إذا دققت في لوحات الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت الشخصية أو البورتريهات، فستجد يده اليمنى مدسوسة بعيداً عن الأنظار، في الغالبية العظمى من اللوحات، داخل أزرار قميصه، بل إن الوضعية التي اختار أن يتم تخليد صوره فيها تُسمى "اليد في الصدرية" والتي كانت سائدة في القرنين الثامن والتاسع عشر.
فما سر اختيار هذه الوضعية من قِبل القائد العسكري الذي غيَّر مجرى تاريخ أوروبا والعالم لأكثر من قرن؟
نعود بالزمن إلى بدايات الرجل، إذ وُلد نابليون في مدينة أجاكسيو بجزيرة كورسيكا في 15 أغسطس/آب عام 1769، لوالده كارلو بونابرت، محامٍ وسياسي طموح، وزوجته ماري يتيتسيا.
كانت عائلة بونابرت من طبقة نبلاء جزيرة كورسيكا، مع أنها كانت فقيرة مقارنة بعائلات فرنسا الأرستقراطية الكبيرة، حسب ما نشره موقع History Extra البريطاني.
التحق نابليون لاحقاً بالأكاديمية العسكرية في بريان عام 1779، وانتقل للمدرسة العسكرية بباريس (École Royale Militaire) في عام 1789، وتخرج فيها بعد عام ملازماً ثانياً بسلاح المدفعية.
ومتأثراً بموت أبيه في فبراير/شباط عام 1785، أكمل الأمبراطور المستقبلي برنامجاً دراسياً يستغرق عادةً ثلاثة أعوام، في عامٍ واحد فقط.
بحلول ديسمبر/كانون الأول عام 1793، أصبح نابليون بطل معركة تولون بعدما نجحت خطته في القضاء على المتمردين المدعومين من بريطانيا، وبعد تغيُّر دفة الثورة بقليل، أُلقِيَ القبض على نابليون بتهمة الخيانة، ولم تنقذه إلا بعض المرونة السياسية لأحد القادة (الفيكونت بول دي باراس)، ليصبح بعد ذلك بفترةٍ قصيرة واحداً من "قادة" فرنسا الثلاثة اللاحقين.
ثم أصبح نابليون بشكلٍ سريع -وهو في الـ26 من عمره فقط- واحداً من أكثر المسؤولين العسكريين احتراماً في البلاد، بفضل تعبيره عن آرائه دائماً وعالياً.
لماذا أخفى بونابرت يده؟
ولو طُلب من المؤرخين أن يصفوا المظهر الجسدي لنابليون بونابرت، فالاحتمال الأكبر أنهم سيشيرون إلى أمرين: أنه كان قصيراً جداً لدرجة أنَّ رسامي الكاريكاتير البريطانيين المعاصرين كانوا سعداء بتصويره على أنه شخصية قصيرة يُدعى "ليتل بوني"، وأنه في الواقع كان يتجول دائماً ويده اليمنى مطوية بين أزرار قميصه أو صدريته أو سترته. وقد يضيفون شيئاً عن قبعته، ومظهره الغاضب بعد هزيمته في معركة واترلو.
ظهرت هذه الوضعية المميزة بالتأكيد في العديد من صور الإمبراطور، بغض النظر عمّا كان يفعله، سواء يقف بكرامة وهدوء في مكتبه أو يدرس التراجع عن حملته الكارثية على روسيا.
وقيل إنَّ نابليون أخفى يده، لأنها تعرضت للتشوه في معركة، لكن لا يوجد دليل على ذلك.
وهناك فكرة أخرى، مفادها أنه كان يضغط باستمرار على معدته للتخفيف من آلامه المزمنة، وهو ما يبدو منطقياً على الأقل، لأنه قضى نحبه في عام 1821، متأثراً بسرطان المعدة.
هل فقد نابليون يده؟
لكن الحقيقة وراء تلك الطلَّة لا علاقة لها بنابليون على الإطلاق، بل لها علاقة أكثر بفنّ التصوير الشخصي (البورتريه) في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
أصبح إخفاء اليد في القميص وضعاً شائعاً باللوحات ويرمز إلى نبل رجل الدولة وضبط النفس.
ووفقاً لكتاب من عام 1737 عن آداب السلوك، بعنوان "The Rudiments of Genteel Behaviour- أساسيات السلوك اللطيف" بقلم فرانسوا نيفيلو، ترمز تلك الوضعية إلى "الجرأة الرجولية المخففة بالتواضع".
وترحيباً بالاستلهام من العصور القديمة، سرعان ما كان معظم الرجال في ذلك العصر، وبعض النساء، يمارسون وضعية إخفاء يد واحدة عند الجلوس لالتقاط صورهم، ومن ضمنهم جورج واشنطن وموزارت.
من الجدير بالذكر أيضاً أنَّ رسم اليدين أمر صعب للغاية؛ لذلك ربما خفَّف إخفاء إحداهما من الضغط على الفنانين الأقل موهبة، على سبيل المثال.
فهِم نابليون أهمية الصورة أفضل من معظم الناس؛ فخلال تتويجه المتألق إمبراطوراً لفرنسا في عام 1804، توَّج نفسه للدلالة على أنه وصل لهذا المنصب عن جدارة. واجتمع في وضعيته كل شيء: فخر رجل دولة يضبطه تواضع قائد مجتهد.
والحقيقة أنَّ نابليون لم يختر هذه الوضعية؛ بل إنه حتى لم يتموضع لما هو الآن أشهر تصوير له، وهي لوحة جاك لويس ديفيد من عام 1812 لنابليون في مكتبه. لكن الإمبراطور عندما رأى هذا العمل، أعلن: "لقد فهمتني يا عزيزي ديفيد"، وأصبحت اليد المدسوسة في القميص مرتبطة به إلى الأبد.
وظلت تلك الوضعية أساسية في التصوير الشخصي بعد فترة طويلة من نفي نابليون إلى سانت هيلينا، وحتى ظهور التصوير الفوتوغرافي.