لم يكن تولي النساء لمناصب قيادية أمراً شائعاً في التاريخ القديم، ففي مصر القديمة على سبيل المثال حرمت "الآلهة" تولي النساء لعرش مصر، وفي مجتمعات أخرى فرضت العديد من القيود الاجتماعية التي تمنع النساء من الوصول إلى الحكم. مع ذلك هناك ملكات عظيمات حكمن بلادهن في ذلك الوقت واتسم عهدهن بأنه عهد رخاء وتقدم فكري وعمراني، فلنتعرف على أبرزهن:
ملكات عظيمات خلدهن التاريخ
270 بعد الميلاد: زنوبيا.. ملكة تدمُر
على الرغم من أن فترة حكمها كانت وجيزة، فإن التاريخ لا يزال يذكر زنوبيا على أنها واحدة من أعظم الملكات على مر التاريخ، فقد جعلت من تدمر قوة عظمى في الشرق الأدنى وألهم صعودها السريع المؤرخين والفنانين والروائيين لعدة قرون.
لا يوجد الكثير من المصادر التاريخية الموثوقة التي تتحدث عن بدايات حياة زنوبيا، لكن من المعروف أنها ولدت لعائلة نبيلة يرجح أنها كانت مقربة من العائلة المالكة وذلك غالباً في العام 240 بعد الميلاد، وفقاً لما ورد في موقع National Geographic.
تلقت زنوبيا تعليماً يليق بمكانتها كسيدة نبيلة، إذ أتقنت أربع لغات هي الآرامية – اللغة المحلية لسكان تدمر – والمصرية واللاتينية واليونانية التي كانت أيضاً شائعة الاستخدام في تدمر آنذاك.
ويقال إنها تلقت تعليماً مبكراً في الإسكندرية، حيث درست تاريخ الإغريق والرومان، وكانت معجبة بشخصية كليوباترا وتحلم بامتلاك المجد والسلطان منذ صغرها.
تزوجت زنوبيا في سن الرابعة عشرة من أوديناثوس حاكم مدينة تدمر وأنجبت منه طفلين هما فابالاثوس وحيران الثاني، وبالرغم من أنها كانت زوجته الثانية فإنها كانت المفضلة لديه فقد رافقته في جميع حملاته العسكرية وكانت شريكته في مسائل الحكم الأمر الذي نما لديها خبرة عسكرية ونفوذاً سياسياً.
بعد اغتيال زوجها، اعتلت زنوبيا عرش تدمر كوصية على ابنها الصغير فابالاثوس، وبدأت على الفور بتوطيد سلطتها في الشرق مع الحفاظ على تبعيتها للسلطة الرومانية.
كانت تدمر مدينة متعددة الأعراق فقد ضمت العموريين والآراميين والعرب، كما كانت متعددة اللغات والثقافات نظراً لكونها مسيطرة على خط التجارة الصحراوي لطريق الحرير، ولكون تجارها نشطين في مناطق بعيدة مثل أفغانستان والخليج العربي.
وعلى الرغم من التعدد في الأعراق والثقافات في تدمر استطاعت زنوبيا كسب تأييد كافة فئات شعبها لتبدأ نشاطها التوسعي في الشرق.
وإلى جانب نشاطها العسكري، أولت زنوبيا اهتماماً خاصاً بالبناء وفنون العمارة، وحولت تدمر وبلاطها إلى مركز تعليمي جذب العديد من العلماء والفلاسفة المشهورين.
استغلت زنوبيا تشتت الرومان بسبب غزواتهم في أوروبا وبدأت بتوسيع رقعة ملكها فأخضعت سوريا بالكامل تحت سلطانها إلى جانب شمال بلاد ما بين النهرين ومملكة يهودا، كما غزت مصر وتمكنت من السيطرة عليها.
تشير بعض المصادر إلى أن زنوبيا كانت تسعى لتنصيب ابنها كشريك للإمبراطور الروماني في النصف الشرقي من الإمبراطورية، ويرجح أنها كانت ستتوصل إلى اتفاق مع الإمبراطور الروماني جوثيكوس، إلا أنه توفي عام 270 وخلفه الإمبراطور أوريليان الذي اتبع سياسات مختلفة مع تدمر وملكتها.
