يعرف أغلبنا عادةً عن القادة المسلمين المشهورين، لكنّنا لا ننتبه كثيراً لآخرين غيرهم، قادةٌ مسلمون لهم إسهاماتهم العسكرية والسياسية الكبيرة، لكنّهم لم يحظوا بشهرةٍ كتلك التي حظى بها المشهورون عبر صفحات التاريخ، وأحد هؤلاء كان القائد المسلم محمد بن القاسم الثقفي.
قصة هذا القائد قصة مثيرة للاهتمام واستثنائية، فقد بدأ بزوغ نجم هذا القائد المغوار وهو على أعتاب سن السابعة عشرة، وانتهت إسهاماته بعد أربع سنواتٍ فقط، فقد توفي وحيداً غريباً في سجنه وهو لم يتمّ بعد الواحدة والعشرين، وبين هذين الرقمين أربع سنوات من الإسهامات الكبيرة، فمن هو هذا الشاب الذي فتح بلاد السند ونشر الإسلام في باكستان؟
الشاب الصغير ابن عمّ الحجّاج
وُلد ونشأ محمد بن القاسم في الطائف، حيث قبيلته ثقيف، التي خرج منها ابن عمّه الحجاج بن يوسف الثقفي، ذلك الرجل الذي أنهى نفوذ عبدالله بن الزبير وقَتَلَه في الحرم، وبعدها بعدّة أشهر عيّنه الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان على بلاد العراق، مكافأةً له على إنهاء خطر ابن الزبير.
وُلد محمد بن القاسم عام 694 (72 هجرياً)، أي قبل انتقال الحجاج بن يوسف إلى ولاية العراق بثلاثِ سنواتٍ فقط.
كانت مهمّة الحجاج في العراق هي إخماد أيّ ثورات واضطرابات وقلاقل سياسية هناك، خصوصاً أنها كانت أحد أكبر معاقل عبدالله بن الزبير. استطاع الحجاج أن يقوم بمهمّته ببراعة، وجاء وقت توجيه جهود جيوشه وتركيزها نحو فتوحاتٍ جديدة، فالدولة الأموية لا تتحمّل الآن تصدّعاتٍ أكثر بعد أن استقرّ لها الأمر بالقضاء على ابن الزبير.
احتاج الحجاج أن يضمن ولاء قادته وولاته في إقليم العراق، فاستقدم بعض أهل قرابته الذين كان من بينهم القاسم الثقفي، والد محمد، الذي أصبح والياً على مدينة البصرة العراقية. وهكذا عاش محمّد الثقفي في كنف أبيه في العراق.
ومنذ البداية ظهرت علائم الفروسية والقيادة على الشاب اليافع. وإذا كانت لديك عبقريةٌ ناشئة، وهو ابن عمّك في نفس الوقت، فستستغلّه لتوطيد سلطانك وقوّتّك في الدولة التي ساهمت في إرساء استقرارها، هكذا فكّر الحجّاج، وهكذا خدمت الظروف محمد بن القاسم ليحقق ما هو مكتوبٌ له تحقيقه.
محمد بن القاسم يصبح قائداً عسكرياً في السابعة عشرة
أعطى الحجاج الفرصة والاختبار لابن عمّه محمد بن القاسم عندما نشب تمرد صغير في بلاد فارس فأرسله للقضاء عليه. نجح محمد في المهمّة فعيّنه ابن عمّه الحجاج والياً له على بلاد فارس، وزوّجه ابنته زبيدة، ليوطّد الأواصر أكثر بينه وبين النجم العسكريّ الصاعد. كان عمر محمّد آنذاك 17 عاماً فقط.
أصبحت مهمّات محمّد بن القاسم الثقفي واضحة: القضاء على التمردات في بلاد فارس، ودعم الاستقرار بها، وهكذا قضى على التمردات هناك.
في نفس التوقيت، كانت بلاد السند (باكستان حالياً) قد بدأت عمليات قرصنةٍ بحريّة، تستهدف التجار في المحيط الهندي وبحر العرب، وهي إحدى المناطق المهمّة جداً والحيوية للتجار المسلمين والعرب. بدأت الشكايات تصل إلى والي العراق، الحجاج بن يوسف الثقفي، لكنّ القشة التي قصمت ظهر البعير كانت أنّ القراصنة قد أسروا بعض النساء المسلمات، واستغاثت إحداهنّ بالحجاج، وتذكر بعض الروايات أنّ إحداهن استطاعت تسريب استغاثتها للحجاج وهي في الأسر.
أصبحت الفرصة سانحةً إذن للقضاء على النفوذ الهندوسي في بلاد السند. كانت غالبية سكان بلاد السند من البوذيين، وكانت سياسات الملك داهر (ملك بلاد السند) لا تحظى بشعبيةٍ كبيرة في بلاد السند.
