دعك من المقدمة، لأن المقدمات دائماً ما تكون مملة، ماذا يعني لك ماضيك؟ أخبرك، لأنك لست هنا الآن لتخبرني بالضبط ماذا تعني لك طفولتك ومراهقتك، حتى ما أنت عليه الآن وما سيكون ماضيك بالغد، كل هذا يمثل لك الكثير، وإذا كنت تشبهني، أعني تملك ذاكرة لا تمحي أي شيء، وتحتفظ بكل صغيرة وكبيرة داخل عقلك وكأنه لوح محفوظ، فإن هذا يا عزيزي سيمثل لك عذاباً سيزيفياً أليماً، لا تنس هذا يعني أنك لا تُشفی.
"العالم مكان موحش نلجه وحدنا وسنموت وحدنا لكن يجب أن نقاتل لخلق مساحة لنا ومتنفس وسط الزحام الخانق كما يحدد الحيوان منطقة نفوذه!"
في رواية "يناير مؤقت" التي تتحدث عن أكثر الأوقات ضبابية وحزناً في حياة هذا الجيل، حكی رجل صاحب موهبة كالهراوة، تُسقط الكلمات علی رأسك فتهشمها، حكی "عمرو جنيد" عن الثروة والحب والألم والغربة، عن النشوة، وعن قسوة الذاكرة التي لا تُصاب بالنسيان، وتجعلك مصلوباً طوال سنواتك كالمسيح دون خلاص. هذا يعود بي لذكر نقطة قديمة، لماذا نكتب! في عمل كهذا، بدا لي وكأنها محاولات توثيق لجرح حب لم يندمل، حب الوطن، الثروة، وحب "نور" المرأة التي تمر في حياة الرجال منا ولا تعود الحياة كما كانت قبلها أبداً. الرجال حينما يعشقون ويهجرون، لا ينسون، ولا تمحي السنون من جلدهم ملمس امرأة واحدة أحبوها بصدق، ومهما مرت السنون تظل الذاكرة نابضة، كجحيم مشتعل بقلب الرجل لا يطفئه شيء.
"من الصعب أن تكون انتقائياً لي مدينة إجبارية كالقاهرة، القاهرة المدينة الرمادية، قاهرة الإنسان."
القاهرة من القهر، ومن يعيش هنا يصعب عليه نسيان عادم السيارات وسنوات الحب وسنوات الثورة، والصخب الذي ملأ صدورنا وقتها، والأمنيات الحالمة التي تبددت على صخرة التكاسل والاتهامات الزائفة بالعمالة لدول أجنبية وأطراف متنازعة، رغم أن الأمر بسيط، أغلبية من شاركوا في حدث عظيم مثل هذا لم يجمعهم سوی حب الوطن، ولم يهزمهم سوی خذلان العالم وقسوته علی الحالمين.
"أما الوحدة فهي أساس العالم، نولد وحدنا وسوف نموت وحدنا، الوحدة هي ناموس الكون الأكبر، المشكلة فقط تظهر عندما يفكر الإنسان في محاربة الوحدة، آدم طُرد من الجنة وهبط إلى الأرض يبحث عن حواء في كل بقعة لمحاربة الوحدة، البشر أسسوا الجماعة والقبيلة والدولة ليقضوا على فكرة الوحدة الموحشة، نصادق بشراً لا ينتمون إلينا فيزيد شعورنا بالوحدة، نتزوج وندخل في شراكات وننجب أبناءً جاحدين وتلهينا الأماني، تتولد المأساة من المقاومة لتموت أحلامنا لأن توقعاتنا أشبه بشطحات دائماً ما تخذلنا".
الذكريات فيلم معاد يُبكينا كل ليلة، نعرف حقيقة الفراق ونهايات العلاقات ونتيجة القرارات المحمومة بالنشوة والعاطفة، ولكن رغم ذلك نبكي، لأن الواقع قبيح، وأحلامنا كانت تفتقر للنضج الذي يسببه حزن النهايات.
"لو تمعن أي أب جيداً في نتاجه سيجد أن الابن ما هو إلا انبعاث آخر لصفاته الشخصية بكل ما فيها، ورث شكله ضحكته وطريقته في المشي حتى أمراضه النفسية ومجموع عقده، الابن ما هو إلا تجل لهوس أجيال متلاحقة."
