تراءى له طائر بديع الصنع يحلّق حول عرش عظيم محمول على أعمدة من اللهب، اقترب الطائر منه وهمس في أذنه: "ارتحِل شرقاً وأنا سأكون مرشدك السماوي، بينما سينتظرك رفيق بشري من مدينة فاس".. بسبب هذه الرؤيا، ارتحل محيي الدين بن عربي من مدينته مرسيَّة ليجوب في بلاد الشرق 23 عاماً، ويصبح واحداً من كبار المتصوفة والفلاسفة المسلمين على مر العصور.
ابن عربي، الشيخ الأكبر وسلطان العارفين
بالنسبة للصوفيين، لا يعتبر ابن عربي مجرد شاعر وفيلسوف، إنما يعده أتباعه من الأولياء ويلقبونه بـ"الشيخ الأكبر" و"سلطان العارفين"، وينسبون إليه الطريقة الأكبرية الصوفية.
وُلد ابن عربي في مدينة مرسيَّة الأندلسية عام 1164، لأب عربي يعود أصله إلى قبيلة طيئ الشهيرة، وأُم بربرية من شمال إفريقيا.
ونشأ في أسرة متدينة متصوفة، فوالده علي بن محمد، كان من أئمة الفقه والحديث، ومن أعلام الزهد والتقوى والتصوف في الأندلس، وقد حرص على تلقين ابنه علوم الدين منذ الصغر، فما إن أتم ابن عربي العاشرة من عمره حتى ألمَّ بالقراءات السبع للقرآن الكريم وبمعانيه، ودرس الفقه والحديث على أيدي أبرز فقهاء عصره.
وعندما بدأ علي بن محمد بالعمل في خدمة سلطان الموحدين، أبي يعقوب يوسف الأول، انتقل مع أسرته إلى إشبيلية، حيث ترعرع ابن عربي في بلاط الحكم وتلقى تدريباً عسكرياً، وما إن بلغ الرشد حتى تولى منصب نائب حاكم إشبيلية وتزوج امرأة تنتمي لأبرز العائلات الإشبيلية وتدعى مريم.
كانت حياة ابن عربي في الأندلس تبدو مثالية، فقد كان رجل دين يحظى باحترامِ من حوله، وصاحب مكانة مرموقة ورب أسرة مثالية.. مع ذلك كان هناك ما يدعوه للرحيل.
رؤى ابن عربي
تكاد لا تخلو قصة صوفي من رؤيا أو حلم كان سبباً في دخول الصوفي إلى عالم الروحانيات، وابن عربي ليس استثناء.
إذ يحكى أنه مرض في شبابه مرضاً شديداً، وبينما كان طريح الفراش بسبب الحمى رأى في منامه أنه محاط بعدد ضخم من قوى الشر المسلحين الذين يريدون الفتك به، وفجأة يظهر رجل قوي مشرق الوجه، يهجم على تلك الأرواح ولا يُبقي لها أثراً، وعندما سأله ابن عربي: من أنت؟ قال الرجل: أنا سورة يس.
بعد ذلك استيقظ ابن عربي ليجد والده جالساً بقربه يتلو عليه سورة يس، ولم يلبث أن شُفي من مرضه بعد ذلك.
اعتبر ابن عربي أن تلك كانت إشارة إلى استعداده لدخول عالَم التصوف، ولم يكمل عقده الثاني إلا وكان منغمساً في كتب المتصوفين والحكماء والعلماء والفلاسفة ومستعداً للسير في طريق الحياة الروحية حتى النهاية.
"ارتحِل شرقاً وأنا سأكون مرشدك السماوي"
يُحكى أنه قد تراءى لابن عربي- في حالة من اليقظة- طائر بديع الصنع يحلّق حول عرش عظيم محمول على أعمدة من اللهب، اقترب الطائر منه وهمس في أذنه: "ارتحِل شرقاً وأنا سأكون مرشدك السماوي، بينما سينتظرك رفيق بشري من مدينة فاس".
وتلك الرؤيا كانت سبباً في هجر ابن عربي لحياته المستقرة في الأندلس وبدء رحلاته الطويلة في بلاد الشرق، فزار مكة والطائف والموصل والقاهرة وحلب وأرمينيا، وبغداد حيث التقى الصوفيَّ المعروف شهاب الدين عمر السهروردي.
كما زار قونيَّة التركية حيث رحب به أميرها السلجوقي باحتفال ضخم، وتزوج هناك والدة صدر الدين القونوي، أحد تلامذته الصوفيين.
وبعد قرابة 23 عاماً من الترحال، استقر أخيراً بدمشق ولم يحمل معه في قلبه سوى "نظام"، حبيبته ومُلهمته التي كتب في مدحها "ترجمان الأشواق".
"ترجمان الأشواق" في مدح "نظام" الفارسية
عندما زار ابن عربي مكة المكرمة في عام 1201، استقبله شيخ فارسي جليل يدعى أبو شجاع بن رستم الأصفهاني، كان للأصفهاني ابنة وهبها الله وجهاً حسناً وروحاً مشرقة وعقلاً نيراً اسمها "نظام".
فتنت "نظام"، ابنَ عربي لدرجة أنه اعتبرها رمزاً ظاهرياً للحكمة الخالدة، وبعد زواجه بها، ساهمت "نظام" في تصفية حياة ابن عربي الروحية، وكانت ملهمته التي كتب في مدحها أحد أروع أعماله الشعرية على الإطلاق: "ترجمان الأشواق".
800 كتاب في الشعر والفقه والفلسفة
تزيد مؤلفات ابن عربي على 800 مجلد في الشعر والفلسفة والفقه، ولم يبقَ لنا منها اليوم أكثر من 100.
ولم يقتصر تأثير تعاليم هذا الشاعر الصوفي على العالم العربي فحسب، بل انتشرت كتاباته حول العالم وتُرجمت إلى اللغات الفارسية والتركية والأردية.
ولم تكن كتب ابن عربي حكراً على نخبة المسلمين، بل وجدت طريقها أيضاً إلى طبقات المجتمع الإسلامي كافة، نتيجة انتشار المد الصوفي واعتبار ابن عربي مُلهماً لكثير من الصوفيين الذين ينتمون إلى طبقات مختلفة من المجتمع.
ومن أبرز أعماله "ترجمان الأشواق" وهو ديوان شعري كتبه في مدح "نظام" الفارسية، و"الفتوحات المكية" وهو كتاب تضمن آراء ابن عربي الصوفية ومبادئه الروحية، وقيل إنه قد كتبه بناء على طلب مرشده السماوي الذي زاره مرة أخرى في أحد تأملاته.
كما كتب "تفسير ابن عربي" الذي يضم تفسيراً للقرآن وشرحاً لمعانيه، وله أيضاً كتاب "اليقين والإعلام بإشارات أهل الإلهام" و"شجرة الكون" وغيرها الكثير.
دمشق نهاية الحكاية
بعد ما يزيد على عقدين من الترحال، حط ابن عربي رحاله أخيراً في دمشق عام 1223، واستقر فيها بقية حياته، وكان أميرها واحداً من تلامذته المؤمنين بعلمه والمتبعين لتعاليمه.
وعاش ابن عربي ما تبقى من عمره مُعلماً وفقيهاً في دمشق، حيث كان له مجلس للعلم والتصوف قصده كثير من التلامذة وطلاب العلم من كافة الأنحاء، وكان أبرزهم الشيخ الصوفي جلال الدين الرومي المعروف في تركيا باسم "مولانا".
وبقي ابن عربي على هذه الحال حتى توفي عام 1240 ودُفن في سفح جبل قاسيون.