"اكتملت رؤياكَ، ولن يكتمل جسدكَ. تبقى شظايا منه ضائعة في الريح، وعلى سطوح منازل الجيران، وفي ملفات التحقيق. ليست أشلاؤك قطعاً من اللحم المتطاير المحترق. هي عكا، وحيفا، والقدس، وطبريا، ويافا. طوبى للجسد الذي يتناثر مدناً".. هكذا رثى الشاعر الراحل محمود درويش صديقه غسان كنفاني الذي تم اغتياله على أيدي الموساد في العاصمة اللبنانية بيروت.
واليوم، وبعد مضي عقود على رحيله، لا نزال نذكر غسان كنفاني على أنه واحد من أشهر الكتاب والصحفيين العرب في القرن العشرين، وبالتأكيد نعلم كذلك أنه واحد من أبرز المناضلين في تاريخ القضية الفلسطينية.. فلنسترجع معاً محطات من تاريخ نشاطه السياسي والأدبي.
اغتيال غسان كنفاني
أشلاء رجل في الـ36 من عمره، متناثرة على الأشجار، وجثة متفحمة لطفلة تبعد 20 متراً عن سيارة انفجرت للتو.. هذا كان المشهد الأخير من حياة الأديب والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني، الذي اغتيل من قبل الموساد الإسرائيلي في 8 يوليو/تموز 1972 بانفجار سيارة مفخخة في العاصمة اللبنانية بيروت، وقد كانت برفقته ابنة أخته "لميس".
ورغم أن إسرائيل لم تقدم اعترافاً رسمياً بتنفيذ عملية الاغتيال تلك، فإن جميع أصابع الاتهام تتجه نحوها، فلماذا أرعب غسان كنفاني الموساد إلى هذا الحد؟
غسان كنفاني المتحدث الرسمي باسم الجبهة الشعبية
لم يكن غسان كنفاني الذي وُلد في عكا في التاسع من أبريل/نيسان عام 1936، روائياً وصحفياً وقاصاً فقط، بل كان كذلك مناضلاً سياسياً كرس حياته من أجل القضية الفلسطينية.
عاش كنفاني طفولته في يافا، وفي نكبة 1948 أجبر على اللجوء مع عائلته إلى المخيمات المؤقتة في لبنان حيث خرجوا من فلسطين سيراً على الأقدام عندما كان يبلغ من العمر 12 عاماً فقط، بعد ذلك انتقل غسان إلى العاصمة دمشق ليعمل مدرساً في وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، ومنها انتقل إلى الكويت ثم عاد ليستقر في بيروت عام 1960 ويعمل في صحيفة الحرية التابعة لحركة القوميين العرب التي كانت النواة الأساسية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
بعد عام 1969 ازداد نشاط غسان كنفاني السياسي، فأصبح عضواً في المكتب السياسي للجبهة الشعبية، والتي كانت فصيلاً فلسطينياً يسارياً، وبات الناطق الرسمي باسمها ورئيس تحرير مجلة "الهدف" التابعة للجبهة.
وقد ساهم غسان في وضع الاستراتيجية السياسية والبيان التأسيسي للجبهة، مؤكداً أهمية العمل الفدائي والكفاح المسلح، وكان دوره السياسي أساسياً في الجبهة الشعبية على الرغم من أنه لم يكن منضبطاً في العمل الحزبي ولم يشارك في الاجتماعات بشكل منتظم.
310 رهائن مقابل إطلاق سراح معتقلين فلسطينيين
في سبتمبر/أيلول 1970 أجبرت مجموعة من الجبهة الشعبية 3 طائرات على الهبوط في مطار داوسن فيلد العسكري الموجود في منطقة صحراوية بالقرب من الزرقاء في الأردن، وقد كان مهبط داوسون سابقاً قاعدة جوية بريطانية تحول فيما بعد إلى "المطار الثوري" للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
وقام أعضاء الجبهة حينها باحتجاز 310 رهائن بينهم 56 يهودياً، مطالبين بإطلاق سراح ليلى خالد ومعتقلين آخرين من الجبهة الشعبية، وقد انتهت العملية بإطلاق سراح 4 أسرى من أعضاء الجبهة كانت ليلى من ضمنهم.
وبالرغم من أن هذه الحادثة وقعت في صحراء الأردن، فإن غسان كنفاني كان في واجهة الحدث من بيروت على اعتباره متحدثاً باسم الجبهة الشعبية.