في البداية قامت زنوبيا بسك عملات معدنية تحمل صور أوريليان كإمبراطور وابنها فابالاثوس كملك، لكنها ما لبثت أن أعلنت انفصالها الرسمي عن الإمبراطورية عام 272 حيث نصبت نفسها إمبراطورة مستقلة.
لكن الإمبراطور الروماني أوريليان لم يتغاضَ عن ذلك التحدي واستجمع قواته متوجهاً نحو مصر، حيث استطاع استردادها إلى جانب منطقة وسط الأناضول، وتراجعت زنوبيا وأتباعها باتجاه تدمر.
حاصر أوريليان تدمر لفترة طويلة وعندما أوشك على التمكن منها حاولت زنوبيا التسلل خارج المدينة والهروب إلى بلاد فارس حيث كانت تأمل في تشكيل تحالف مع الفرس وإعادة تشكيل جيشها من جديد.
لكن من سوء حظها أن جنود أوريليان استطاعوا الإمساك بها وتم الإعلان بذلك عن استسلام تدمر للرومان بعد حصار مضنٍ دام طويلاً.
1500 قبل الميلاد: حتشبسوت الملكة الشهيرة التي أصبحت ملكاً
لو كان الحكم ينتقل إلى النساء، لكانت حتشبسوت أول من يرث العرش الملكي في سن الثانية عشرة عند وفاة والدها، لكن الأميرة الصغيرة وجدت سبيلاً آخر للحكم بزواجها من أخيها غير الشقيق تحتمس الثاني، لتصبح بذلك زوجته وملكته.
وُلدت الأميرة حتشبسوت عام 1508 قبل الميلاد وكان والدها الفرعون تحتمس الأول.
لم تتمكن حتشبسوت من إنجاب وريث للعرش كي تحكم باسمه لاحقاً فكان لها ابنة وحيدة هي نفرو رع، وكان لزوجها ابن هو تحتمس الثالث أنجبه من محظية.
وفي سن السابعة والعشرين، توفي تحتمس الثاني وأصبحت حتشبسوت وصية على ابن زوجها تحتمس الثالث.
يُزعَم أن آلهة مصر أصدرت مرسوماً يقضي بأنَّ دور الملك لا يُسنَد إلى امرأة. ويتكون البانثيون المصري (مجمع الآلهة) من 24 إلهة مصرية و26 إلهاً ذكراً، و6 آلهة غير محددي الجنس. وكانت أقوى معبودة مصرية هي إيزيس، ثم ظهرت بعد ذلك حتحور وباستت وماعت ونوت وغيرها الكثير. لذا يُرجَّح أنَّ من فرض "مرسوم الآلهة" هذا هم رجال الدين والسياسيون الذكور.
مع ذلك فقد اعتقدت حتشبسوت أنَّ المعبودات الـ24 سيدعمنها؛ لذا بحلول عام 1437 قبل الميلاد تحدت ذلك المرسوم ونصبت نفسها ملكة فرعونية بالقوة.
ولاكتساب الشرعية في عيون رعاياها، وربما التوصل إلى حل وسط مع رجال حاشيتها، غيَّرت حتشبسوت اسمها، الذي يعني "أنبل السيدات"، إلى النسخة الذكورية حتشبسو. وصُوّرَت، على جدران المعابد وفي التماثيل، وهي ترتدي ملابس رجالية ولحية زائفة.
وتقليدياً، تُطلَى تماثيل الرجال بصبغة حمراء داكنة والنساء بصبغة صفراء أفتح، لكن المثير للاهتمام أنَّ تماثيل حتشبسوت رُسِمَت بلون بشرة برتقالي فريد، وهو مزيج اللونين.
وخلال فترة حكم حتشبسوت التي امتدت 21 عاماً ازدهرت التجارة في مصر، كما ازدهر العمران إذ كلَّفت الملكة بتنفيذ مئات من مشاريع البناء في جميع أنحاء مصر، من أهمها مجمع المعبد الجنائزي في الدير البحري، على الضفة الغربية لنهر النيل.
