أقوياء مثل الدببة والثيران، يعضون دروعهم من فرط حماسهم للمعركة، يقتلون كل من يقف في طريقهم، ولا يؤثر بهم الحديد ولا النار، هكذا وصفت العديد من الروايات محاربي البيرسيركيين، المعروفين على أنهم من أكثر محاربي الفايكينغ قوة وشراسة عبر التاريخ.
وفيما تقف قصصهم على الحدود بين الواقع والخيال، من المثير للاهتمام أن نتعرف أكثر على هؤلاء المحاربين الذين لم يكررهم التاريخ.
من هم البيرسيركيون؟
سمعنا جميعاً بمحاربي الفايكينغ الأشداء الذين حيكت عنهم كذلك العديد من الأساطير، لكن قلة منا سمعوا بالمؤسسات العسكرية التي ظهرت في بداية عصر الفايكينغ، حوالي عام 800، والتي تطورت تدريجياً لتصبح مجتمعات مستقلة بما في ذلك البيرسيركيون.
اشتهر البيرسيركيون عن غيرهم بالشراسة الخاصة التي يبدونها في المعارك، فقد كانوا يقاتلون في حالة تشبه حالات الغضب الأعمى وكأنهم مغيبون تماماً عن الوعي، واعتادوا على العواء مثل الذئاب البرية أثناء المعركة، وعلى قضم دروعهم قبل بدء المعركة من فرط حماستهم وتعطشهم للقتال.
ويقال أيضاً إن البيرسيركيين غالباً ما كانوا لا يستطيعون التمييز بين العدو والصديق في خضم المعركة، بسبب اندفاعهم الشديد، وفقاً لما ورد في موقع ars technica، وغالباً ما يهجمون على الصخور والأشجار، ويقتلون بعضهم البعض أثناء انتظار بدء المعارك من جديد.
وقد ربط البعض حالة الهيجان تلك بتناول محاربي البيرسيركيين لفطر مهلوس قبل البدء بالمعارك.
وقد انتشرت العديد من الأساطير حول هؤلاء المحاربين، لأن المؤرخين لا يعلمون الكثير من التفاصيل عن أصولهم ونشأتهم فيما عدا بعض المعلومات المتناثرة عنهم في الملاحم الاسكندنافية القديمة.
في بعض المصادر يُوصف البيرسيركيون بأنهم جماعة من "مرتدي جلود الذئاب" أو "الذئاب الوثنية"، وهم كذلك مجموعة من المحاربين الأشداء، وفي مصادر أخرى يتم الفصل والتمييز بين المجموعتين اللتين تتشابهان بشكل كبير.
يرتدون جلود الذئاب والدببة ويتقمصون أرواحها
وفقاً للمؤرخين، فقد شكّل البيرسيركيون المحاربون مجموعتهم من المقاتلين المحترفين الذين سافروا بين البلاد وخدموا مع العديد من القادة.
وكانوا يتميّزون بامتلاكهم الدببة والذئاب التي اعتادوا على ارتداء جلودها، إذ كانوا يعتقدون أن روح الحيوان تتملكهم بذلك.
وفي بعض المراجع يذكر البيرسيركيون على أنهم رموز للشر وشياطين الحرب مرهوبي الجانب، ولذلك اختفوا باختفاء الوثنية وانتشار المسيحية في المنطقة.
وفي العادة يتألف حرس الملك أو زعيم القبيلة من 12 من البيرسيركيين، وكان المحاربون البيرسيركيون يُشكّلون عادةً قوات النخبة إلى جانب الحرس والجيش عموماً.
وفي المعارك البحرية كانوا يتمركزون عادةً في مقدمة السفينة ليكونوا في مركز قيادة الهجوم.
كيف كان البيرسيركيون يُقاتلون في الحروب؟
يتميز البيرسيركيون بصعوبة السيطرة عليهم أثناء المعركة، فهم لا ينفعون للقتال ضمن تشكيلات عسكرية منظمة، بل يفضلون الحركة في مجموعات صغيرة، والهجوم بشكلٍ مستقل.
وكان مقاتلو الفايكينغ عموماً يتضرعون إلى الإله أودين ليمنحهم القوة والشجاعة في المعارك، لكن البيرسيركيين كانوا شديدي الإيمان بأن إلههم أودين لن يخذلهم أبداً.
اعتقادهم الديني ذلك إلى جانب قوتهم البدنية وشجاعتهم منقطعة النظير مكنتهم من هزيمة جميع أعدائهم حتى لو كانوا يفوقونهم عدداً.
