عُرفت قوات الانكشارية باعتبارها أحد أقوى جيوش العالم في بداياتها عندما أسّسها أورخان الأول بن عثمان مؤسس الدولة العثمانية. فهي القوة الضاربة للعثمانيين على مدار قرون، وهم أحد الفرق الأساسية في الجيش العثماني الذي فتح القسطنطينية، أحد أبرز إنجازات الدولة العثمانية. لكنّ نهاية هذا الجيش القوي كانت مختلفة. في هذا التقرير نحكي لكم عن مذبحة الانكشارية.
بداية الانكشارية.. قوة ضاربة ولاؤهم للسلطان فقط
تولّى أورخان بن عثمان الحكم عام 1326. كان والده عثمان قد أسّس إمارة حدودية صغيرة، واستطاع أورخان خلال ثلاثين عاماً من الحكم أن يوسّع مساحتها ستة أضعاف. كانت هذه هي بذرة الدولة العثمانية.
ولم يكن للدولة في ذلك الوقت جيش نظامي، فقد كان جيش الدولة يعتمد بالأساس على مقاتلي العشائر وجنود الإقطاع، إذ يتمّ إقطاع المقاتلين منطقةً زراعيةً ينتفعون منها شرط أن يكونوا تحت الطلب في الحروب. لكنّ هذه الطريقة لم تكن فعّالة خصوصاً في المعارك بعيدة المسافة عن تلك الأراضي التي يقطنها المقاتلين. فوجود أرض زراعية يستلزم استقراراً أكثر.
وهنا اقترح أحد المقرّبين من أورخان أن يؤسس جيشاً نظامياً، فبدأ في عزل الأطفال الأسرى من المعارك في معسكراتٍ خاصة، يتربّون ويعيشون فيها. يعتنقون الإسلام ويصبح ولاؤهم للسلطان العثماني فقط. وقد كان محظوراً على هؤلاء الجنود أن يتزوجوا. وأصبح اسمهم "ينجيشاري" أو "انكشاري" بالنطق العربي، ومعناها "الجنود الجدد".
صارت سمعة الانكشارية مخيفة ومرعبة، فقبل لقائهم في المعارك كانت سمعتهم تسبقهم إلى أعدائهم، ما كان أحد العوامل الكبيرة في انتصاراتهم. وهكذا، أصبح هذا الجيش أحد أقوى جيوش العالم، وقد جاءت انتصاراته في أوروبا لتزيد من سمعته الفتّاكة.
لكنّ القوات الانكشارية كانت سلاحاً ذا حدّين، ففي زمانها الأول كانت القوة الضاربة الأساسية للدولة العثمانية، لكنّها لاحقاً أصبحت قوّةً مُضعفةً لها. وتسببت في ضعفها بل وكادت أن تتسبَّب في ضياعها أكثر من مرّة.
الانكشارية.. من الولاء التام للسلطان للصراع معه وقتله
كما ذكرنا سابقاً، كان لدى الانكشارية انضباط صارم، وكانت لديهم تعليمات وقوانين خاصة بهم، فلم يكن مسموحاً لهم بالزواج، ولم يكن مسموحاً لهم بالتدخُّل في السياسة، أو التمتُّع بما يتمتّع به الناس العاديون من غير العساكر. وهذا ما ساعد على جعل التنظيم مركزاً فقط حول كونه تنظيماً عسكرياً مهمّته الحروب والمعارك.
مع الزمن دخل الانكشاريون في مساحاتٍ السياسة وتولّى عددٌ منهم مناصب سياسية في الدولة، ثمَّ سُمح لهم بالزواج كذلك. ترافق ذلك مع فعلٍ رمزيٍّ آخر. فقد تعوّد السلاطين العثمانيون على الخروج على رأس الجيوش في المعارك، لكنّ هذه العادة انقطعت بعد السلطان سليمان القانوني، فلم يعد السلاطين يخرجون على رأس الجيوش، وهو ما جعل الجنود ينظرون للسلطان بطريقة مختلفة، فبدلاً من كونه قائداً ميدانياً معهم يبثّ فيهم الحماسة ويحرز النصر بنفسه، أصبح قادته هم الذين يحاربون ويرتبطون بالجنود.
سجّل التاريخ العثماني صراعاتٍ طويلة وعميقة بين الانكشارية والسلطان، فقد تطوّرت العداوات بينهم وبين بعض السلاطين لدرجة أن قتلوا السلطان ليتخلّصوا منه. ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر قصّة السلطان الشاب عثمان الثاني.