لم تكن هذه الحادثة الوحيدة التي أثارت استياء الحكومة الإسرائيلية، ففي 31 مايو/أيار عام 1972 قامت مجموعة من الجيش الأحمر الياباني بالتنسيق مع الجبهة الشعبية بإطلاق النار في مطار اللد الإسرائيلي الواقع في تل أبيب.
ووفقاً للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فقد وضعت رئيسة وزراء الحكومة الإسرائيلية آنذاك، غولدا مائير، قائمة بأسماء قياديين ومفكرين في الجبهة لاستهدافهم بعد وقوع حادثة مطار اللد، وكان على رأسهم غسان كنفاني.
40 ألف شاركوا في تشييع غسان كنفاني
وهكذا بعد انقضاء أقل من شهرين على تنفيذ عملية مطار اللد، تم اغتيال غسان كنفاني بزرع عبوة ناسفة تزن قرابة 9 كيلوغرامات تحت مقعد سيارته، ليفارق الحياة في 8 يوليو/تموز 1972. تاركاً وراءه إرثاً أدبياً ضخماً ساهم في تخليد اسم كنفاني إلى اليوم.
وفي يوم تشييعه، غصّت شوارع بيروت بما يزيد على 40 ألفاً من المشيعين، وقد وصف البعض جنازته التي ضمّت عدداً كبيراً من المثقفين والقادة السياسيين بأنها أكبر مظاهرة سياسية حدثت في العالم العربي بعد وفاة جمال عبدالناصر.
أعمال غسان كنفاني الأدبية
أصدر غسان كنفاني حتى تاريخ وفاته المبكّر 18 كتاباً، وكتب مئات المقالات والدراسات في الثقافة والسياسة وكفاح الشعب الفلسطيني.
في أعقاب اغتياله تمّت إعادة نشر جميع مؤلفاته بالعربية، في طبعات عديدة. وجمعت رواياته وقصصه القصيرة ومسرحياته ومقالاته ونشرت في أربعة مجلدات.
وتُرجمت معظم أعمال غسان الأدبية إلى 17 لغة ونُشرت في أكثر من 20 بلداً، وتمّ إخراج بعضها في أعمال مسرحية وبرامج إذاعية في بلدان عربية وأجنبية عدة، وتحولت اثنتان من رواياته إلى فيلمين سينمائيين.
ومن أشهر رواياته: "رجال في الشمس" (1963)، و"ما تبقى لكم" (1966)، و"أم سعد" (1969)، و"عائد إلى حيفا" (1970)، و"من قتل ليلى الحايك؟" (1969).
أما مجموعاته القصصية: "موت سرير رقم 12″ (1961)، و"أرض البرتقال الحزين" (1963)، و"عن الرجال والبنادق" (1968).
ومن أشهر الدراسات التي خلفها كنفاني هناك "أدب المقاومة في فلسطين" (1966)، و"في الأدب الصهيوني" (1967)، و"الأدب الفلسطيني المقاوم" (1968).
حياة غسان كنفاني الشخصية
"هل تتزوجيني؟ أنا فقير بلا مال ولا وطن. أعمل في السياسة، وقد تكون حياتي مهددة بالخطر. وأنا مصاب بالسكري".
هكذا عرض غسان كنفاني الزواج على آني هوفمن، الفتاة الدنماركية التي تعرف عليها في بيروت عام 1961، ووقع في حبها بعد أسبوعين من لقائهما فقط، وأثمر زواجهما عن طفلين هما: ليلى وفايز الذي سمّاه غسان تيمناً بجده.
وقد كانت آني ابنة لمناضل قديم ضد النازية، وبعد أن سمعت عن القضية الفلسطينية قررت أن تذهب إلى بيروت من أجل مساعدة اللاجئين الفلسطينيين، والتقت كنفاني هناك.
ورغم أن علاقة الزوجين استمرت بوئام حتى عام وفاته في 1972، إلا أن علاقة حب قد تكوّن من طرف واحد جمعت الأديب غسان كنفاني بالكاتبة السورية غادة السمان، التي قررت نشر رسائل الحب التي أرسلها لها الكاتب الفلسطيني بعد قرابة ربع قرن من استشهاده في كتاب يحمل عنوان "رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان"، بحجة أنها "كنز أدبي"، الأمر الذي وجده البعض مجرد تباهٍ من السمان بالعلاقة التي جمعتها يوماً مع مناضل بحجم كنفاني.