وفي ما يتعلق بسياستها في العلاقات الخارجية، فقد حافظت في الغالب على علاقات دبلوماسية وسلمية، لكنها قادت أيضاً حملات عسكرية في النوبة وكنعان، وأرسلت مجموعات مداهمة إلى بيبلوس (جبيل الآن) وسيناء.
وتُوفِيَت حتشبسوت في عام 1458 قبل الميلاد تقريباً، عن عمر يناهز الأربعينيات. وحاول ابن زوجها تحتمس الثالث محو كل الأدلة على حكمها، ولم يُكشَف عن وجودها وحكمها المذهل إلا في عام 1822 ميلادية، عندما تُرجِمَت رموز الهيروغليفية على جدران الدير البحري.
وبينما اكتُشِفَت مومياوات تحتمس الأول والثاني والثالث في المقبرة 320، في وادي الملوك، لم يُعثَر على مومياء حتشبسوت حتى عام 2007، وفقاً لما ورد في موقع Ancient Origins الأيرلندي.
1000 قبل الميلاد: ملكة شبا.. مؤسسة الأسرة السليمانية الحبشية
تعترف الديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام بوجود ملكة شبا، إلا أن موقع مملكتها كان موضوع نزاع على الدوام.
إذ يقول البعض إنها تقع في جنوب الجزيرة العربية باسم مملكة سبأ (اليمن حالياً)، وتشير المصادر العربية إلى ملكتها باسم بلقيس، فيما يزعم آخرون أن ملكة شبا التي تدعى ماكيدا قد حكمت إثيوبيا فيما مضى.
ويدعم تلك المزاعم المؤرخ اليهودي للقرن الأول الميلادي جوزيفوس في كتابه "آثار اليهود" الذي عرف فيه شبا بأنها مدينة ملكية محاطة بأسوار في إثيوبيا.
ويمكن العثور على هذا الاسم أيضاً في ملحمة كيبرا ناغاست (مجد الملوك)، التي كُتِبت في القرن الرابع عشر، وتُعتبَر ملحمة إثيوبيا الوطنية.
وقد كانت ملكة سبأ تمتلك ثروة ضخمة. وفي القرآن، يخبر الهدهد الملك سليمان عن أرض سبأ التي تحكمها امرأة، كما جاء في سورة النمل: "أُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ". ويؤكد ثروتها الإصحاح العاشر من سفر الملوك الأول في الكتاب المقدس العبري على النحو التالي:
"ثمَّ أعْطَتْ مَلِكَةُ سَبَأ المَلِكَ مِئَةً وَعِشْرِينَ قِنْطَاراً مِنَ الذَّهَبِ، وَكَمِّيَّةً كَبيرَةً مِنَ التَّوَابِلِ وَالحِجَارَةِ الكَرِيمَةِ. وَلَمْ يُقَدِّمْ إنْسَانٌ تَوَابِلَ فَاخِرَةً لِلمَلِكِ سُلَيْمَانَ كَتِلْكَ الَّتِي قَدَّمَتْهَا لَهُ مَلِكَةُ سَبَأ".
وعلى الرغم من أنَّ الملكة كانت تدرك القوة العسكرية لمملكتها، فقد اختارت نهجاً أكثر دبلوماسية وقررت إرسال هدايا للملك سليمان. لكن سليمان رفض الهدايا، وجاء في القرآن الكريم: "قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ".
في النهاية قررت ملكة شبا السفر إلى القدس مُصطَحِبة معها "قافلة رائعةً للغاية من الجمال المُحمَّلة بالبهارات والكثير من الذهب والأحجار الكريمة".
وكما ورد في الكتاب المقدس فقد طلبت من الملك سليمان حل ثلاثة ألغاز لاختبار حكمته، وجعلها بدوره تمشي فوق أرضية زجاجية ظنت خطأ أنها ماء.
ثم تزوج الملكان وحملت ملكة سبأ من الملك سليمان وأنجبت منه ابناً اسمه منليك، الذي أصبح ملكاً بدوره، ومن هنا تأسست أسرة سليمان الملكية في إثيوبيا، التي حكمت حتى عام 1974.
