التفكير الموضوعي وإصلاح الحياة

عدد القراءات
2,319
عربي بوست
تم النشر: 2020/06/11 الساعة 11:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/11 الساعة 11:10 بتوقيت غرينتش

تميزت الحضارة الإسلامية في عصرها الزاهر والحضارات الغربية التي ورثتها بتفكيرها الموضوعي الذي استمر حتى عصرنا الحالي، وظهرت الكثير من نتائجه في الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين.

فالتفكير الموضوعي هو علامة الحضارات المتقدمة، وله سمات  معينة لا بد من تواجدها قبل أن تظهر نتائج هذا التفكير في حياة الناس.

لكن مؤخراً بدأت طرائق التفكير الموضوعي تتغير في أمريكا، حيث بدأت تنحو منحى التفكير الحدسي الشخصي، فظهرت كتابات عديدة تدعو وتمجد هذا التفكير الحدسي الفردي، ما أدى إلى رد فعل من أصحاب التفكير الموضوعي.

ففي كتابه "فكر" الصادر عام 2006 انتقد مايكل لوغالت بشكل مباشر كتاب بلينك (طرفة عين) لمؤلفه الشهير مالكوم غلادويل الذي يتحدث فيه عن "قوة التفكير بدون تفكير" بحيث عنون لوغالت كتابه تحت شعار "لماذا لا يمكن اتخاذ القرارات الحاسمة بطرفة عين؟" في لمز واضح لكتاب غلادويل.

أثار كتاب لوغالت انتباه كثير من مجامع التفكير ومنها مجمع "مؤسسة التراث" اليمينية The Heritage Foundation، الذي وجه له الدعوة ليعطي نبذة عن الكتاب في محاضرة ألقاها في يناير/كانون الثاني 2006. 

ليس المهم هنا الكتاب بحد ذاته، لكن المهم تعامل مجامع التفكير معه.. فما هي مجامع التفكير؟

حسب ويكيبيديا: مجمع التفكير (أيضاً تُسمّى معهد السياسات) هو مؤسسة، أو معهد، أو شركة، أو مجموعة تقوم بالبحث وتنخرط في المناصرة في مجالات السياسة الاجتماعية، الاستراتيجية السياسية، الاقتصاد، وقضايا العلوم والتكنولوجيا، وسياسات الصناعة وإدارة الأعمال، أو النصح العسكري.

الكثير من مجامع التفكير هي منظمات غير ربحية مستثناة من دفع الضرائب في بلدان مثل أمريكا وكندا. وفي حين أن بعض مجامع التفكير تموّلها الحكومات والمجموعات ذات الصلة بموضوع المجمع أو الأعمال، فإن البعض الآخر يتموّل من بيع الاستشارات والأعمال البحثية المتعلقة بمنهجهم.

 هذه المجامع الفكرية تكاد تكون معدومة في العالم العربي والإسلامي.

وأسباب ندرتها متعددة ومن أهمها انعدام الحرية الفكرية وغياب الموضوعية.

إضافة إلى ذلك هناك غياب واضح لأهمية فهم المعرفة وإنتاجها.

في الفقرات القادمة سأتعرض لمفهوم جديد عن "المعرفة والمعلومات" (إنتاج المعرفة) من منظور قرآني.

هذا المنظور سيأخذ في حسبانه العلاقة بين إنتاج المعرفة وأثرها في مقاومة الإفساد وسفك الدماء والحد والوقاية منهما. 

اكتساب المعرفة وإنتاجها وعلاقة ذلك بالإفساد وسفك الدماء.

تبدأ قصة المعرفة في القرآن الكريم مع خلق آدم عليه السلام وظهوره على مسرح الأحداث الإنساني.

لكن هذا الظهور سيستدعي مباشرة تساؤلاً مبرراً من الملائكة بأن آدم سيتسبب في الإفساد وسفك الدماء.

إذ لم تكد الملائكة تسمع الله يخاطبها قائلاً: "إِنِّيْ جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيْفَةً"  (البقرة: 30)، معلناً بذلك عن ولادة الإنسان ليكون في الأرض خليفة حتى تساءلت متعجّبة: "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ" (البقرة: 30). 

