أعاد الصراع الحاصل بين الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب، والرئيس الجديد جو بايدن، بشأن نقل السلطة بينهما إلى ذاكرتنا قائمة من الرؤساء السابقين الذين أبدوا ازدراءهم لخلفائهم في المنصب.
بما أنّ الرئيس ترامب يرفض إلى الآن الاعتراف بهزيمته فإنه على الأرجح لن يُهنّئ الرئيسَ المنتخب جو بايدن، أو قد يفعل ذلك، في النهاية، لكن على مضض، ومن المحتمل أيضاً ألا يحضر حفل التنصيب في يناير/كانون الثاني، وفقاً لما قاله موريزيو فالسانيا، أستاذ التاريخ الأمريكي بجامعة تورينو الإيطالية لموقع The Conversation الأمريكي.
رؤساء أمريكيون استهزأوا بخلفائهم
ترامب ليس وحده في سِجل المخالفة والتجاوز لقواعد الكياسة والتهذيب السياسي، في الواقع لطالما كان سحق آداب السلوك من قبل السياسيين والمسؤولين الحكوميين، ومنهم الرؤساء، سمة من سمات السياسة الأمريكية.
وفي هذا السياق، فإن وقائع الفظاظة شيء مشترك بين الحزبين: فالجمهور لم ينس مشهد رئيسة مجلس النواب الديمقراطية، نانسي بيلوسي، وهي تمزّق بكل ما تحمله الكلمة من معنى نصّ خطاب ألقاه الرئيس ترامب، وعلى مرأى ومسمعٍ من الجمهور الحاضر ووراء الشاشات.
نائب ديمقراطي يضرب آخر جمهورياً بعصا المشي
لطالما تعامل السياسيون الأمريكيون مع بعضهم بعدم احترام، وقد يبدو نبذ ترامب للرئيس المنتخب بايدن أمراً متطرفاً اليوم، لكن في عام 1801، في حفل التنصيب الرئاسي لتوماس جيفرسون، لم يكن الرئيس المنتهية ولايته جون آدمز في مكان يمكن رؤيته فيه.
من جانبه، كان آدامز قد عين في المناصب العليا عدة رجال مناوئين لجيفرسون وآرائه، وقد تعمد فعل ذلك قبل مغادرته المنصب مباشرة.
جيفرسون بدوره كان قد امتنع عن حضور جنازة جورج واشنطن في 18 ديسمبر/كانون الأول 1799، وفي عام 1829، جون كوينسي آدامز، الذي كان رئيساً آخر لولاية واحدة فقط، على غرار والده، لم يحضر حفل تنصيب خلفه أندرو جاكسون.
وإبان السنوات التي سبقت الحرب الأهلية فقد اتخذت وقائع الانتهاك لقواعد الكياسة وآداب التهذيب السياسي منعطفاً شديد الحدة لم تشهده من قبل.
ففي 22 مايو/أيار 1856، أقدم النائب الديمقراطي بريستون بروكس، من ولاية كاليفورنيا الجنوبية، على ضرب السيناتور الجمهوري تشارلز سمونر بعصا المشي، ووقعت الحادثة في قلب مجلس الشيوخ الأمريكي.
كان بروكس "هائج الغضب" من خطاب مناهض للعبودية ألقاه سومنر قبلها بأيام قليلة، ولم يوقفه عن قتل عدوه سوى انكسار العصا، على نحو مفاجئ، تحت وقع ضرباته.
حادثة نزع الشعر المستعار لنائب في الكونغرس
كذلك شهدت قاعات مجلس النواب الأمريكي مشاهد مشؤومة أخرى، ففي 6 فبراير/شباط من عام 1858، ومع حلول الساعة الثانية صباحاً تقريباً، بينما كان الأعضاء يخوضون مناقشات محتدمة حول قبول إقليم كانساس في الاتحاد الفيدرالي الأمريكي تبادل النائب الديمقراطي عن ولاية كارولينا الجنوبية، لورانس كيت، والنائب الجمهوري عن ولاية بنسلفانيا، جالوشا جرو، وابلاً من الإهانات والشتائم على إثر اختلافهم حول ما إذا كانت كانساس ستكون ولاية حرة أم إحدى الولايات التي تسمح بالعبودية.
تحولت الإهانات اللفظية إلى ضربات متبادلة، ليشارك أكثر من 30 نائباً في العراك، ما أفضى إلى شجار كبير في قلب المجلس.
ولم يهدأ الموقف حتى قام النائبان الجمهوريان من ولاية ويسكونسن، جون بوتر وكادوالادو واشبورن، بنزع الشعر المستعار (الباروكة) للنائب الديمقراطي ويليام باركسديل، من على رأسه.
المؤسسون كانوا يعرفون مخاطر الفظاظة السياسية
لكن بعيداً عن الملاحظات الساخرة والمضحكة التي قد تحملها هذه المواقف بين الحين والآخر؛ فإن الواقع يشهد بأنه عندما يعمد القادة السياسيون إلى معاملة بعضهم بعدم احترام، تعاني الأمة آثار ذلك وتدفع ثمنه.
