لا عجب أن تسمى بلاد الرافدين "مهد الحضارات"، فقد نشأت فيها أوائل المدن وظهرت الكتابة لأول مرة وبرز العديد من الاختراعات التي شكلت تغييراً جذرياً في حياة البشر آنذاك.
لكن كيف نشأت تلك الحضارة، وما العوامل التي ساهمت في ازدهارها؟
كيف أصبحت بلاد الرافدين مهداً للحضارات؟
تشير كلمة "الرافدين" إلى نهري دجلة والفرات، وهما مصدر المياه الرئيسي في المنطقة التي تقع معظمها بين حدود دولة العراق حالياً، وتوجد أجزاء منها أيضاً في سوريا، وتركيا، وإيران.
ويأتي الإسم الإنجليزي لبلاد الرافدين وهو "Mesopotamia" من كلمة يونانية قديمة تعني "الأرض ما بين النهرين".
ووفقاً لما ورد في موقع History، كان للنهرين أثر كبير في تطور بلاد الرافدين لمجتمعات حديثة، وظهور ابتكارات مثل الكتابة، والعمارة المتقنة، والبيروقراطيات الحكومية.
إذ جعل التدفق المنتظم للمياه على طول نهري دجلة والفرات الأرض المحيطة بهما خصبةً ومثالية لنمو المحاصيل الغذائية.
وبفضل هذا، أصبحت المنطقة موقعاً مثالياً لنشأة ثورة العصر الحجري الحديث منذ نحو 12 ألف عام، والتي تعرف أيضاً بالثورة الزراعية.
تقول كيلي آن دايموند، أستاذة مساعدة زائرة لدى جامعة فيلانوفا وتشمل خبرتها تاريخ الشرق الأدنى القديم وعلم الآثار: "غيرت هذه الثورة حياة البشر عبر الكوكب كله، لكنها بدأت أولاً في بلاد الرافدين".
عندما بدأ الناس في زراعة النباتات وتربية الحيوانات، أصبحوا قادرين على البقاء في مكان واحد وإنشاء قرى دائمة بدلاً من التنقل من مكان لآخر طلباً للمياه والغذاء.
في نهاية المطاف، تطورت هذه المستوطنات الصغيرة لتشكل المدن الأولى، حيث ظهرت العديد من الملامح الحضارية، مثل تركز السكان في منطقة واحدة، والعمارة الضخمة، والاتصالات، وتقسيم العمل، وتكوين طبقات اقتصادية واجتماعية مختلفة.
لكن ظهور وتطور الحضارة في بلاد الرافدين تأثر أيضاً بعوامل أخرى، خاصةً تغيّر المناخ والبيئة الطبيعة، التي أجبرت سكان المنطقة على تنظيم أنفسهم للتكيّف مع هذه التغيرات.
كيف ساهمت الطبيعة في نمو الحضارة؟
لم تتطور الحضارة بنفس الكيفية عبر المنطقة، وفقاً لهيرفي ريكولو، أستاذ مساعد في علم الآشوريات لدى جامعة شيكاغو، وخبير في تاريخ بلاد الرافدين القديمة.
وكما يوضح ريكولو، تطورت مجتمعات حضارية على نحو مستقل في بلاد الرافدين السفلى، وهي منطقة موجودة حالياً في جنوبي العراق، حيث نشأت الحضارة السومرية الأولى، وفي بلاد الرافدين العليا، التي تشكل شمالي العراق وأجزاء من غرب سوريا الحالية.
أحد العوامل التي ساهمت في تطور الحضارة في المنطقتين هي مناخ بلاد الرافدين، الذي كان رطباً منذ 6 آلاف إلى 7 آلاف عام أكثر من مناخ هذه المنطقة في الوقت الحالي.
يقول ريكولو: "تطورت المدن الأولى في جنوبي بلاد الرافدين على أطراف المسطحات المائية الكبيرة، التي وفرت مصادر طبيعية كثيرة للبناء (أعواد النباتات)، والغذاء (الحيوانات البرية والأسماك)، بينما كانت المياه هناك متاحة بسهولة للزراعة صغيرة الحجم، والتي يمكن أن ينظمها السكان على مستوى محلي دون الحاجة إلى إشراف مؤسسات حكومية كبيرة الحجم".
بالإضافة إلى هذا، يشير ريكولو إلى أن المسطحات المائية وفرت وسيلة للاتصال بالطرق البحرية في الخليج الفارسي، وهو ما مكّن الناس الذين كانوا يعيشون في الجنوب من تطوير علاقات تجارية طويلة المدى مع مناطق أخرى.
وفي بلاد الرافدين العليا كان سقوط الأمطار كافياً للاعتماد عليه ولم يحتج المزارعون إلى الري كثيراً، وفقاً لريكولو.
وكانوا قادرين أيضاً على الوصول إلى الجبال والغابات، حيث تمكنوا من صيد الحيوانات البرية وقطع الأشجار للحصول على الخشب.
