها صراع تاريخي من شأنه أن يبث حياة جديدة في القضية الاشتراكية، وهو ما زاد من حجم التعبئة الجماهيرية المؤيدة لها.
ومن إحدى مقولات ماو الراسخة عند بداية الثورة: "هدفنا هو النضال وسحق أولئك الأشخاص في السلطة الذين يسلكون الطريق الرأسمالي، من أجل تسهيل وتوطيد وتطوير النظام الاشتراكي".
فيما يعتقد المؤرخ الهولندي المتخصص في شؤون الصين الحديثة أنّ ماو كان يأمل أن تجعل ثورته الصين قمة الكون الاشتراكي وتحوله إلى الرجل الذي يقود كوكب الأرض إلى الشيوعية.
كيف بدأت الثورة الثقافية؟
يتفق معظم المؤرخين على أن الثورة الثقافية بدأت في منتصف مايو/أيار 1966 عندما أصدر رؤساء الأحزاب في بكين وثيقة تعرف باسم "إشعار 16 مايو".
وحذرت الوثيقة من أن الحزب قد اخترق من قبل "تحريفيين" معادين للثورة كانوا يخططون لتحريف مبادئ الحزب وخلق "الديكتاتورية والبرجوازية".
بداية أعمال الشغب
بعد أسبوعين، أي في 1 يونيو/حزيران 1966، حثت صحيفة الحزب الرسمية الناطقة باسم الحزب الجماهير على "التخلص من العادات الشريرة للمجتمع القديم" من خلال شن هجوم شامل على "الوحوش والشياطين".
بعد فترة وجيزة، أعطى ماو مباركته لـ"الحرس الأحمر"، وهم مجموعات من الطلاب المُتشدّدين المؤمنين بأفكاره ويعارضون بعنف أي شخص يُشتبه في عدم ولائه له.
أغلقت المدارس والجامعات، ونُهبت ودمرت الكنائس والأضرحة والمكتبات والمتاجر والمنازل الخاصة.
كما قامت عصابات بمهاجمة الأشخاص الذين يرتدون "الملابس البرجوازية" في الشارع، كما تم هدم اللافتات "الإمبريالية" وقتل المثقفين ومسؤولي الحزب أو دفعهم إلى الانتحار.
المواطنون يأكلون لحم خصومهم السياسيين
اجتاحت انتفاضات عنيفة جميع أنحاء البلاد. وظهر ما يسمى بـ"جلسات النضال" (Struggle Sessions)، وهي شكل شائع من أشكال العقوبة يمارس بموجبها أعضاء من الحزب الشيوعي الصيني الإذلال العلني وتعذيب المعارضين والخصوم السياسيين، وقد تطور العنف في بعض المناطق ليصل إلى حد أكل لحمهم، وفقاً لما ذكره موقع All That's Interesting الأمريكي.
ووفقاً لأحد شهود العيان، فقد وصل العنف إلى مستوى ممارسات أكل لحوم البشر بسبب إثارة الصراع الطبقي، وكانت عمليات القتل مروعة، أسوأ مما تفعله الوحوش.
وقعت بعض أسوأ هذه الممارسات في مقاطعة ووسكوان، حيث ذكر مسؤولون ممارسات وحشية شملت تقطيع أوصال المعارضين ونزع قلوبهم وأكبادهم وأعضائهم التناسلية لطهيها وأكلها.
كيف بدأت سلسلة أكل لحوم البشر؟
بدأت تلك الممارسة المروّعة في عام 1968 عندما ضرب طلاب إحدى مدارس ووكسوان إحدى المُعلّمات في مدرستهم حتى الموت وحملوا جسدها إلى ضفاف نهر تشيان وأجبروا مُعلّمة أخرى على انتزاع قلبها وكبدها، ثم عاد الطلاب إلى المدرسة وطبخوا تلك الأعضاء وأكلوها.
وقد ورد أنَّ مسؤولين رفيعي المستوى في الحزب الشيوعي كانوا يشاركون أيضاً في "ولائم لحوم بشرية"، إذ كان المسؤولون الكبار يحتفظون بقلوب وأكباد خصومهم لأنفسهم ليطبخوها مع التوابل ولحم الخنزير، في حين لم يُسمح للمواطنين ذي الرتب الدُنيا إلا بتناول قطع صغيرة من لحم أذرع الضحايا وأفخاذهم.
وقد عانى مواطنو مقاطعة غوانغشي الصينية على مدار ما يقرب من 10 سنوات من أهوال العديد من المذابح من قطع رؤوس وضرب ودفن المواطنين أحياء وعمليات ذبح جماعية ونزع الأحشاء والقلوب والأكباد وتفجير الأجساد بالديناميت.
ليس ذلك فحسب بل هناك ما هو أقصى من ذلك؛ إذ أشيع أنّ أحد أعضاء الحزب الشيوعي، وهي امرأة تُدعى وانغ وينليو، كانت تأكل الأعضاء التناسلية للذكور بعد قتلهم، لكن أثبت تحقيق لاحق أنَّها كانت تأكل اللحوم والأكباد البشرية فقط.
نهاية العنف
بعد الانفجار الأولي لـ"الإرهاب الأحمر" بقيادة الطلاب، انتشرت الفوضى بسرعة. وانضم العمال إلى المعركة وانغمست الصين في ما يصفه المؤرخون بحالة حرب أهلية افتراضية، حيث تقاتلت الفصائل المتنافسة في مدن في جميع أنحاء البلاد.
وبحلول أواخر عام 1968، أدرك ماو أن ثورته الثقافية خرجت عن نطاق السيطرة، فأصدر أمراً بإقصاء آلاف من أفراد الحرس الأحمر للعمل القسري في الريف، وفي 9 سبتمبر/أيلول 1976، توفي ماو بسبب نوبة قلبيّة ورحلت معه ثورته الثقافية.