تتسع الفجوة بيننا وبين أقرب الناس لنا لعدة أسباب، قد يكون أبرزها اختلاف المنشأ، فارق السن، اختلاف التجارب الحياتية لكل شخص منا. وعلی مدار سنوات الحياة، بدت الحياة لي كرحلة، كلما تعمقنا في أغوارها تعلمنا أكثر. بدت لي تلك حقيقة ممتعة ومسلية، رغم أن الحياة متأرجحة، وفي الكثير من الأحيان تفتقد لكل المباهج والمتع وتستحيل جحيماً. ولكن أوقات الجحيم تلك تغدو ممتعة إذا حيكت في ثوب قصة ملحمية. يكون ذلك عادة بعد سنوات طويلة تمنحنا فرصة تجاوز اللحظة الصعبة وعقد هدنة مع الحياة.
ما سطرته في الأعلى هو ما انتابني وغمرني عند قراءتي لرواية "بنات غارسيا باللكنة الأمريكية" للكاتبة الأمريكية الدومنيكية "جوليا ألفاريز" التي سيدور موضوع مقالي عنها.
تقص جوليا شريط الرواية بحديث ممل مع العائلة، حتى تظن أن الرواية تتحدث عن الشراشف البيضاء والطقس والعدد اللانهائي من أبناء وبنات العمومة. الحكي بالتفصيل الممل هو أحد أبرز صفات أدباء الأمريكيتين. يبدو الأمر وكأنهم مولعون بسرد والحديث عن أدق تفاصيل حياة أبطالهم دون مواربة. السرد التقريري الذي يتحول مع تتالي الصفحات من ممل إلى مقبول ثم إلی ممتع.
قسمت الرواية لتسرد في كل فصل فيه قصة إحدی أبطال العمل من بنات عائلة "غارسيا دي لا توري". تسبر أغوار الغربة والمشاعر المختلفة تجاه الوطن، تتأرجح بين الحنين والخوف من النفي. والحديث عن خوف أمهم وأبيهم الدائم من تغير هوية البنات الأربع وتحولهن إلی مدمنات أو مطلقات. هذه الفكرة ليست سوى نتيجة الصورة النمطية في رأسهم عن الأمريكيين وعلاقاتهم العاطفية ومشاريع الزواج التي تفشل بسبب المخدرات وعدم الالتزام بالمسئولية. ومع توالي الفصول، يحتدم الصراع والرغبة في الانفتاح على المجتمع وبين الخوف من الوقوع في علاقات محظورة أو تأخر الزواج أو عدم إنجاب ذكر مثلما حدث مع أمهن، وهذا ما أشعرها دوماً بالفشل والخجل.
تدور الرواية عن مشاعر البنات الأربع بعدما هاجرن مع أمهن وأبيهن من الدومينيكان الواقعة تحت الحكم الدكتاتوري، إلى "الولايات المتحدة الأمريكية" أرض الأحلام بالنسبة للغرباء. لكن لا يمر عليهم وقت طويل حتی تتحطم أحلامهم على صخرة الواقع المكونة من العنصرية تجاه كل ما هو مختلف وغريب. وتبدأ كل بنت في حكي مشاعرها بين الحنين للوطن وبين محاولات التأقلم مع الثقافة واللغة، ومحاولات كسب ود الأهل كي لا يخرجن من عباءة أرض الأحلام إلی الوطن الذي يصبح غريباً عنهن بعد سنوات من البقاء في أرض الولايات.
عجيب أمر الإنسان، يحن إلى ماضٍ فر منه فرار الفريسة من الأسد، ما إن يتحول الحاضر المغضوب عليه إلى ماضٍ بحكم الزمن، يتحول الغضب من الحاضر إلى شوق وحنين جارف للماضي. وكأن الزمن ينثر سحره على ما فات، فيرسمه فردوساً لا نصب فيه ولا تعب.
البنات الأربع، كارلا، يولاندا، ساندرا، وصوفيا، كل واحدة منهن تحكي عن حياتها قبل السفر من الوطن، ووجودها في الولايات المتحدة، تسرد ذكريات الطفولة وتجارب الحب والدراسة. ويحكين مغامراتهن مع الشرطة التي كانت تلاحق والدهن الطبيب السياسي المطلوب من المخابرات، حتی يقرر الفرار خوفاً من بطش الدكتاتور.
الروائية جوليا ألفاريز وضعت جزءاً كبيراً جداً من نفسها وروحها في هذا العمل، هي أمريكية من أصل دومينيكاني. ويرجح النقاد أن تكون شخصية الابنة الثانية "يولاندا" هي قناعها الخفي للحديث عن نفسها حيث هي أيضاً شاعرة وكاتبة، قد وازنت بشكل كبير بين تقريرية السرد في البداية، وبين شاعريته خاصة في حديث البنات عن الحنين إلى الماضي أو وصفهن لمشاعر الغربة وتعرضهن للاضطهاد ومرورهن بمراحل البلوغ ورغبتهن في العودة للوطن.
كما جاءت ترجمة الرواية أكثر من رائعة، على يد الكاتبة المصرية الفلسطينية "نرمين نزار" التي جعلت هذا النص الصعب متاحاً بترجمة دقيقة، سلسة، وكأن الرواية كتبت بالعربية. بل وساهمت بشكل جميل في تعميق شاعرية العمل وجعله مفهوماً ومتاحاً للقراءة في نسخة ولا أروع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.