حقيقة جلية لا ينظر لها الناس، أن صراع الأجيال الدائر دوماً ما هو إلا تفاهة وهراء محض، لا يمت للواقع بأي صلة، لعل هذا ما يحدث دوماً بين الأبناء وأهلهم لإضافة نوع من التسلية في الحياة العائلة، ولكن الحقيقة أن كل صراعتنا مع أهلنا ما هي كانت إلا صراعاتهم مع أهلهم، وأن كل هذا العذاب المستمر لا يؤدي إلا إلی أننا نسخ مكررة، إعادة تدوير لأخطاء ماضية في قالب جديد فقط لأننا نخشی نمطية الحياة الكئيبة.
"ليت العالم يتم إصلاحه، يا ليت مثالية المثاليين تعكس ما عليه العالم حقاً، وأم الخير في البشر حتی يوم الدين."
"إن هذا الصراع بين الواجب والألم والشكوی المتكومة حد الصراخ ما هو إلا احتمالات لمخاض قبل ولادة شيء ما، نحن في ولادة نعيش حيوات متكررة في حياة واحدة."
"مناجل الموت تحصد رقاباً في مسرح، الموت هنا أصبح معتاداً كإقامة الصلوات الخمس، والضحايا مجرد أرقام تزداد باضطراب، أرقام تتبعها مضاعفات لنفس العملية، أرقام تقسم على صفر ليكون ناتجها صفراً كبيراً ساخراً لمصفوفة الموت الجماعي".
أي عدد موتى تحدث عنه الكاتب، هل عدد الموتى في السجون بسبب الخلافات في الرأي، أم في العالم بسبب خلافات التوجه، أم ضحايا التنمر والنبذ نتيجة اختلاف عرقي أو اختلاف توجه جنسي ما، أم عدد الموتی نتيجة الحروب الدينية أو السياسية، الحقيقة أن العالم ما هو مقبرة كبيرة تضم بين ترابها كل شيء جديد سرعان ما يتم وأده خوفاً من التغيير، خوفاً من هشاشة ما نؤمن به، العالم يسرع في دورته للقضاء على الاختلاف لخلق نسخة بشرية نمطية كئيبة لا يجب إلا أن تسعى إلا لمصلحتها حتى لو على حساب جز رقاب الآخرين.
"متى يموت الحب؟"
سؤال يعجز الجميع عن إجابته إجابة مؤكدة، لأنه سؤال مراوغ، في رأيي أنا لا يموت الحب، الحب لعنة ما إن تمس الروح لا تفارقها إلا بالموت، لذلك قد يقتل رجل عشيقة هجرته لأنه لا يطيق فراقها، وقد يقتل الوطن أبناءه خوفاً عليهم من أحلامهم المثالية تجاهه التي لن تحدث أبداً.
"هل الصدمة في من نحب من الممكن أن تسمم حياتنا هكذا؟
فيصبح كل شيء بلا قيمة أو معنی كي نلقي بأنفسنا مراراً إلى أقرب مهب ريح!"
يلجأ الناس بعد الفراق للانتحار، بعد الإحباط الكبير وبعد الخذلان والهجر، لأن الحب لعنة أو وهم، سحر أو خديعة تم اختراعها لنهرب من سجن الوحدة، لأي سبب يموت الناس بعد الفراق، لأن الصدمات الكبرى وأجل الأشياء التي فعلناها فعلناها لأجل الحب، ولأن ضياع الحب يعني موت الإنسان وفراقه لروحه إلی الأبد.
"كل ساخر متشائم يحمل بداخله إنساناً مثالياً فقد الأمل."
وأخيراً.
الذاكرة الحية لعنة، سم تم دسه لنا، نحن البشر مخدوعون في أنه يجب علينا تذكر لحظات السعادة كي تنقذنا من مستنقع البؤس، ولكن لم يخبرنا أحد ماذا نفعل حيال ذكرياتنا التي تتحول فجأة بين ليلة وضحاها، وتصبح السعادة حزناً كبيراً يبتلع الحياة التي كانت رائعة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.