إنها تهمتان إذاً تتهم بهما الملائكةُ آدمَ حتى قبل أن يصبح خليفة ويتسلَّم مهامه في الأرض، تهمة الإفساد وتهمة سفك الدماء.

التهمة الأولى الإفساد وهو بمثابة مقدمة لكل ما ينتج عنها حتى يصل الإفساد إلى ذروته المتمثلة بسفك الدماء. 

الإفساد مقدمة، وسفك الدماء نتيجة لها، بل أفظع نتائجه. وما بين المقدمة والنتيجة حياة كاملة من الشر تخيلها الملائكة ورموا آدم بها. 

لكن الله لم يكن ليخلق آدم ويجعله خليفة من دون إعداده لتحمل مسؤوليات الاستخلاف. 

فيجيب الله الملائكة: "قَالَ إِنِّيْ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُوْنَ" (البقرة: 30). 

وتبدأ عملية إعداد آدم وتأهيله ليصبح أهلاً لتحمل الأمانة بخطوتين اثنتين: 

"وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا" (البقرة: 31). 

إنها الخطوة الأولى في عملية الإعداد، في إشارة إلى أن هذه العملية لا بد لها بداية من تعليم كامل للعلم مع كل ما يحيط به من أسماء ومصطلحات ومعانٍ.  

ليس المهم هنا ماهية الأسماء التي تعلمها آدم، فالله تبارك وتعالى سكت عن هذه الماهية. وقد فصل المفسرون في هذه الأسماء إلا أن ذلك يبقى رجماً بالغيب، وحيث إن الله لم يطلعنا على هذا الغيب فلا مجال لأحد أن يكون قد عَلِمَه من غير هذا المصدر.

إنها إذاً عملية إدخال المعلومة؛ الخطوة الأولى في عملية البناء.

واستكمالاً لهذه الخطوة يسأل الله عز وجلّ الملائكة: 

"… فَقَالَ أَنْبِئُوْنِيْ بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ" (البقرة: 31)، لكن الملائكة توقفت عن ذلك، لأنها لم تتعلم تلك الأسماء: "قَالُوْا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا" (البقرة: 32)، في إشارة تعليمية بالغة الأهمية تستكمل الخطوة الأولى وتهيئ للثانية. وهي واجب التوقف عن الإدلاء بأي معلومة حين تغيب عن المسؤول عنها. فلو علم الملائكة تلك الأسماء لأنبأوا عنها فهم "لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون" (التحريم: 6). 

بعد ذلك مباشرة ينتقل الخطاب الإلهي إلى الخطوة الثانية في عملية تأهيل آدم وهي "قدرة المتعلم بعد التعليم على الإنباء بشكل صحيح عما تعلمه"

"قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ" (البقرة: 33) 

استعمل البيان الإلهي لفظ الإنباء لما يحتويه من دقة في نقل المعلومة، تشهد على ذلك مواضع هذا اللفظ الأخرى في القرآن الكريم:

"عمّ يتساءلون عن النبأ العظيم" (النبأ 1-2). 

"ولا ينبئك مثل خبير" (فاطر: 14). 

" قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير" (التحريم: 3). 

فالإنباء إذاً هو الخطوة التالية في عملية التأهيل. ويكوِّن مع العلم الضمانة الكاملة التي تقوم في وجه الإفساد وسفك الدماء حين حدوثهما.

وهنا وبعد أن يُتم آدم اختباره بنجاح ويُنبئ عما تعلمه على الوجه الصحيح يبادر البيان القرآني: 

"فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" (البقرة: 33). 

إنه الإنباء عن العلم إذاً الذي يميز الإنسان الذي يستطيع مقاومة الإفساد وإصلاح ما نجم عنه.

فصّل المفسرون كثيراً في معاني "الأسماء كلها" رغم أنها من علم الغيب، لكنهم لم يفصِّلوا في معاني "فلماّ أنبأهم" وهي الشرط المتمم لعملية تأهيل آدم التعليمية التي جعلته أهلاً للاستخلاف في الأرض وعمارتها ونفي تهمتي الإفساد وسفك الدماء عنه.