أرسل الحجاج رسالةً إلى الملك داهر يطلب فيها تسليم الأسيرات المسلمات، فرفض داهر متعللاً بأنه لا يعرف من القراصنة الذين أسروا السيدات المسلمات. فقرر الحجاج أن يوجه جهوده لفتح بلاد السند، وبهذا يشغل جيوشه في الفتوحات ويبعدها عن التمرد والثورات على الخليفة الأموي.
أرسل الحجاج لفتح بلاد السند حملتين عسكريتين لم تنجحا في فتحها، وهنا كان الطريق مفتوحاً لمحمد بن القاسم الثقفي، ابن عمّه وزوج ابنته، والنجم الصاعد. فأمره بفتح بلاد السند، وهنا أعدّ محمد بن القاسم عدّته من بلاد فارس، ودعمه الحجاج بكلّ ما طلب، فخسارةٌ ثالثة بعد محاولتين فاشلتين تعني الكثير بالنسبة لوضع الحجاج في الدولة الأموية.
كانت تكلفة الحملة العسكرية 60 مليون درهم، وكانت غنائمها الضعف: 120 مليون درهم.
محمد بن القاسم الثقفي.. فاتح بلاد السند
سار محمّد من بلاد فارس إلى بلاد السند، وفي طريقه إليها ضمّ العديد من المُدن التي لم تكن واقعةً تحت سلطته، وكانت المعركة الأكبر التي خاضها هي معركة ميناء الديبل، وهو ميناءٌ قديم حيويّ يطلّ على بحر العرب، وكانت تنطلق منه هجمات القراصنة على التجار المسلمين.
استطاع محمّد وجيشه أن يقتحم أسوار المدينة بعد كرٍّ وفرٍّ من حاميتها العسكرية، وبأوامر الحجّاج استبيحت المدينة التي أرّقت التجار المسلمين طيلة 3 أيام بلياليهنّ.
بعدما انتهت المعركة أمر محمد بن القاسم ببناءٍ مسجدٍ جامع في المدينة، وجعل المسلمين يستوطنونها لنشر الإسلام فيها.
لكنّ معركة الملك داهر ملك بلاد السند لم تنتهِ بعد، نعم سقطت قلعة وميناء الديبل بما لها من رمزيةٍ دينية وسياسية كبيرة، لكنّ جيش داهر لا زال باستطاعته المقاومة.
قبل المقاومة النهائية، سقطت العديد من مدن بلاد السند المدينة تلو الأخرى أمام جيش القائد الشاب، إلى أن حانت اللحظة، فخرج داهر بجيشه الكبير لمواجهة جيش محمد بن القاسم.
تواجه الجيشان أخيراً، الملك داهر المحنّك، حاكم بلاد السند، والشاب محمد بن القاسم الثقفي ذو السبعة عشر عاماً، وكانت نتيجة المعركة الملحمية نهائية: قُتل داهر والعديد من قادته. وبعد المعركة قتل الأسرى العسكريون من جيشه دون استثناء.
وبخسارة داهر المروعة ومقتله، أصبحت بلاد السند لقمةً سائغة لمسيرة محمد بن القاسم فيها، فاستسلمت له المدينة تلو الأخرى داخلةً في طاعته دون إراقة دماء.
كانت سياسة محمد بن القاسم بعد ذلك في السند محنّكة للغاية، فقد أشرك النخب المحليّة في الحكم، والتي أصبحت تشعر بأنها جزءٌ من السلطة الجديدة، واستقرّت بلاد السند حيناً طويلاً.
لكنّ الدنيا لم تمهله كثيراً
توفي الحجاج عام 714، بعد فتح بلاد السند بمدةٍ يسيرة، وكانت هذه الوفاة زلزالاً في حياة محمد بن القاسم فقد مات راعية وداعمه في الدولة الأموية.
لكنّ الضربة القاضية كانت عندما توفي الخليفة الوليد بن عبدالملك عام 715، وتولّى أخوه سليمان بن عبدالملك بكلّ ما يحمله من عداوةٍ للحجاج بن يوسف.
ذهبت دولة الحجاج بن يوسف أدراج الرياح فجأةً، استبدل الخليفة الجديد بقادة الحجاج قادةً آخرين، فعُزل محمد بن القاسم الثقفي عن ولايته على بلاد السند، واستخدم بدلاً منه عدواً سابقاً للحجاج هو يزيد بن أبي كبشة، الذي اعتقل بن القاسم وأرسله إلى عامل العراق الجديد: صالح بن عبدالرحمن الذي كان الحجاج قد قتل أخاه سابقاً.
في السجن، انتقم صالح بن عبد الرحمن من الحجاج في ابن عمّه محمّد بن القاسم الثقفي، فعذّبه تعذيباً شديداً، حتّى توفي عام 715 في السجن قبل أن يبلغ الواحدة والعشرين.