يقال إن نبوخذنصر، أعظم ملوك بابل، قد أصيب لمدة سبع سنوات بمرض نفسي غريب، فكان يعتقد أنه "ثور"، وراح يمشي على أطرافه الأربعة ويأكل العشب من المراعي ويستعيض عن الكلام بالصراخ والخوار، وكل ذلك بسبب نبوءة غريبة.. تعرف حالة الملك البابلي اليوم باسم البانثروبيا وهي اضطراب نفسي نادر للغاية أصاب نبوخذنصر في القرن السادس قبل الميلاد، كما أصاب أميراً فارسياً عالجه الطبيب المسلم ابن سينا في القرن العاشر، وفي العصر الحديث لا تزال تلك الحالة موجودة على ندرتها.
فلنتعرف أكثر على هذا المرض وعلى تفاصيل معاناة الملك البابلي منه:
البانثروبيا ونبوخذنصر
بالرغم من أن البانثروبيا هي اضطراب نفسي نادر للغاية، فإنه من السهل جداً تشخيصه وملاحظة أعراضه، فالمصابون بهذا المرض يعتقدون أنهم أبقار أو ثيران ويبدأون بالتصرف على هذا الأساس.
يفقد المصابون بالبانثروبيا إحساسهم بأنهم بشر، ويبدأون بالمشي على أربع، ويأكلون من أعشاب المراعي ويفقدون القدرة على الكلام ويستعيضون عنه بالصراخ والخوار.
لحد الآن، لا تزال أسباب هذا المرض غير واضحة تماماً، خصوصاً أنه نادر للغاية، لكن يعتقد العلماء أنه قد يكون أحد أشكال الأمراض النفسية الأخرى مثل الفصام والاضطراب ثنائي القطب، وقد تؤدي الهلوسة إلى اعتقاد المصاب أنه لم يعد بشرياً.
كذلك يُعتقد أن الخلل قد يكون وراثياً أو عصبياً، فقد يكون الشخص مصاباً بالبورفيريا على سبيل المثال، وهي اضطراب إنزيمي يظهر مع أعراض عصبية تشمل الهلوسة والاكتئاب والقلق والبارانويا إضافة إلى الإصابة بشلل جزئي، وفقاً لما ورد في موقع The pharmaceutical Journal.
وقد ربط الطبيب النمساوي سيغموند فرويد هذه الحالة بالأحلام، إذ يوجد بعض المرضى الذين حلموا في البداية أنهم أبقار ثم صدقوا أحلامهم على أرض الواقع.
ونظراً لأن أسباب البانثروبيا غير محددة بشكل جيد، فإن العلاج كذلك ليس واضحاً، وقد يشمل العلاج النفسي والدوائي لمساعدة المصاب على التخلي عن هذا الوهم.
البانثروبيا ليست مرضاً حديثاً، فقد أصيب به بعض البشر عبر التاريخ، ولعل أبرزهم الملك العظيم نبوخذنصر الذي اعتلى عرش بابل عام 605 قبل الميلاد.
نبوخذنصر قبل البانثروبيا
وردت قصة نبوخذنصر في الكتاب المقدس، وفي سفر دانييل على وجه التحديد، إذ قيل إنه أصيب بالجنون و"طُرد من بين الناس وأكل العشب كالثيران".
لكن قبل أن يصاب نبوخذنصر بهذا المرض الذي يُشخص اليوم على أنه بانثروبيا، كان واحداً من أعظم الملوك الذين عرفتهم بابل على الإطلاق.
لقد جعل نبوخذنصر الإمبراطورية الكلدانية البابلية من أقوى الإمبراطوريات في العالم، واستطاع بذكائه وقوة جيوشه أن يفرض سيطرته على مناطق واسعة من الدول المجاورة، فخاض حروباً ضد الآشوريين واستولى على مناطق كانت خاضعة لنفوذهم مثل الشام وفينيقية، كما حارب المصريين وقام بإسقاط مدينة أورشليم (القدس) مرتين الأولى في 597 قبل الميلاد والثانية عام 587. وكانت النتيجة بناء إمبراطورية كلدانية بابلية عظيمة امتدت قوتها من الخليج العربي وبلاد الفرس إلى البحر الأبيض المتوسط.
وقد ذكرت بعض المصادر نبوخذنصر على أنه ملك حكيم وعادل لم يقم بغزو المدن وتدميرها إنما قام بفتحها واكتفى بفرض الجزية على سكانها، في حين ذكرته مصادر أخرى على أنه ملك ظالم ومتغطرس.
