تعد ملحمة جلجامش الأدبية واحدة من أقدم النصوص وأكثرها إنسانية في العالم. إذ كُتبت في عام 2000 قبل الميلاد تقريباً، بواسطة مؤلف مجهول في بلاد ما بين النهرين القديمة (العراق وأجزاء من سوريا حالياً).
كما أنها تسبق أعمالاً أكثر شيوعاً، مثل أشعار هوميروس "الإلياذة" و"الأوديسا". ويمكن ملاحظة إرث ملحمة جلجامش بوضوح من خلال دراسة أوجه التشابه الموجودة بينها وبين أساطير وأدب اليونان القديمة.
كيف انتشرت قصص ملحمة جلجامش؟
تظهر العديد من قصص بلاد ما بين النهرين القديمة في التأسيس الأسطوري لليونان القديمة، إذ يتضح أن الإغريق اقتبسوا كثيراً من إرثهم من بلاد ما بين النهرين. ولدى الإغريق هيكل معقد للآلهة والأبطال الذين كانوا يُعبدون أيضاً. كما أنه هناك آلهة من الثقافات الأخرى كذلك، مثل حضارة الموكينيين الأوائل والحضارة المينوسية.
انخرطت العراق وسوريا القديمة في حركات التجارة مع حضارات أخرى، مثل اليونان عبر طرق تمتد لمسافات طويلة. تبادلت الحضارتان السلع، مثل المعادن الخام والمنتجات الزراعية ومثلما يتضح من قصصهما المشتركة، تبادلا أيضاً الأساطير. لنعرفكم في سطور على أوجه الشبه الثلاثة بين ملحمة جلجامش وأساطير اليونان القديمة كما وردت في موقع The Collector.
التشابه الأول: غضب إلهي يرسل الطوفان العظيم
تعد قصّة الفيضان العظيم هي دافع ملحمة جلجامش. فبحسب العمل الأدبي الطاعن في القدم، قرر الإله إنليل تدمير البشرية بسبب انحرافاتها، فأمر أوتنابشتم بأن يبني قارباً كبيراً ويصعد إليه مع عائلته ومجموعة من الحيوانات. عندما ينحسر الماء، يضحي أوتنابشتم للآلهة ويطلق سراح الحيوانات لإعادة إعمار الأرض. بدورها، تهبه الآلهة الحياة الأبدية مكافأة على ولائه وطاعته. يروي أوتنابشتم قصة دمار الطوفان على جلجامش، الذي يأتيه باحثاً عن سر خلوده.
أما في الأساطير اليونانية القديمة، فيبعث كبير الآلهة زيوس بالطوفان العظيم لإبادة البشرية جزاءً لمعصيتهم وعنفهم، وهو تفسير معقول. لكن قبل الطوفان مباشرة، يتحدث عملاق يدعى بروميثيوس إلى ابنه ديوكاليون لتحذيره من الكارثة القادمة. لذا، يركب ديوكاليون وزوجته بيرا صندوقاً كبيراً، بنياه استعداداً للكارثة، وينشدان أرضاً مرتفعة فوق قمة جبل، غالباً ما يقال إنه جبل بارناسوس.
عندما ينحسر الفيضان أخيراً، يعيد ديوكاليون وبيرا تعمير الأرض عن طريق رمي الحجارة من وراء أكتافهما، وذلك وفقاً لأحجية قدمتها لهم كاهنة.
عنصر الإبادة الجماعية الإلهية بسبب سوء السلوك يتواجد بقوة في كل من أسطورة طوفان اليونان القديمة وفي ملحمة جلجامش. يبني كل رجل فلكه الخاص استجابةً لتحذير ورده من إله ما، ويعيد كل من أوتنابشتم وديوكاليون تعمير الأرض بمجرد أن تنحسر مياه الفيضانات، وإن كان لكل منهما وسيلته المختلفة.
تجدر الإشارة إلى أن قصة الطوفان العظيم مُثبتة في الأديان السماوية، إذ أمر الله النبي نوح ببناء فُلكٍ عظيم يتسع لكافة أنواع الحيوانات، ويحمل من آمن بالله من البشر لإنقاذهم من الطوفان العقابي – بحسب العقيدة الإسلامية والمسيحية.