وكان لدى منطقتهم طرق برية تؤدي إلى الشمال ما وراء الجبال، حيث تمكنوا من الحصول على مواد مثل السّبَج، وهو حجر بركاني كان يستخدم في صنع المجوهرات وأدوات التقطيع.
ابتكارات بلاد الرافدين
كان المحصولان الرئيسيان لدى مزارعي بلاد الرافدين هما الشعير والقمح.
لكنهم أيضاً أنشأوا حدائق مظللة بنخل التمر، حيث زرعوا عدداً متنوعاً من المحاصيل من بينها الفاصوليا، والبازلاء، والعدس، والخيار، والكراث، والخس، والثوم، بالإضافة إلى الفاكهة مثل العنب، والتفاح، والبطيخ، والتين. كما أنهم حلبوا الخراف، والماعز، والأبقار لصنع الزبد، وذبحوها لأكل لحومها.
في نهاية المطاف، أدت الثورة الزراعية في بلاد الرافدين إلى ما تصفه كيلي بأنه الخطوة الكبيرة التالية على مسار التقدم، وهي الثورة الحضرية.
تطورت القرى إلى مدن في حضارة سومر منذ ما يقرب من 5 إلى 6 آلاف سنة. إحدى أوائل وأبرز هذه المدن هي مدينة أوروك، التي كانت مجتمعاً مسوراً، يعيش فيه 40 ألفاً إلى 50 ألف نسمة.
ومن بين المدن الأخرى: إريدو، باد-تيبيرا، وسيبار، وشروباك، وفقاً لموسوعة التاريخ القديم.
طوَّر السومريون أقدم أنظمة الكتابة، بالإضافة إلى فنون معقدة، وعمارة، وبيروقراطيات حكومية معقدة للإشراف على الزراعة، والتجارة، والأنشطة الدينية.
كانت بلاد سومر مركزاً لنمو الابتكارات، إذ أخذ السومريون اختراعات طورتها شعوبٌ قديمة أخرى، مثل الفخار، وغزل النسيج، وابتكروا طرقاً لتصنيعها على نطاق واسع.
في الوقت ذاته، طورت بلاد الرافدين العليا مناطق حضرية خاصة بها مثل منطقة تيبي غاورا، حيث وجد الباحثون معابد مصنوعة من الطوب، وبها تجاويف معقدة محفورة في الحوائط وأعمدة، ووجدوا أدلةً أخرى على وجود ثقافة معقدة هناك.
كيف ساهم التغيّر المناخي في تطور حضارة بلاد الرافدين؟
وفقاً لريكولو، ربما يكون التغيّر المناخي قد لعب دوراً في تطور حضارة بلاد الرافدين. إذ يقول: "أصبح المناخ أكثر جفافاً تدريجياً وباتت حركة الأنهار غير متوقعة منذ حوالي 4 آلاف سنة قبل الميلاد. وانحسرت المستنقعات في بلاد الرافدين السفلى، تاركةً وراءها مستعمرات محاطة بأراضٍ بحاجة إلى الري، والمزيد من العمل، وقدراً أكبر من التنسيق بين السكان".
ولأنهم كانوا بحاجة إلى العمل بكد أكبر وبطريقة أكثر تنظيماً للبقاء على قيد الحياة، طوَّر سكان بلاد الرافدين تدريجياً نظاماً حكومياً أكثر تفصيلاً.
ومثلما يوضح ريكولو: "أصبحت الأجهزة البيروقراطية، التي ظهرت في البداية لإدارة السلع والأشخاص في المعابد في أراضي المستنقعات الموجودة بالمدن، أدوات لتدعيم السلطة الملكية، التي بررت سلطتها بدعم الآلهة لها وقدرتها على إنجاز الأمور".
وأدى هذا إلى تطور هياكل اجتماعية، أجبرت فيها النخبة العمال على العمل أو كانوا يمنحوهم وجبات وأجور مقابل عملهم.
يقول ريكولو: "بمعنى أن نظام الزراعة السومري الشهير، والدولة المكونة من مدن، ونظام إدارة الأراضي، والموارد، والأشخاص كان نتيجة لمحاولة الناس التكيّف مع الظروف العسيرة التي حدثت بسبب ندرة موارد المستنقعات التي كانت غنية مسبقاً".
في المقابل، تعامل الناس في بلاد الرافدين العليا مع جفاف المناخ عبر تبني توجه اجتماعي مغاير تماماً. يوضح ريكولو "أن هذه المنطقة شهدت تراجع حضارتها إلى نظام اجتماعي أقل تعقيداً، إذ اعتمد الناس بها على القرى وأنظمة التضامن صغيرة الحجم".
شهدت بلاد الرافدين في نهاية المطاف صعود إمبراطوريات مثل الأكدية، والبابلية، التي كانت عاصمتها مدينة بابل أحد أكبر المدن وأكثرها تقدماً في العالم القديم.