في السجلات القديمة للفن، واللغة، والزخارف، والرموز وفي باطن الأرض، يبحث العلماء بفضول عن تعامل أسلافنا مع جثث الموتى والحزن عليهم؛ لعل هذه اللحظات الإنسانية الشديدة والصعبة تمنحنا أدلةً مهمة تكشف متى تطوّر تفكير البشر المجرد للمرة الأولى، من أجل تكوين إدراكٍ كامل عن فكرة الموت.
مدفن بشري عمره 78 ألف عام داخل كهف في الساحل الاستوائي لشرق إفريقيا يقدم فرصة محملة بالوعود لتشكيل صورة أوضح عن الحياة والموت في تصور الإنسان الذي عاش قبل آلاف السنين.
يزود المدفن الباحثين بدليلٍ مُحيّر حول طريقة تعامل أسلافنا مع الموتى، إذ تتحدث دراسةٌ جديدة، نشرتها مجلة Nature العلمية، عن جثةٍ مدفونة لطفل يتراوح عمره بين 2.5 و3 أعوام ويحمل لقب "متوتو" -وهي كلمةٌ تعني "طفل" باللغة السواحيلية"- داخل موقع بانغا يا سايدي الأثري في كينيا.
ويُعتبر موقع بانغا يا سايدي الأثري أقدم مدفنٍ معروف للإنسان العاقل بإفريقيا، حسب ما نشره موقع Quartz الأمريكي.
وبدأت أعمال الاستكشاف في عام 2010، وكشفت حتى الآن عن عددٍ من مدافن البشر التي تتراوح أعمارها بين 78 ألف عام و500 عام مضت، لتغطي فترات العصر الحجري الأوسط والعصر الحجري الحديث في علم الآثار الإفريقي.
ويقع مدفن متوتو بالقرب من قاعدة موقع الحفر، وجرى التعرف عليه للمرة الأولى؛ لاحتوائه على رواسب بلون مختلف عن محيطه.
وكشف الفحص الأولي عن تدهورٍ شديد في حالة العظام، وتبين أنّ تكتيكات الاستخراج القياسية لن تكون مجدية. وبدلاً من ذلك، قرر الخبراء استخراج حفرة المدفن بأكملها ككتلةٍ واحدة من الرواسب، وإرسالها إلى المركز الوطني لأبحاث التطور البشري في برغش بإسبانيا.
وبعد بضعة أسابيع من الحفريات المعملية المضنية، تم الكشف عن متوتو مستلقياً على جانبه الأيمن، مع ركبتيه مضمومتين إلى صدره. وكانت جمجمته سليمةً نسبياً، مما أشار -إضافة إلى التحليل المفصل للرواسب المحيطة- إلى أنّ الجسم تحلّل داخل قبرٍ مملوء.
بينما يُشير تغير موقع بعض العظام إلى أنّ الجزء العلوي من جسد متوتو كان ملفوفاً بإحكام بنوعٍ من المواد القابلة للتحلُّل -من الجلد أو أوراق النباتات- أو أنّ القبر كان مليئاً بالرواسب أثناء دفنه.
ومن المثير للاهتمام أنّ هناك أدلةً أيضاً على أنّ رأس متوتو ربما كان مدعوماً بمواد قابلة للتحلل داخل القبر. إذ عُثِرَ عليه ملتفاً في عكس اتجاه الجسم، وهو الأمر المعتاد عند تحلل وسادة الرأس لتترك فراغاً أسفله.
ومن الواضح أنّ متوتو وُضِعَ في قبره بعناية، وتُشير الأدلة إلى دفن جسد متوتو عن قصد، مع نوعٍ من المشاركة الاجتماعية أو الطقوس الجنائزية، مما يؤكد أن الجثة لم تُهجر هناك أو تُدفن بالمصادفة نتيجة حدث جيولوجي مثل الفيضان.
