كان عنده 24 سنة بس، فجأة تعب واكتشف إنه مريض بالسرطان، مات النهارده. كانوا رايحين الساحل الشمالي والعربية اتقلبت بيهم وماتوا. راح صلَّى الفجر ورجع نام بيصحوه لاقوه متوفى، كان حافظ للقرآن، وخاطب وهيتجوز قريب. تعبت فجأة راحت لدكتور، طلب تحاليل وأشعة، يومين وكانت خلصت الحكاية وفارقت الحياة.
أخبار أصبح لا يخلو منها يومنا، كل أسبوع حكاية جديدة، عن شاب توفاه الله، وكل حكاية أغرب من أختها، بعدما كنا نسمع بشكل أكبر عن وفاة أصحاب الأعمار الكبيرة والتجارب الطويلة، تغير الحال وأصبح الحديث عن صديقك في الجامعة الذي توفاه الله، أو عروس لم تكمل الثلاثين من عمرها، أو من هم أقل من ذلك بكثير.
يتبادر إلى ذهنك الآن أن الأعمار بيد الله وأن لكل أجل كتاباً، لا خلاف على هذا بالتأكيد، ولكن يبقى سؤال متى يكون الموت وكيف يكون؟
ليس أصعب من الأول سوى الثاني والعكس صحيح، نمسك بالقلم ونخطط مستقبلنا الذي نراه مشرقاً، نكتب عما نسعى لتحقيقه وما نعتقد أننا أهل لذلك. نرسم في مخيلتنا الأعوام الطويلة القادمة بعد ساعة وبعد سنة وبعد 10 سنوات وحتى بعد 50 سنة، نعتقد أن الموت يجري أمامنا يفرش الأيام والساعات تحت أقدامنا ونتخيل أنه كلما كان الجري أسرع كانت الأعمار أطول. والحقيقة الغائبة أن الموت يجري بالفعل ولكن نحونا، ونحسب أننا نهرب منه ولكن في الحقيقة نهرب إليه. "قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ".
بينما أكتب الآن أتوقف للحظات، أتصفح فيسبوك، يقابلني منشور لأحد الأصدقاء يترحم على صديق له توفاه الله للتو، يطلب منا الدعاء له بالرحمة، ندعو له ولنا. بالأمس سيطرت عليّ فكرة الموت، أفكر في الذين نفقدهم كل يوم، تمضي ساعات النهار وتتسارع الأحداث وأنسى قليلاً، أذهب لبائع الخضار في الشارع الذي أسكن فيه، أحدثه عن الأسعار، أتفاجأ به يحدثني عن الموت وعن قصر الدنيا وإن طالت، فتعود الفكرة من جديد لرأسي ويستمر التفكير.
كأن الموت والحياة لغزين كبيرين، يتضادان بعض الوقت ويتكاملان بعضه الآخر. يموت النهار فيحيا الليل ويحيا النهار فيموت الليل في تعاقب لا ينتهي إلا بنهاية الدنيا كلها. وتموت أعوام فتعطي الحياة لغيرها، وعندما تموت الدنيا تمنح الحياة للآخرة.
في أحد الأيام كان يتوجب عليَّ حضور فرح أحد الأصدقاء، وجنازة شاب صغير، ذهبت للجنازة أولاً أحمل كل معاني الحزن والأسى على وفاة شاب صغير لم تبدأ حياته بعد حقاً، أخرج من الجنازة للفرح لتهنئة صديقي وأحمل كل معاني الفرح والسعادة، في المسجد الذي صلينا فيه على الشاب قاعة أفراح، وبينما نحن ندعو له بالرحمة قبل الصلاة عليه، تقتحم علينا الزغاريد من نوافذ المسجد معلنة عن فرح قريب، فأنظر للأمر، فرح وجنازة في نفس الوقت والمكان، حياة وموت فأعلم أنهم يتكاملان.
"إذا جاك الموت يا وليدي موت على طول.. اللي اتخطفوا فضلوا أحباب، صاحيين في القلب كإن محدش غاب".
هكذا وصت العمة يمنة عبدالرحمن الأبنودي، كلما سمعت تلك القصيدة تأثرت وكأنها عمتي وتخاطبني، ولكن عذراً عمتي، لم أفعل شيئاً بعد، مازالت القصة في البداية. كيف لي هذا ولم نحقق ما نريد، آلاف الحكايات لم تنتهِ بعد، بدايات كثيرة تبحث عن نهاية سعيدة، أسئلة عديدة لم أجِب عليها، حقوق لم أؤدها، أصحاب فضل عليَّ لما أرد لهم شيئاً بعد، كيف أفعل يا عمتاه؟!
تسير بنا الحياة، نتوقف لحظة لنتساءل عن الموت.. متى يكون؟
نظن أنه لن يأتي قريباً، وكل المعطيات حولنا تثبت العكس؛ من هم في عمرنا نودعهم كل يوم، مئات الشباب الذين نسمع عن موتهم لأسباب عديدة، منهم صديقك أنت الذي تذكرته الآن وأنت تقرأ. نتغافل أو نحاول التغافل عن هذه الحقيقة حتى تستمر الحياة، نتحايل على الموت، ندفن رؤوسنا في الرمال هرباً منه حتى لا يرانا.
ربما يأتي بينما ألعب مع أحفادي في إحدى الحدائق، يلتفون حولي ويقذفون الكرة في سعادة، وأحاول مسايرتهم رغم هشاشة العظام وألم المفاصل، ربما سيكون بعد سنوات في معركة الحياة، في نقطة الوسط بين الشباب والشيخوخة، حيث لم نبقَ في مقاعد الشباب ولم نلتحق بالعجائر بعد، ربما يحدث غداً مع بداية يوم جديد، وربما الآن.
كيف سيكون الموت؟
هذا سؤال ربما نبقى طول العمر لا نعرف له إجابة حتى يتحقق فيجيب هو، كيف سيكون الموت؟ بأي شكل سوف نلقى هذا الضيف؟ برصاصة غدر ونحن ننادي بالحرية؟ أم بجرثومة لعينة لا ترى بالعين المجردة؟ ربما سائق نصف نائم يتكفل بالمهمة، أم سنموت على فراشنا دون سبب؟
وكيف سيكون شكل الموت؟ هذه لحظات لا يعلمها إلا من مر بها ومن مر بها ليسوا بيننا بالتأكيد، تلك اللحظات السريعة كيف ستكون؟ هل نلقاه في طمأنينة وهدوء أم في خوف وترقب، أسئلة كثيرة ربما تجيب عنها الأيام، ولكن هذه السطور ليست عن الذين ماتوا، ولكن عن الذين سيموتون بعد قليل.. عنا نحن يا صديقي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.