في يوم 16 سبتمبر/أيلول 1982، وفي خضم الاجتياح الإسرائيلي للبنان خلال الحرب الأهلية الطاحنة، بدأت وقائع واحدة من أبشع مذابح القرن العشرين.
ففي حوالي الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم الدامي، بدأت ميليشيات حزب الكتائب اللبنانية تنفيذ مجزرةٍ ضد اللاجئين الفلسطينيين في مخيمي "صبرا" و"شاتيلا"، الواقع في الشطر الغربي للعاصمة بيروت.
استمرت المجزرة لثلاثة أيام متتالية، واشترك في تنفيذها حزب الكتائب اللبناني -ذي الخلفية المسيحية المارونية- بتسهيلٍ من الجيش الإسرائيلي.
إرهاصات ما قبل المذبحة
في 23 أغسطس/آب 1982، تم انتخاب زعيم حزب الكتائب بشير الجميّل رئيساً للبنان بما يشبه التزكية، كونه المرشّح الوحيد للمنصب.
وفي 14 سبتمبر/أيلول 1982، وبينما كان يخطب في زملائه بمقر الحزب قبل تنصيبه رئيساً، انفجرت قنبلة استهدفت المقر وأدت إلى مقتل الجميّل و26 سياسياً آخر من الكتائب.
اتجهت أصابع الاتهام نحو أطراف متعددة، على رأسها الفصائل الفلسطينية التي كان يكنُّ لها العداء، إلى جانب إسرائيل التي قيل حينها إن انتخاب الجميّل سيؤخر اتفاقية السلام بين إسرائيل ولبنان، حيث عبَّر قبل موته بأيام عن رفضه للوجود الإسرائيلي لفترة طويلة في تل أبيب.
إلا أن الأدلة التي ظهرت لاحقاً، أثبتت ضلوع عضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي حبيب الشرتوني في العملية، فقيل إن الرجل المسيحي الماروني استطاع تنفيذ عملية الاغتيال، مستغلاً وجود شقة شقيقته في أعلى شقة بشير.
وبالفعل، حُكِم على الشرتوني بالسجن، ثم خرج منه عند اجتياح الجيش السوري لبنان في نهاية الثمانينيات، ما أكد نظرية أنه كان مكلفاً بالاغتيال من الحكومة السورية.
لكن قبل أن تتكشف هذه التفاصيل، وفي رد فعلٍ انفعالي على مقتل الجميّل، اتجهت ميليشيات حزب الكتائب بتنفيذ مجزرة صبرا وشاتيلا في المخيمات الفلسطينية، حيث قُتل ما يتراوح بين 2000 و5000 فلسطيني بدعم وحماية الجيش الإسرائيلي، عقب يومين فقط من حادث اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب.
وقائع المذبحة
زحفت قوات الاحتلال الإسرائيلية فجر يوم 15 سبتمبر/أيلول 1982، وفرضت حصاراً على منطقة صبرا وشاتيلا بدعوى "فرض الأمن والنظام في المخيم الفلسطيني"، فيما قامت المدفعية والطائرات الإسرائيلية بقصف المخيمين، وأغلقت بالدبابات الطرق المؤدية إليهم، ومهدت الطريق لدخول عناصر حزب الكتائب اللبناني التي جاءت متعطشة لأخذ الثأر للرئيس اللبناني بشير الجميّل.
وعن وقائع المذبحة التي رواها د. أحمد الزغيبي في كتاب "العنصرية اليهودية وآثارها في المجتمع الإسلامي والموقف منها"، قال إن قوات حزب الكتائب اللبناني المسيحي، قامت بالتعاون مع القوات الإسرائيلية خلال الحرب العربية-الإسرائيلية الخامسة، المعروفة بـ"حرب لبنان" عام 1982، بعد الترحيل القسري للقوات الفلسطينية، بمجزرة بشرية مريعة ضد اللاجئين الفلسطينيين، في مخيمي صبرا وشاتيلا، في المدة من 16 إلى 18 سبتمبر/أيلول عام 1982، وبلغ عدد القتلى فيها ما يقرب من 4 آلاف شخص غالبيتهم من الشيوخ والنساء والأطفال.
كما جاء بكتاب "شذا الرياحين من سيرة واستشهاد الشيخ أحمد ياسين- ج 2" للدكتور سيد بن حسين العفاني، أن مذبحة صبرا وشاتيلا هي مذبحة نفذت بيد الميليشيات التابعة لحزب الكتائب اللبنانية، تحت قيادة إيلي حبيقة، الذي أصبح فيما بعد عضواً في البرلمان اللبناني لفترة طويلة ووزيراً في العام 1990.