إذ إنّ الكياسة السياسية ليست شيئاً تافهاً، ولا أمراً تتوقف آثاره على السلوك الفردي لمسؤول ما فحسب.
فالكياسة أو المدنية السياسية كما يعرفها منظّر الليبرالية الكلاسيكية وعالم الاقتصاد البارز، فريدريك هايك، هي "طريقة منهجية للتعاون لا يشترط معها الاتفاق على الغايات، وإنما وسائل إدارة الأمور وسياستها". ومن الواضح أن الافتقار إلى التحضر يقلل من فرص إيجاد حلول للمشاكل العامة الملحة.
كان المؤسسون، ربما أفضل من أي جيل آخر، على دراية تامة بالمخاطر السياسية التي تنطوي عليها الفظاظة السياسية.
فقد وعى جورج واشنطن وآدامز وجيفرسون وغيرهم من المؤسسين دروسَ التاريخ عن ظهر قلب.
فقد نظروا إلى الطغاة من خلفهم وجميع القادة الطائشين في الماضي، مثل أتيلا الهوني وكاليغولا، واعتبروا بهم. كانوا يعلمون أن القادة الرعناء مثل هؤلاء يمكن، على حد تعبير توماس جيفرسون، أن يُمزقوا "كل أربطة الواجب والمودة".
ومن ثم كانوا يستحضرون بقلق كبير اللحظة التي قد تعود فيها البربرية مرة أخرى بعدتها وعتادها، وقد كانت النُّذر المشؤومة تلوح في الأفق بالفعل.
ففي 30 مايو/أيار 1806، قتل أندرو جاكسون غريمه تشارلز ديكنسون، المحامي الذي اتهمه بالغش في رهان على سباق للخيل.
ومع ذلك، فإن هذا الحدث لم يضع حدّاً لمسيرة جاكسون، فقد كان شجاعاً والتزم قواعد المبارزة.
وهكذا أفلت بسهولة دون عقاب، وبعدها لم يظهر بادرة احترام أو تقدير لخصومه.
الرئيس جاكسون هو الزعيم المفضل لترامب، وإن لم يكن هناك سوى القليل من القواسم المشتركة بينهما.
ومع ذلك، فحاله حال ترامب، كانت رئاسة جاكسون تمثل نموذج الصراحة الفظة، وأسلوب القيادة المفتقر إلى أي تعاطف أو بادرة للتراجع عن الأخطاء أو الاعتذار عنها.
وقد حملت رئاسة جاكسون السمات الشخصية نفسها التي كان يرتعب منها المؤسسون: "نوازعه فاسدة… إنه رجل خطر"، هكذا قال توماس جيفرسون عن جاكسون في مقابلة معه عام 1824.
كان المؤسسون يعيشون حقبة قصيرة العمر من الكياسة والتأدب
منذ خمسينيات القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر، كان القادة الأمريكيون يضعون نصب أعينهم هدفاً طموحاً.
لقد أرادوا إطلاق ثورة أنثروبولوجية لتحسين النسيج العام لأفراد المجتمع والترويج لنوع جديد منهم: الشخص المهذب المتحضر اللطيف والمتعاون مع غيره.
واعتمد قيام الأمة الحديثة، بالنسبة إليهم، على السياسيين الذين يتحدثون بطريقة لبقة معينة (بصوت منخفض)، ويرتدون الملابس بطريقة معينة (دون كثير من الأبهة الأرستقراطية)، وكانوا أسبق إلى تجاوز أي مواقف فظة أو صلفة.
لكن في هذا الصدد، أثبت التاريخ أن توقعات المؤسسين بشأن السياسة وقيمها لم تقع موضع العناية والالتزام.
وهؤلاء الرجال، رغم أنهم كانوا ملاكاً للعبيد، فإنهم قدروا الكياسة والتحضر باعتبارها قيم تحريرٍ للذات جنباً إلى جنب كونها استراتيجية فعالة لا غنى عنها لنجاةِ المجتمع ككل.
لكن "التنشئة الحرة للآداب"، و"التوسع غير المقيد للتجارة، والصقل التدريجي للأخلاق، والتنامي المتحرر للمشاعر" تلك الأسس التي طمح، في خطابه إلى الولايات، في أن يقوم عليها المجتمع الأمريكي، في خطابه إلى الولايات، لم تتحقق.
وفي الختام، لا يقول أحد إن بايدن، بمجرد توليه الرئاسة، يمكنه أن يعكس مجرى التاريخ، ولا أن يعيد عصر الكياسة والتأدب السياسي من فوره، فهو ليس اللقاح.
ومع ذلك، فإنه في نظر كثيرين يمكن أن يكون على الأقل ترياقاً ينتزع سم الافتقار إلى الفضائل الذي بثَّه ترامب في جسد الأمة.