وكان يُقال إن الحديد والنار لا يؤثران في هؤلاء المحاربين المرعبين الذين لا يعرفون معنى الألم أثناء المعركة، إلا أنهم بعدها يصبحون ضعفاء مثل الأطفال المستهلكين بالكامل جسدياً ونفسياً.
ما هو أقدم دليل على وجود البيرسيركيين؟
أول ذكر للبيرسيركيين ورد في كتابات رومانية تعود إلى القرن الأول الميلادي.
ففي كتابه "جرمانيا Germania"، وصفهم المؤرخ تاسيتس باستفاضة على أنهم نخبة من المقاتلين الرائعين بين القبائل الجرمانية في شمال أوروبا.
وفي القرن السادس، كتب المؤرخ الروماني الشرقي بروكوبيوس عن "الهيروليين الوحشيين والخارجين عن القانون" من الشمال، ووصف كيف كانوا يخرجون إلى المعارك شبه عراة ولا يرتدون سوى المآزر، ليُظهروا أنهم لا يكترثون لجراحهم.
ولم يرتدوا الخوذ أو الدروع، وكانوا يحملون فقط درعاً خفيفاً لحماية أنفسهم.
والرجال الذين وُصفوا بـ"الهيروليين" يرجع أصلهم على الأرجح إلى زيلاند أو فين في الدنمارك اليوم، ولكن بعض أصولهم ترجع إلى أجزاء أخرى من اسكندنافيا أيضاً مثل النرويج.
ويجري عادةً ذكر البيرسيركيين في الملاحم، والقصائد السكالدية (التي جرى تأليفها داخل بلاط زعماء اسكندنافيا وآيسلندا في عصور الفايكينغ والعصور الوسطى)، وغيرها من أشكال الأدب في العصور الوسطى.
وفي ملاحم أخرى مكتوبة ضمن سياقٍ مسيحي، كانت ذكرى أولئك المحاربين رمزاً لأولئك الخارجين عن نطاق أعراف المجتمع: البلطجية وقطاع الطرق والقراصنة وغيرهم.
وأقدم مصدر مكتوب عن البيرسيركيين كان قصيدة "هارالدسكافاديت Haraldskvadet" السكالدية لتكريم الملك هارالد، والمنسوبة إلى الشاعر السكالدي توربيورن هورنكلوف.
فوصغهم بأحد المعارك قائلاً: "صرخ البيرسيركيون حين احتدمت المعركة، وعوت الذئاب الوثنية فارتعدت الأسلحة الحديدية".
وفي ملحمة فولسونغ، التي وصفت أحداث القرن السادس، يُقال إنّ البيرسيركيين كانوا من حرس أودين و"كانوا يخرجون دون دروع، ومجانين مثل الكلاب والذئاب، وكانوا يعضون دروعهم، وأقوياء مثل الدببة أو الثيران، ويقتلون الجميع دون رحمة، ولا يتأثرون بالحديد أو النار".
هل تناول الفطر حقاً هو ما يسبب حالة الجنون تلك للبيرسيركيين
في عام 1784، أطلق كاهن يُدعى أودمانن نظريةً تقول إنّ "الجنون على طريقة البيرسيركيين" كان يحدث نتيجة تناول نوع من أنواع الفطر المهلوس، وفقاً لما ورد في موقع History Extra البريطاني.
واكتسب هذا التفسير شهرةً مع الوقت، ولا يزال كذلك حتى يومنا هذا.
واقترح البعض أنّ الغاريق الأبيض هو السبب في فورة الجنون على طريقة البيرسيركيين، ولكن بالنظر إلى سُمّية هذا النوع من الفطر فمن المستبعد أن يأكله أحد.
كما أن تناول هذا النوع من الفطر قد يدفع بالشخص إلى الاكتئاب ويمنحه شعوراً من اللامبالاة، بالإضافة إلى آثاره المُهلوسة، لكن البيرسيركيين لم يُوصفوا على الإطلاق بأنهم أشخاصٌ لا يُبالون!
والتفسير الأكثر احتمالاً "للجنون على طريقة البيرسيركيين" يأتي من الطب النفسي.
إذ تقول النظرية إنّ مجموعات المقاتلين تدخل في نشوة تنويمٍ ذاتية بفض الطقوس التي تُنفّذ قبل المعركة (مثل عض أطراف الدروع).
وفي هذه الحالة الانفصالية عن الواقع يفقدون السيطرة الواعية على أفعالهم، ويبدو الأشخاص في هذه الحالة وكأنهم بعيدون عن الواقع، دون وعي كبير بما يُحيط بهم، مع شعورٍ أقل بالألم وزيادة في القوة العضلية. كما يضعف التفكير النقدي والمثبطات الاجتماعية العادية، لكن المصابين لا يفقدون الوعي تماماً.