في منتصف القرن التاسع حكم الفاتيكان أول وآخر امرأة تتولى في التاريخ منصب البابوية، بعد أن تنكرت بزي رجل واتخذت من "البابا جون الثامن" اسماً لها، ولم يكتشف أحد أنها أنثى حتى فاجأها المخاض في أحد المواكب البابوية.. هكذا تقول أسطورة العصور الوسطى التي لم يستطع المؤرخون إلى اليوم تأكيدها أو دحضها، فهل قصة البابا جون حقيقية أم محض خيال؟
البابا جون الثامن.. حكاية غريبة من العصور الوسطى
بالرغم من أن التسجيلات الرسمية للفاتيكان تشير إلى أن جميع الباباوات الكاثوليك الذين يزيد عددهم عن 260 كانوا رجالاً، فإنه توجد رواية أخرى من العصور الوسطى تدعي أن سيدة حكمت الفاتيكان قرابة عامين، بعدما تنكرت بزي رجل وأطلقت على نفسها اسم "البابا جون"، وفقاً لما ورد في موقع History.
ولا تزال قصة البابا جون واحداً من ألغاز التاريخ التي يتبناها البعض على أنها حقيقة حاولت الكنيسة طمسها لعقود، بينما ينظر إليها آخرون على أنها مجرد أسطورة من وحي خيال رهبان عاشوا في العصور الوسطى.
من هو/هي البابا جون الثامن؟
تقول الحكاية إن البابا جون الثامن كانت شابة تنكرت بزي رجل ودخلت الكنيسة لتبدأ تدريباتها الدينية واستطاعت أن تترقى في المراتب حيث كانت في البداية واحداً من رهبان الكنيسة، وتولت لاحقاً رتبة كاردينال، ثم وصلت أخيراً إلى البابوية في عام 855، حيث تم انتخابها من قِبَل الغالبية الذين كانوا يكنون لها التقدير والاحترام.
في منتصف القرن التاسع، كانت الحياة قاسية جداً بالنسبة للنساء، فإلى جانب الفقر والظروف المعيشية الصعبة التي كانت سائدة في ألمانيا، كانت النساء ممنوعات من الظهور علناً في الشوارع وكان عملهن يقتصر على الأعمال المنزلية، وفقاً لما ورد في موقع Abc News.
وقد كانت المسيحية آنذاك تنتشر في ألمانيا عن طريق المبشرين الإنجليز الذين أنشأوا ديراً اسمه "فولدا" والذي أصبح بمثابة مركز للتعليم في مدينة ماينز الألمانية، لكنه كان مقتصراً على الذكور فقط.
وفي كتابه "تاريخ الأباطرة والباباوات"، كتب راهب يدعى مارتن بولونوس، والذي كان مستشاراً مقرباً للبابا، عن شابة طموحة من ماينز لم يكن أمامها خيار لتدرس في الدير سوى أن تتنكر بهيئة صبي، وقد نجحت بذلك وتعلمت اليونانية واللاتينية وأصبحت بارعة في مجموعة متنوعة من فروع المعرفة.
لم يتوقف طموح تلك الشابة عند هذا الحد، فقد بات الوصول إلى الفاتيكان واحداً من أبرز أحلامها، ووفقاً لـ"بولونوس"، فقد بدأت الشابة رحلتها متوجهة إلى أثينا وهي متنكرة بملابس الرجال، ومن هناك شقت طريقها إلى روما لتصل إلى الفاتيكان حيث أصبحت معروفة باسم "البابا جون".
كيف تم الكشف عن سر البابا جون الثامن؟
استطاعت الفتاة طوال سنوات إخفاء جنسها بعناية تحت ثوبها الفضفاض، وقد ساعدتها عدة عوامل في التنكر وفقاً للمؤرخين.
إذ لم تكن النظافة الشخصية شائعة لحد كبير، وكان الناس غالباً ما يكتفون بغسل أياديهم ووجوههم وأرجلهم بدلاً من الاستحمام.
أيضاً، كان يُطلب من رجال الدين أن يكونوا حليقي الذقن باستمرار، وقد جعل سوء التغذية معظم الرجال والنساء يعانون من الهزال الجسدي.
استمرت تلك الفتاة في منصبها على اعتبارها "البابا جون الثامن" قرابة عامين، وبالرغم من أنها أصبحت حاملاً فيما بعد، لم يكشف سرها إلى أن أتاها المخاض بشكل مفاجئ أثناء موكب بابوي كان يمر في مكان ما بين الكولوسيوم وسانت كليمنتس في عام 858.
ويحكى أن الباباوات لاحقاً باتوا يتجنبون دائماً هذا الطريق في مواكبهم تعبيراً عن الاشمئزاز من تلك الحادثة.
أما من كان والد طفلها فقد اختلف حوله المؤرخون فقد ذكر بعضهم أنه كان أحد حراسها، بينما ذكر آخرون أنه كان ابن إمبراطور روما آنذاك.