عدد القتلى في المذبحة لا يعرف بوضوح، إلا أن التقديرات تتراوح بين 700 و3500 قتيل من الرجال والأطفال والنساء والشيوخ المدنيين العزل من السلاح، أغلبيتهم من الفلسطينيين، ولكن من بينهم لبنانيون أيضاً.
في ذلك الوقت كان المخيم مطوقاً بالكامل من قِبل الجيش الإسرائيلي، الذي كان تحت قيادة إرئيل شارون ورفائيل إيتان.
شهادات الناجين
العديد من الناجين تحدثوا عن أن مسلحي ميليشيات الكتائب بقروا بطون الحوامل "لأنهن رح يخلفوا إرهابيين"، وأنهم خصوا الفتيان أيضاً "لحتى ما يخلفوا إرهابيين زيهن"، والعديد من المسلحين شاركوا في عمليات اغتصاب جماعية لفتيات من المخيم، قبل قتلهن، دون أن يرمش لهم جفن.
يقول ماهر مرعي -أحد الناجين من مجزرة صبرا وشاتيلا- في شهادة متداولة على نطاق واسع على الإنترنت، أعاد نشرها موقع قناة الفلسطينية مؤخراً، واصفاً ما شاهده ليلة 16 سبتمبر/أيلول، "رأيت الجثث أمام الملجأ مربوطة بالحبال، لكني لم أفهم، عدت إلى البيت لأخبر عائلتي، لم يخطر في بالنا أنها مجزرة، فنحن لم نسمع إطلاق رصاص، أذكر أني رأيت كواتم صوت مرمية قرب الجثث هنا وهناك، ولكني لم أدرك سبب وجودها إلا بعد انتهاء المجزرة. كواتم الصوت "تتفندق" بعد وقت قصير من استخدامها، ولذا يرمونها. بقينا في البيت ولم نهرب حتى بعد أن أحسسنا أن شيئاً مريباً يحدث في المخيم".
ويضيف اللاجئ الفلسطيني، "عندما أخبرت والدي عن الجثث، طلب منا أن نلزم الهدوء وألا نصدر أي صوت، ما هي إلا لحظات حتى بدأنا نسمع طرقاً عنيفاً على الباب. عندما فتحنا لهم أخذوا يشتموننا وأخرجونا من البيت ووضعونا صفاً أمام الحائط يريدون قتلنا".
ويختم شاهد العيان، "أرادوا إبعاد جارتي ليلى، إذ ظنوا أنها لبنانية لأنها شقراء، وأبعدوا أختي الصغيرة معها لأنها شقراء هي الأخرى، وظنوا أنها ابنتها، رفضت ليلى تركنا، طلبوا من والدي بطاقة هويته، وما إن أدار ظهره ليحضرها حتى انهال الرصاص علينا جميعاً كالمطر، لم أعرف كيف وصلت إلى المرحاض واختبأت فيه، وفي طريقي إلى المرحاض وجدت أخي الأصغر فأخذته وأقفلت فمه. رأيت من طرف باب المرحاض كل عائلتي مرمية على الأرض".
المجرمون أصبحوا وزراء
أما المسؤولون عن المذبحة فيمكن وصف مصيرهم بأن جرائمهم مرّت بلا عقاب تقريباً، فعلى المستوى الإسرائيلي قرر رئيس المحكمة العليا إسحاق كاهان، تشكيل لجنة تقصي حقائق حول المذبحة، ترأسها بنفسه في عام 1982، ليصدر تقريراً بعدها بعام واحد يحمّل فيه إرئيل شارون المسؤولية المباشرة عن المذبحة ومنتقداً كلاً من مناحم بيغن رئيس الوزراء ووزير الخارجية إسحاق شامير، رئيس أركان الجيش رفائيل إيتان وقادة المخابرات.
استقال شارون من منصب وزير الدفاع تحت تأثير التقرير، لكنه رفض نتائجه وظل عضواً بمجلس الوزراء الذي أصبح رئيسه لاحقاً.
أما على الجانب اللبناني، فإن إيلي حقيبة أصبح وزيراً للمهجرين في الحكومة اللبنانية عام 1990، وحصل على عفو جزئي عن بعض جرائمه وفق قانون العفو عن جرائم الحرب الأهلية الذي أقرّه البرلمان اللبناني في العام 1991.
صبرا وشاتيلا 2020
حتي اليوم، لا يزال مخيم شاتيلا ومدينة صبرا قائمين يشهدان على المذبحة، بينما يتذكر كبّار السن في المخيم الدائم التفاصيل، وفقاً لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، فإن هنالك قرابة 10 آلاف لاجئ يعيشون في المخيم (إحصاء 2015)، انضّم إليهم عدد من اللاجئين السوريين هرباً من الحرب.
ومازال اللاجئون في المخيم يعانون من نقص الخدمات الصحية والتعليمية ورداءة البنية التحتية حتى يومنا هذا.