هذه الرحلة التي تبدأ بتعلم العلم وأسماء مفرداته في الحياة ومن ثم النضج فيه والتمكن منه، ليصل إلى درجة الإنبائية من دون تحريف أو تشويه هي رحلة الموضوعية في القرآن الكريم التي تبدأ بـ:

"إني جاعل في الأرض خليفة" (البقرة: 30). 

ولا تنتهي إلا والله يقول:

"اليوم أكملت لكم دينكم" (المائدة: 3). 

كان يمكن لآدم أن يخبر عن الأسماء بشكل خاطئ فهو ليس من صنف الملائكة بل له مطلق الحرية في اختيار ما يقوم به، هذا الاختيار الذي يعتبر السمة المميزة لبني البشر: "وهديناه النجدين" (البلد: 10). 

إذاً فالعلم والإنباء ضرورة لا بد منها لمحاربة الإفساد وسفك الدماء.

ولم تتم تبرئة آدم عليه السلام من التهمتين اللتين لحقتا به (الإفساد وسفك الدماء) حتى استكمال مرحلتي اكتساب ومن ثَمّ إنتاج المعرفة.

ولو تمعنا قليلاً في هذين المعنيين لرأينا أن إتمام العناصر المكونة لهذا النموذج ضروري جداً لفهمه بشكل كامل. 

إذاً هنا حدث أمران:

1-   اكتساب المعرفة (تعليم آدم الأسماء كلها). 

2-   الإنباء عن هذه المعرفة (فلمّا أنبأهم بأسمائهم). 

فمن هذا النموذج المعرفي، نستطيع أن نخلص إلى عدة نتائج:

هذا الاكتساب والإنتاج للمعرفة على الوجه الصحيح لا يؤدي فقط إلى الخير لكنه يعمل كلقاح وترياق ودفع للإفساد وسفك الدماء. 

إن اكتساب و/أو إنتاج المعرفة الزائفة هو الذي يؤدي إلى الإفساد وسفك الدماء.

إن عدم اكتساب المعرفة و/أو عدم إنتاجها لن يؤدي إلى إفساد وسفك دماء ولكنه لن يدفعهما.

من هذه المعطيات نستطيع أن نشكل أربع نماذج حسب اكتساب وإنتاج المعرفة.

1-  النموذج الأول: هو نموذج العلم والإنباء الذي مثَّله آدم عليه السلام فاستحق بذلك شرف الاستخلاف في الأرض.

2- النموذج الثاني: هو نموذج الملائكة الذين لم يُؤْتَوا علم الأسماء فتوقّفوا عن الإنباء عنها إذ سُئلوا. وهذا النموذج يمثله قولهم "لا علم لنا". 

إنه نموذج لا يؤدي إلى الإفساد وسفك الدماء لكنه نموذج حيادي لا يستطيع دفعهما.

3- النموذج الثالث: هو نموذج من يُؤتى علم الأسماء لكنه يستنكف عن الإنباء عنها إذ يُسأل.

إنه نموذج كاتم الشهادة الآثم قلبه.

نموذج سيؤدي إلى الإفساد وسفك الدماء. 

4- النموذج الرابع والأخير: هو نموذج ذلك الذي لم يُؤت علم الأسماء لكنه رغم ذلك ينبئ عنها من غير علم حين يُسأل.

إنه نموذج شاهد الزور الذي يشهد زوراً بما لا يعلمه.

إنه الوجه الآخر لكاتم الشهادة.

وما بين شاهد الزور وكاتم الشهادة تدور أركان الشر والإفساد وسفك الدماء في هذا الكون، والأمثلة على ذلك كثيرة لا تنتهي بقتل فرد من الأفراد فحسب، ولكن باستعباد الشعوب تحت المسميات الكاذبة وقتل الناس جماعات بعد اختراع التهم لهم ورميهم بها جزافاً. أنه نموذج نراه اليوم فيما بات يُعرف بالأخبار الزائفة التي ترمي إلى تغيير الواقع عما هو عليه وسحر أعين الناس ليستطيع الفراعنة الجدد حكم البشر سُخرة.