التشابه الثاني: فَقدُ الرفيق الأعز
تعد حكاية أخيل وباتروكلوس واحدة من أكثر القصص شهرة في الأدب الغربي، ولكن جذورها أقدم بكثير حتى من الحضارات اليونانية القديمة. فقبل ظهور "الإلياذة"، التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن قبل الميلاد، كانت هناك ملحمة جلجامش. وفي أفضل تقدير، تسبق جلجامش الإلياذة بحوالي ألف سنة.
مع أن الملاحم ليست نسخاً كربونية من بعضها الآخر، فإن العلاقة بين أخيل وباتروكلوس توازي علاقة إنكيدو وجلجامش. حتى اللغة المستخدمة لوصف علاقات هؤلاء الرجال يشبه بعضها بعضاً. بعد وفاة إنكيدو، يشير جلجامش إلى صاحبه الفقيد على أنه "أكثر ما تحبه روحي". وفيما يتعلق بأخيل، يشار إلى باتروكلوس باسم πολὺ φίλτατος؛ وتعني بالإنجليزية "الحبيب".
مما يثير الدهشة أن أبطال الملحمتين مسؤولون بشكل مباشر تقريباً عن وفاة إنكيدو وباتروكلوس. قُتل إنكيدو على يد الإلهة عشتار انتقاماً لقتل جلجامش ثور السماء. في حين قُتل باتروكلوس على يد هكتور بطل طروادة، وعدو أخيل اللدود، عندما رفض أخيل نفسه النزال في المعركة.
رثا كلا البطلين رفاقهم بغصة موجعة تفطر الفؤاد بالقدر ذاته. ينام جلجامش بجوار جثمان إنكيدو لمدة سبعة أيام وسبع ليال حتى "تسقط دودة من عينه" ويبدأ في التعفن. في حين يبقي أخيل على باتروكلس بجواره في الفراش كل ليلة لمدة أسبوع، ولا يسلّم جسده إلا عندما يأتي ظل رفيقه في المنام، ويطالب بإقامة الشعائر الملائمة لوفاته.
هذه الإنسانية الرنانة هي التي تجعل محبة أخيل وباتروكلوس مطابقة للمحبة التي جمعت إنكيدو وجلجامش، بشكل لا يمكن التغاضي عنه.
التشابه الثالث: تقديم الثور القرباني
كان للثيران أهمية كبرى في كل من الثقافات اليونانية القديمة وبلاد ما بين النهرين. يعد ثور السماء أحد أهم الشخصيات في ملحمة جلجامش. إذ يؤدي قتله ونحره إلى موت إنكيدو، وهو حدث يغيّر في جلجامش بوصفه بطلاً. يقطع جلجامش قلب ثور السماء ويقدمه قرباناً لإله الشمش. ثم في وقت لاحق، يقدم قرون الثور ممتلئة بالزيت لأبيه الإلهي، البطل القومي لوغال باندا.
من ناحية أخرى، فإن الثور الكريتي في أساطير اليونان القديمة يشبه جداً ثور السماء. ويتجلى بالتحديد في أعمال ثيسيوس. إذ يصطاد الثور ويعود به للديار ويسلمه للملك إيغوز، الذي يضحي به للإله أبولو بناءً على اقتراح ثيسيوس. أسهم هذا في انتشار فكرة تقديم القرابين بشكل أوسع لتشمل تقديم الأبقار قرابين بعد وفاتها، في الحضارات المختلفة.
إرث ملحمة جلجامش في الأدب الحديث
استمرت ملحمة جلجامش حتى في الثقافة الحديثة، برغم أن ذلك ربما يكون بشكل أكثر تكتماً. لذلك يتعين على المرء النظر في الثقافة الحالية بعين أدق لكشف السبل التي أثرت بها قصص بلاد ما بين النهرين على الأدب المعاصر.
كتب جوزيف كامبل، الباحث البارز في الميثولوجيا المقارنة والدين، عن رحلة البطل على نطاق موسع، ولا يمكن للمرء أن ينكر أن جلجامش هو بالتأكيد أقدم مثال أدبي لمثل هذا البطل. لقد أثرت شخصية وملحمة جلجامش بطرق مباشرة وغير مباشرة على الثقافات الحالية إلى ما يكون عندما يتخيل الكتّاب والمؤلفون بطلاً وقصته. وحالها كحال بطلها الذي سعى بشدة للخلود، أصبحت ملحمة جلجامش خالدة.