حالةٌ فريدة من نوعها؟
ماذا يكشف هذا القبر؟ اعتاد الإنسان العاقل والإنسان البدائي دفن موتاه في المواقع السكنية منذ 120 ألف سنة. فلماذا يعود تاريخ أقدم مدفن في إفريقيا إلى ما هو أقرب من ذلك بكثير، بالنظر إلى مركزية القارة في ظهور "السلوك البشري الحديث"؟
وهناك احتمالٌ يقول إنّ الشعوب الإفريقية اعتادت معاملة الموتى بشكلٍ مختلف قبل 78 ألف عام.
فهناك بعض الأدلة على أنّ الشعوب الأقدم في إفريقيا كانت تُزيل اللحم عن أجزاء الجسم الأساسية، خاصةً الجمجمة، وتُخزّن العظام فقط. وكان يُشار إلى هذه العملية باسم إزالة اللحم والتنظيف.
تدعم هذه الاحتمالية علامات الجروح والتلميع للجماجم التي يعود عمرها إلى 150 ألف عام، والتي عُثِرَ عليها في هيرتو بإثيوبيا.
ومن المحتمل أن هذه المعاملة الخاصة للموتى كانت مرتبطةً بالحزن أو الحداد.
وربما تكون المشكلة هي البحث عن جثث البشر الأوائل في الأماكن الخاطئة. إذ تحدث غالبية أعمال الاستكشاف الأثرية داخل المواقع السكنية. وإذا كانت الثقافات القديمة تتخلّص من الجثث بعيداً عن تلك المناطق، فسوف تكون الجثث مخفيةً من الناحية الأثرية.
وعلى سبيل المثال، ربما كانت الجثث تُترك في المناطق الطبيعية مثل الكهوف أو التجاويف الصخرية، وهي ممارسةٌ تُعرف باسم الإخفاء الجنائزي.
ولم تتضح حتى الآن الأهمية الثقافية للإخفاء الجنائزي، لكن يبدو أنّ الممارسة قديمةٌ للغاية. إذ عُثِر على تركيزٍ كبير من عظام أشباه البشر (البشراناوية)، التي يعود تاريخها إلى 430 ألف عامٍ مضت، داخل حفرة العظام في أتابويركا بإسبانيا.
وجميع هذه الأدلة تشير إلى احتمالية تغير الطقوس الجنائزية في إفريقيا بمرور الوقت، ما قد يُشير إلى حدوث تحوّل في الفترة ما بين 150 ألفاً و80 ألف سنة مضت تقريباً، من إزالة اللحم في هيرتو وحتى الإخفاء الجنائزي في بانغا يا سايدي.
ومن الصادم أيضاً أن كافة تلك المواقع تضم جثث أفرادٍ صغار في السن، ويبدو أنّ جثث الأطفال كانت تحظى بمعاملةٍ خاصة في العصور القديمة.
اختلاف طرق التخلص من جثث الموتى
ويعد تاريخ الجنازة البشرية موضوعاً صعباً للدراسة، ولا علاقة للكائنات الأخرى به، إذ كانت تترك موتاها، كما فعل أسلاف البشر.
لذلك في مرحلة ما من التاريخ، انتقل الأمر من التجول حول الجثث للتخلص منها عن قصد، وتحديد وقت حدوث هذا التغيير نوع من التحدي.
في حفرة بجبال أتابويركا الإسبانية، عُثر على عظام أشباه البشر عمرها مئات الآلاف من السنين، يُفترض أنها أقدم دليل على طقوس جنائزية؛ نظراً إلى وجودها بين الأدوات التي ألقيت بالحفرة إلى جانب الجثة.
وحسب الاكتشافات، فمن شبه المؤكد أن إنسان نياندثتال كان يدفن بقايا الموتى منذ عشرات الآلاف من السنين، حسب ما نشره تقرير على موقع Science Alert.
أما البقايا المتفحمة لامرأة أسترالية من السكان الأصليين بالقرب من بحيرة مونجو، فهي تمثل أقدم عملية حرق جثة عمرها نحو 40 ألف عام. لذلك يبدو أن التخلص من الموتى كان عرفاً طوال تلك المدة على أقل تقدير وإن اختلفت الطرق بين قارة وأخرى.