إن استخلاف آدم في الأرض ليست عملية متروكة للمصادفة، وليست مدعاة للإفساد وسفك الدماء كما ظنت الملائكة، ولكنها على العكس تماماً، عملية محكمة مفصلة بقواعد وسنن اجتماعية وعلمية تلاحق الإفساد وتحاصره وتقلل من نتائجه، وما قد يؤدي إليه من شرور.

وهنا ملاحظة أخيرة لتبيين دور آدم في هذه الحياة.. الملائكة ظنت أن خلق آدم سيؤدي إلى الإفساد وسفك الدماء. ولكن لما تبين لنا أن خلق آدم إنما هو الذي سيمنع ويضاد ذلك، ولما كان عكس الإفساد هو الإصلاح، وعكس سفك الدماء والموت هو الحياة، فإن مهمة آدم بالتعريف إنما هي "إصلاح الحياة". إنّ فَهْمَنا لذلك سيؤدي بالضرورة إلى أن نفهم أن إصلاح الحياة عملية مستمرة لن تتوقف طالما أن هناك إفساداً وسفكاً للدماء.

هذه الرحلة من اكتساب المعرفة إلى إنتاجها على الشكل الصحيح هي ما سنسميه بالرحلة إلى الموضوعية.

في هذه الرحلة إلى الموضوعية سنتعرف على أسس ومنهجية التفكير الموضوعي ثم نعرج على تعريف "الحقيقة" والوصول إليها ومن ثَمَّ التعامل معها.

ونختم باستعراض بعض أخطاء التفكير التي تعيق التفكير الموضوعي وطرق علاجها.

ولابد من الإشارة إلى مصادر هذه الرحلة التي استخدمناها في البحث خلال سبعة عشر عاماً من الكتابة وإلقاء المحاضرات عن الموضوع.

أول هذه المصادر هو كتاب "فصول في التفكير الموضوعي" للدكتور عبدالكريم بكّار والذي شكّل وحدد إطار البحث وتفريعاته.

ثم كتاب Th!nk  "فكِّر" لمؤلفه مايكل لوغالت الذي أشرنا إليه في بداية هذه المقدمة.

وكتاب Deadly Decisions  "قرارات مميتة" لمؤلفه كرسيتوفر بيرنز الذي فصّل في موضوع العلاقة بين المعلومات الزائفة وعلاقتها بالإفساد وسفك الدماء.

وكتاب The Laws of Human Nature "قوانين الطبيعة البشرية" لمؤلفه الموسوعي روبرت غرين.

إضافة إلى الكثير من المقالات على الشبكة العنكبوتية التي سنشير إليها في حينه.

يبقى أن نشير إلى أن من أهم ما شكل عناصر هذه الرحلة هو التغذية الراجعة والتفاعل مع كثير ممن حضروا هذه المحاضرات فكنّا دوماً نعمد إلى تنقيحها اعتماداً على هذه الملاحظات والنصائح القيِّمة.

أخيراً، لعل هذه المقدمة تكون سبباً في إلقاء الضوء على أهمية مجامع التفكير لاكتساب المعرفة وإنتاجها بغية إصلاح الحياة ودفع الإفساد وسفك الدماء ومن ثَمَّ العمل على إنشاء هذه المجامع بتلك المواصفات وتمويلها بما لا يجعلها رهينة أي أجندة خارجة عن هذه الأهداف.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
طارق أبو غزالة
طبيب وكاتب
الدكتور طارق أبوغزالة، استشاري أمراض القلب والقسطرة ورئيس قسم أمراض القلب والأوعية في مستشفى ستونز سبرينغز بولاية ڤرجينيا الأمريكية. وهو كذلك عضو مجلس إدارة الجمعية الطبية لولاية ڤرجينيا، وعضو مجلس إدارة الجمعية الطبية لشمال ڤرجينيا. نُشرت له الكثير من المقالات على الشبكة العنكبوتية.
تحميل المزيد