نهاية البابا جون الثامن
كانت تلك الحادثة بمثابة صدمة كبيرة لجميع أتباع "البابا جون" التي ارتكبت ذنباً لا يمكن أن يغتفر وفقاً للقوانين التي كانت سائدة آنذاك.
وقد ذكر بعض المؤرخين أنها أرسلت إلى دير بعد الولادة وأن ابنها نشأ وأصبح فيما بعد أسقفاً، بينما يذكر آخرون أنها قُتلت هي وطفلها بنفس اليوم.
أما الرواية الأكثر رعباً فتقول إن أتباعها الغاضبين قد ربطوها وجروها خلف الحصان ثم رجموها حتى الموت.
كرسي الولادة البابوي
بعد حادثة البابا جون، لم تكن الكنيسة لتسمح بتكرار ذلك الأمر ثانية، فابتكرت ما سمي بـ"كرسي الولادة البابوي" لفحص جنس البابا قبل تنصيبه، وهو عبارة عن كرسي أرجواني مثقوب من الأسفل بجلس عليه البابا ثم يقوم أصغر الكاردينالات سناً بمد يديه عبر الثقب ليتأكد من أن البابا ذكر فعلاً.
وقد بقي هذا الطقس أحد الطقوس الأساسية لترسيم البابا في العصور الوسطى .
البابا جون الثامن.. حقيقة أم أسطورة؟
الاحتمال الأول: البابا جون قصة حقيقية حاولت الكنيسة طمسها
يجادل بعض المؤرخين بأن السيدة التي انتحلت صفة "البابا جون" كانت موجودة فعلاً، وقد ورد أول ذكر لها في القرن الثالث عشر، عندما ظهرت قصتها في سجلات الرهبان الدومينيكان جان دي ميللي وستيفن من بوربون.
وفي القرن الرابع عشر ذكرها الكاتب جيوفاني بوكاتشيو في كتاب عن النساء المشهورات، كما تم رسم صورتها في العديد من الأعمال الفنية ونُحت تمثال لها في كاتدرائية سيينا الإيطالية إلى جانب تماثيل عدد من الباباوات الآخرين، وفقاً لما ذُكر في كتاب للكاردينال بارونويس، أمين مكتبة الفاتيكان، حيث كتب الكاردينال أيضاً أن البابا في ذلك الوقت قد أمر بتدمير التمثال.
وقد كانت قصة البابا جون عموماً قصة مقبولة على نطاق واسع في التاريخ الكاثوليكي لفترة طويلة من الزمن.
ووفقاً لما ورد في موقع Live Science فإن تحليلاً لعملات فضية من القرون الوسطى يشير فعلاً إلى وجود بابا يحمل هذا الاسم.
إذ يقول عالم الآثار في جامعة فليندرز الأسترالية، مايكل هابيتشت، إن الرموز الموجودة على هذه العملات تثبت أن البابا جون كان موجوداً حقاً، وقد قام بتفصيل النتائج التي توصل إليها في كتاب بعنوان "البابا جون".
ووفقاً لما ورد في موقع Abc News تقول ماري مالون، الراهبة السابقة التي كتبت تاريخ المرأة والمسيحية: "يعتقد 90% أن البابا جون قصة حقيقية".
بينما تؤكد دونا كروس، الروائية التي قضت سبع سنوات في البحث في تاريخ الفاتيكان في تلك الفترة، أن هناك أكثر من 500 سرد تاريخي تؤكد صحة تلك القصة.
ويجادل البعض بأن الخوف من أن تكون تلك القصة إلهاماً لبقية النساء جعل الكنيسة تقوم بشطب البابا جون من التاريخ.
الاحتمال الثاني: البابا جون أسطورة خيالية ابتدعها أعداء الكنيسة
ترفض الكنيسة قصة البابا جون جملة وتفصيلاً، ويعتبرها العديد من المؤرخين المعاصرين مجرد أسطورة، على الرغم من شهرتها وانتشارها في العصور الوسطى.
ويجادل أولئك بأن عهدها المفترض يتداخل مع عهد اثنين من الباباوات اللذين وثقت حياتهما بشكل جيد هما ليو الرابع وبنديكت الثالث، ويقولون إنه لا توجد إشارات موثوقة تدل على وجود بابا يحمل هذا الاسم أساساً، بغض النظر عن كونه رجلاً أو امرأة.
ويذهب كثيرون إلى أن هذه القصة قد تم ابتكارها كهجاء معادٍ للبابا من قِبَل الرهبان الساخطين والبروتستانت الأوائل وغيرهم من منتقدي الكنيسة الكاثوليكية.
وأحد التفسيرات الأخرى للأسطورة أن الكنيسة نفسها قد ابتكرت قصة البابا جون كرسالة تحذيرية للنساء اللواتي يطمحن إلى السلطة، مفادها: لا تفكري بتبوؤ مكان لم يخلق لك، وإلا سينتهي بك الأمر مسحولة في الشوارع مثل "البابا جون".
وسواء كانت "البابا جون الثامن" شخصية حقيقية فعلاً أم مجرد أسطورة، لا نستطيع أن ننكر أنها حكاية مثيرة فعلاً للاهتمام.