قبل حوالي 1400 عام أوصى النبي محمد صلى الله عليه وسلم بإعطاء بردته التي ارتداها ليلة الإسراء والمعراج إلى التابعي اليمني أويس القرني، وبعد استشهاد القرني في معركة صفين ورِثها شقيقه، الذي ورَّثها بدوره لأولاده وأحفاده جيلاً بعد جيل، لتُحفظ فيما بعد بجامع في إسطنبول يُدعى مسجد الخرقة الشريفة.
يقصد هذا المسجد قرابة المليون مسلم سنوياً، الذين يتوافدون لرؤية البردة التي عرج فيها النبي إلى السماوات السبع، ويبلغ الازدحام فيه الذروة في ليلة القدر، إذ يُسمح في هذه الليلة بزيارة البردة حتى مطلع الفجر، في حين تكون ساعات الزيارة محددة في باقي الأيام.
فلنتعرّف معاً على هذا المسجد، أين يقع تحديداً؟ ومَن بناه؟ وكيف وصلت إليه البردة الشريفة؟ ولماذا اختص النبي أويساً بها؟
مسجد الخرقة الشريفة في إسطنبول
سُمي المسجد بهذا الاسم نسبة إلى بُردة النبي عليه الصلاة والسلام المحفوظة فيه، فقد بُني خصيصاً لحفظ هذه الأمانة النبوية، إذ إن كلمة Hırka أو "خرقة" بالتركية تعني "سترة من الصوف المحبوك" أو "عباءة".
يقع مسجد الخرقة الشريفة أو كما يُعرف بالتركية بـHırka-i Şerif Camii، في منطقة الفاتح في الجزء الأوروبي من مدينة إسطنبول.
وقد أعطى السلطان عبدالحميد الأول أمراً ببناء هذا الجامع في العام 1851، واستغرق إتمامه 4 سنوات من العمل الشاق، وقد شارك مهندس إيطالي في تصميمه إلى جانب مهندسين عثمانيين، لذلك نلاحظ أنه يبتعد قليلاً في تصميمه عن الطراز العثماني التقليدي في بناء المساجد.
وقد صُمم المسجد بحيث يكون مكان الصلاة منفصلاً عن مكان زيارة البردة، التي كان من المحظور على عامة الشعب زيارتها في بادئ الأمر.
رعاية بردة النبي عليه الصلاة والسلام
عندما بُني المسجد حفاظاً على البردة الشريفة وُضعت البردة في صندوق خاص مغلق وحُظر فتحه لعامة الشعب، واستمرّ الوضع على هذا الحال حتى تولى السلطان عبدالحميد الثاني الحكم، فأمر بفتح مكان حفظ البردة خلال شهر رمضان المبارك فقط، لكي يتمكن الناس من مشاهدة عباءة الرسول، فيما يكون الجامع مفتوحاً أمام المصلين على مدار العام.
واليوم، تعتبر زيارة الجامع وإلقاء نظرة على البردة من أشهر التقاليد التي يقوم بها الأتراك في رمضان كل عام.
تعرَّضت بعض أجزاء البُردة للتلف بسبب طريقة الحفظ التي كانت متَّبعة في الماضي، وهو ما دفع المشرفين عليها إلى الاستعانة بخبراء لحفظها قبل إعادة عرضها للجمهور.
وقد تمت عملية الحفظ بوسائل لا تؤدي إلى تغيير في هيئة البردة المصنوعة من الكتان والقطن والحرير، إذ يتم الاحتفاظ بها داخل قسم زجاجي معزول عن الهواء، بنسبة رطوبة ودرجة حرارة معينة تتناسب مع مناخ الجامع.
جدير بالذكر أن البردة النبوية لم تخرج من الغرفة المخصصة لها منذ بناء الجامع قبل أكثر من 160 عاماً.
وكما جرت العادة في المسجد، يُسمح للزوار اعتباراً من الجمعة الأولى من كل رمضان بزيارة البردة الشريفة حتى أواخر الشهر الفضيل.
كيف وصلت البردة إلى إسطنبول؟
عاشت بردة النبي عليه الصلاة والسلام يتناقلها 59 جيلاً من أحفاد شقيق التابعي أويس القرني، الذي أهداه النبي هذه البردة.
أما لماذا اختص النبي أويساً ببردته؟ فيُحكى أن التابعي أويس القرني أدرك زمن النبي دون أن يراه، إذ قطع مسافة طويلة من اليمن إلى المدينة المنورة لرؤية النبي عليه الصلاة والسلام، إلا أنه عندما وصل بعد سفر طويل كان النبي منشغلاً بغزوة تبوك، فعاد القرني أدراجه إلى اليمن مضطراً، حيث خلف أُمه المريضة هناك، دون أن يتمكن من رؤية النبي عليه الصلاة والسلام.
وقبل وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أوصى الصحابيين علياً بن أبي طالب وعمر بن الخطاب بتسليم بردته التي ارتداها يوم الإسراء والمعراج لأويس القرني، وقد التزم الصحابيان بالوصية.
وهكذا انتقلت البردة إلى القرني، الذي سافر فيما بعد إلى شمالي العراق، وقاتل في معركة صفين عام 657 إلى جانب الصحابي علي بن أبي طالب، واستشهد وقتها.
بعد ذلك انتقلت البردة إلى شقيق القرني، ووفقاً لبعض الروايات فقد بقيت العائلة تتوارثها عبر الأجيال منذ ذلك الحين حتى وصلت إلى يومنا هذا عن طريق أبناء الجيل الـ59.
ويحكى أن أحفاد شقيق القرني قد انتقلوا من الكوفة إلى الأناضول، حيث استُدعيت العائلة لتعيش في إسطنبول في عهد السلطان العثماني أحمد الأول.
وتقول رواية أخرى إن السلطان سليم الأول قد أحضر البردة إلى إسطنبول عام 1516، واحتفظ بها في مكان خاص في المدينة، إلى أن تم بناء جامع خاص لحفظها.