عندما توفي السلطان أحمد الأوّل بدأ صراعٌ على العرش حسم في النهاية لصالح أخي السلطان. تولّى السلطان مصطفى الأول، وقد كان هذا السلطان ضعيف الشخصية ما جعل والدته تتحكّم في مفاصل الدولة. وهكذا أصبح عثمان الأوّل – أكبر أبناء السلطان السابق – على الهامش.
لكنّ مصطفى الأول لم يكن سلطاناً قوياً، ولم يطل به الأمر فتمّ إقصاؤه من العرش وتولّى عثمان الثاني وعمره 14 عاماً.
عندما تولّى عثمان الثاني السلطنة أطاح بعض القادة، وعيّن أستاذه صدراً أعظم. وبالإجمال لم تكن العلاقة بين الانكشارية وبين السلطان عثمان الثاني طيبة. فقد أراد السلطان جعلهم تحت سلطته كما كان الأمر تاريخياً، بينما أرادوا هم أن يتحكّموا في الدولة والسلطان.
قرّر السلطان عثمان الثاني غزو بولندا التي أخلّت ببعض اتفاقياتها مع الدولة العثمانية، وقرّر السلطان الخروج على رأس الجيش هذه المرّة، بعدما كان السلاطين السابقون لا يخرجون لقيادة الجيش بأنفسهم.
حاصر الجيش بولندا، واشتدّ الحصار وقتل قائد البولنديين. لكنّ قادة الانكشاريين أرادوا أن ينهوا الحصار وأن يعودوا إلى العاصمة إسطنبول، وهنا دخل السلطان في صدامٍ معهم.
اضطر السلطان لقبول قرار قادة الانكشارية، لكنّه وبّخهم في المعسكر، وعاد إلى إسطنبول وكلاهما يضمر للآخر سوءاً. قرر السلطان حين عودته تكوين جيش آخر في منطقة بعيدة عن العاصمة (حيث سيطرة الانكشارية)، ويقال إنّه فكر في نقل العاصمة إلى مدينة بورصا ليكون بعيداً عن الانكشارية وسيطرتهم والصراع معهم.
كان الصراع واضحاً في تلك المرحلة بين السلطان والانكشارية، علم الانكشارية بملامح خطة السلطان فافتعلوا مشكلةً وطالبوه بأن يسلّمهم الصدر الأعظم (وهو مستشاره ومعلّمه) ليقتلوه، فرفض السلطان. وقرر لاحقاً الخروج للحجّ، فعرفوا أنّه سيذهب لقيادة هذا الجيش الجديد ليعود لإسطنبول ويقضي عليهم.
واتفق القادة الانكشاريون على عزل السلطان، وفي عام 1622 دخلوا قصر السلطان وأعدموه وأعادوا عمّه مصطفى إلى الحكم.
كان عمر السلطان حين اغتياله 18 عاماً فقط. ولن يكون السلطان الوحيد الذي يقضي عليه الانكشارية. ومنذ مقتله تحوّل الانكشارية إلى كابوس للسلاطين العثمانيين.
للقراءة بالتفصيل عن قصة عثمان الثاني، يمكنك قراءة هذه المادة.
مذبحة الانكشارية.. السلطان محمود الثاني ينتقم لأخيه وينقذ الدولة العثمانية
ظلّ هذا الصراع على السلطة دائماً ومستمراً بين السلطان والقوات الانكشارية طيلة أكثر من قرنٍ ونصف. حتّى كان مشهدٌ آخر، وصل الصراع فيه بين السلطان و الانكشارية مرحلة شابهت مرحلة الصراع مع السلطان عثمان الثاني.
مُنيت الدولة العثمانية بهزائم كُبرى في هذين القرنين من الصراع، وباءت كل محاولات السلاطين العثمانيين بتحديث الجيش العثماني بالفشل، وكان الانكشارية أوّل حجر عثرة في وجه أي سلطان أراد تطوير الجيش.
حتّى خسرت الدولة العثمانية إقليم شبه جزيرة القرم تماماً في عهد السلطان عبدالحميد الأوّل، الذي يقال إنّ سبب وفاته هو نزيف في المخّ أصيب به تأثراً بهزيمة الدولة العثمانية أمام روسيا.
وتولّى من بعده ابن أخيه سليم الثالث. كان السلطان سليم الثالث شاباً في الثامنة والعشرين عندما تولَّى السلطنة، وأراد أن يقود عملية تحديث في كلّ أرجاء الدولة لينقذها من التردي الواقعة فيه منذ قرنٍ ونصف.
حاول السلطان نفس محاولات سابقيه، بأن استعان بالانكشارية في عملية التحديث، فإذا أراد تحديث الدولة والجيش من غيرهم قد يقتلونه، وإذا أراد القضاء عليهم فلن يستطيع كذلك.