وبعيداً عن أعماله العسكرية، ازدهر العمران في عهد نبوخذنصر، فتم بعهده بناء تحف عمرانية مثل بوابة عشتار والحدائق المعلقة ومعبد إيتيمينانكي كما نسب إليه بناء تمثال أسد بابل الذي لا زال موجوداً في بابل لحد الآن، فضلاً عن تعبيد العديد من الطرق في الشام وجبال لبنان.
لكن كيف أصيب ملك بهذه المواصفات بمرض مثل البانثروبيا؟
نبوءة أدت إلى جنون الملك لسبع سنوات
وفقاً للقصة التي وردت في الكتاب المقدس، فقد أرق حلم غريب ملك بابل فلم يستطع أن يتذوق طعم النوم قبل معرفة تفسيره.
كان من الشائع آنذاك أن يقوم السحرة والمنجمون بتفسير الأحلام، لكن نبوخذنصر لم يرد أن يقوم أحد منهم بخداعه وإعطائه تفسيراً خاطئاً، لذا جمع السحرة والمنجمين وأخبرهم بأن عليهم أن يتكهنوا بحلمه أولاً ثم يخبروه بالتفسير ثانياً وإلا سيقطع رؤوسهم.
بالتأكيد لم يستطع أي منهم التكهن بحلم الملك الغريب وأخبروه أن هذا أمر متعذر على البشر ولا يملك علمه سوى الآلهة، لكن هذا العذر لم يقنع الملك فقام بقتلهم جميعاً.
ولم يستطع أحد معرفة حلم الملك وتفسيره إلا النبي دانييل الذي مثل بين يدي نبوخذنصر وأخبره بالحلم وتفسيره، لكن نبوخذنصر وبالرغم من الحكمة التي أظهرها له دانييل لم يؤمن بالله فحقت عليه النبوءة التالية: "يطردونك من بين الناس وتكون سكناك مع حيوانات البراري ويطعمونك العشب كالثيران ويبلّونك بندى السماء فتمضي عليك سبعة أزمنة حتى تعلم أن العليّ متسلط في مملكة الناس ويعطيها من يشاء".
وقد تحققت هذه النبوءة بالفعل وفقاً للنص التوراتي الذي جاء فيه: "كل هذه الأمور حدثت للملك نبوخذنصر. بعد اثني عشر شهراً من الحلم.. اضطر نبوخذنصر إلى الابتعاد عن الناس. بدأ يأكل العشب مثل الثور. تبلل من الندى. كان شعره يطول مثل ريش نسر، وأظافره تطول مثل مخالب طائر". وقيل إن جنون الملك البابلي استمر سبع سنوات.
يعتقد بعض المؤرخين أن قصة جنون الملك ما هي إلا قصة خيالية، لكن بطبيعة الأحوال، وسواء كان المرض قد أصاب نبوخذنصر أم لا، ندرك اليوم أن تلك الحالة تعرف في مجال الطب النفسي باسم البانثروبيا.
فيما عدا نبوخذنصر.. حالة بانثروبيا أخرى واجهت ابن سينا
وفقاً لما ورد في موقع Medizzy Journal، فقد واجه الطبيب المسلم ابن سينا حالة بانثروبيا، إذ لجأ إليه ذوو الأمير مجد الدولة يطلبون منه علاج ابنهم المريض والذي يعتقد أنه "بقرة".
كان الأمير يرفض تناول الطعام والشراب والدواء، ولم يكتف فقط بالادعاء بأنه بقرة بل كان يطالب أهله بذبحه ويصر على ذلك إصراراً شديداً، وقد شعر الأطباء والمعالجون بالعجز التام أمام حالته حتى قابله ابن سينا.
لم يحاول ابن سينا إقناع المريض بأنه بشري كما فعل الأطباء الآخرون، بل وصل إلى منزل المريض مدعياً أنه الجزار، وصرخ عندما دخل إلى المنزل "أين البقرة؟" فخرج المريض يمشي على أطرافه الأربعة قائلاً "أنا البقرة". ربطه ابن سينا وباشر بشحذ سكينه ثم التفت إلى ذوي المريض وقال لهم: إن هذه "البقرة" تعاني من سوء التغذية؛ سيكون ذبحها بهذه الحالة خسارة كبيرة، يجب إطعامها جيداً وعندما تكتسب بعض الوزن سنقوم بذبحها.
منذ ذلك اليوم لم يعد المريض يقاوم تناول الطعام والشراب والدواء، ومع تحسن صحته العامة واكتسابه للوزن مرة أخرى تلاشى شعوره بأنه بقرة وبدأ بالتحسن.