وفي اليمن، لم يعثر علماء الآثار الذين كانوا ينقبون في معبد أوام، المُلقَب بمحرم بلقيس، على أية إشارة إلى ملكة سبأ في العديد من النقوش هناك، ويذكر المتحف البريطاني أنه لا يوجد دليل أثري على وجودها حتى الآن.
69 قبل الميلاد: كليوباترا.. الملكة العبقرية
كانت كليوباترا آخر حكام المملكة البطلمية في مصر، وتعتبر من أكثر الشخصيات إثارة للاهتمام في التاريخ، فقد حيكت الأساطير عن جمالها الذي يرجح المؤرخون أنه كان عادياً وليس أخاذاً كما يُعتقد، كما شكلت علاقتها الغرامية مع كل من يوليوس قيصر ومارك أنطوني مادة دسمة ألهمت الكثير من الأعمال الأدبية والفنية.
وُلِدَت كليوباترا عام 69 قبل الميلاد وهي ابنة الفرعون بطليموس الثاني عشر الذي حكم مصر حتى وفاته عام 51 قبل الميلاد، وللحفاظ على نقاء السلالة تزوجت كليوباترا شقيقها الأصغر بطليموس الثالث عشر وتسلّما معاً الوصاية المشتركة على مصر.
لم تكن كليوباترا لترضى أن يشاركها أحد في عرش مصر لذا اشتعلت حرب أهلية مع أخيها أدت إلى تدخل يوليوس قيصر، القنصل الروماني، ووفاة بطليموس الثالث عشر.
وعيَّن القيصر كليوباترا، التي كانت تبلغ 22 عاماً من العمر وقتها، وشقيقها الأصغر بطليموس الرابع عشر، حاكمين مشتركين على مصر، لكن كليوباترا أمرت كذلك باغتيال أخيها الثاني لتنفرد بالسلطة التامة.
بالرغم من أننا اليوم نعلم أن كليوباترا كانت مشهورة بجمالها، فإنها في الحقيقة لم تكن على قدر كبير من الجمال، لكنها في المقابل كانت شديدة الذكاء وقوية الشخصية كما كانت سياسية محنكة ومخططة عسكرية بارعة.
وكانت أول فرعونية يونانية تتعلم اللغة المصرية القديمة، وتمكنت من ترجمة الهيروغليفية، وأتقنت بالطبع اللغة اليونانية -لغتها الأم- بالإضافة إلى لغات البارثيين واليهود والميديين والبربرية (الخاصة بسكان الكهوف) والسوريين والإثيوبيين والعرب. ودرست أيضاً الجغرافيا والتاريخ وعلم الفلك والدبلوماسية الدولية والرياضيات والكيمياء والطب وعلم الحيوان والاقتصاد، وغير ذلك. ومع ميلها الواضح للغات، وبالنظر إلى تاريخها مع يوليوس قيصر ومارك أنطوني، قد تكون أتقنت اللاتينية أيضاً.
خلال حرب الرومان الأهلية، اصطفت كليوباترا مع مارك أنطوني وأبحرت على رأس أسطولها الخاص لمساعدته. لكن لسوء الحظ، تعرضت سفنها لأضرار بالغة في عاصفة بالبحر المتوسط ووصلت بعد فوات الأوان للمشاركة في المعركة. لكن تحالفها مع مارك أنطوني أمّن لها لاحقاً الأراضي البطلمية السابقة في بلاد الشام، بما في ذلك كل فينيقيا (لبنان حالياً)، وسانت جون داكر (مدينة عكا)، وكل سوريا، والمنطقة المحيطة بأريحا في فلسطين. واكتسبت أيضاً جزءاً من المملكة النبطية، ومدينة قورينا على طول الساحل الليبي، وإيتانوس وأولوس في جزيرة كريت الرومانية؛ مما يثبت مرة أخرى أنَّ ما كانت تفتقر إليه في القوة العسكرية عوَّضته بالتخطيط الاستراتيجي الذكي.