فرض السلطان ما سماه "النظام الجديد"، وهو نظام تحديث للجيش، ووافق الانكشارية على تبنّيه، لكنّ الحقيقة أنّهم تبنوه نظرياً فقط بينما وضعوا كلّ العوائق أمام تطبيقه عملياً.
أدرك السلطان وصدره الأعظم مخادعة الجنود الانكشارية، فقرروا تطبيق "النظام الجديد" بعيداً عنهم، فأسّسوا فرقة جيشٍ جديدة تحت مسمى النظام الجديد، كانت هي الفرقة التي استطاعت أخيراً القضاء على الانكشارية. ولكن ليس في عهد السلطان سليم الثالث.
ومثلما حدث مع السلطان الشاب عثمان الثاني، حدث كذلك مع السلطان الشاب أيضاً سليم الثالث. فقد شعر الانكشارية بالتهديد بعدما علموا بتأسيس فرقة عسكرية حديثة تنافسهم، وتحالفوا مع الأمير مصطفى بن السلطان السابق عبدالحميد الأوّل.
ثار الانكشارية في العاصمة إسطنبول، وقد تراجع السلطان أمام هذا التمرُّد، فربما كانت ذكرى سلفه عثمان الثاني ماثلةً في ذهنه. فعيّن صدراً أعظم (الوزير الأعظم) مؤيداً للانكشارية ومعادياً للنظام الجديد. كانت محاولةً منه لامتصاص غضبهم، لكنّهم عزلوه مباشرةً في اليوم التالي وولوا ابن عمّه مصطفى، الذي أصبح السلطان مصطفى الرابع.
وقد تحرّكت الفرقة الجديدة التي أسسها السلطان وصدره الأعظم السابق، تحركت من بلغاريا عندما وصلها خبر عزل السلطان، لكنّ الانكشارية قتلوا السلطان ليضيّعوا عليهم أي فرصة لمحاولة إعادته للعرش.
لكنّ فرقة النظام الجديد كانت قد تدرّبت جيداً، واستطاعت هذه الفرقة أن تكمل تمردها وتطيح بالسلطان مصطفى الرابع بعد 13 شهراً فقط من حكمه، وعينوا محمود الثاني سلطاناً، وهو الأخ الصغير للسلطان السابق سليم الثالث.
لقراءة ببعض التفصيل عن قصة السلطان سليم الثالث، اضغط (هنا).
كانت تحرُّكات السلطان سليم الثالث طوال 18 عاماً من حكمه، تمهيداً لما سيفعله أخوه محمود الثاني في الانكشارية، فهو الذي سيقضي عليهم انتقاماً لمقتل أخيه من ناحية، وطبعاً انطلاقاً لتحديث الجيش العثماني المترهّل من ناحيةٍ أخرى.
على الجانب الآخر من عاصمة السلطان العثماني كان جيش محمد علي باشا في مصر حديثاً وقوياً، استطاع هزيمة حتّى القوات العثمانية لاحقاً. لكنّ كلّ هذا لم يتمّ لمحمد علي إلا بعدما نفّذ مذبحة المماليك الشهيرة، التي قتل فيها حوالي ألف من قادة المماليك، الذي كانوا يقفون في سبيل تطويره للجيش.
للقراءة أكثر حول مذبحة المماليك، اضغط (هنا).
كان السلطان محمود الثاني شاباً في الثالثة والعشرين عندما تولّى الحكم عام 1808، وخلال أول 18 عاماً من حكمه ظلّ السلطان ينتظر اللحظة الحاسمة التي يقضي فيها على الانكشارية. حتّى جاءته اللحظة عام 1826.
فرض السلطان عام 1826 التحديث العسكري على الانكشاريين. رفض جنود الانكشارية وبدأوا تمردهم المعتاد في إسطنبول: حرق المباني والبيوت.
كان السلطان محمود الثاني متجهّزاً لمثل هذا الموقف تماماً، فأمر فرقة المدفعيّة أن تحيط بهم ومراكزهم من كل الجوانب، وقصفتهم، فقتلت منهم 6 آلاف انكشاري. وهكذا انتهى هذا الكابوس تماماً، وأصبحت الدولة العثمانية متحررةً من عبئهم عليها.
جاء القضاء على الانكشارية متأخراً كثيراً، فلو تمّ القضاء عليهم في زمن عثمان الثاني، لربّما لم ينتهِ عمر الدولة العثمانية مع الحرب العالمية الثانية.الانكشارية – مذبحة الانكشارية – الدولة العثمانية – السلطان