بالرغم من كثرة الآثار التي خلفها المصريون القدماء، تبقى المقابر الفرعونية الأكثر جاذبية وغموضاً بالنسبة لعلماء الآثار، هي لا تحوي توابيت الملوك فقط، بل يدفن فيها أيضاً كل ما قد يساعد الفرعون في الانتقال بسلام إلى العالم الآخر.
لكن، متى تم اكتشاف أول مقبرة فرعونية؟ ومن هم العلماء الذين كشفوا النقاب عن مقابر الفراعنة في وادي الملوك؟ وماذا كان مصير مقتنيات الملوك المدفونة في تلك المقابر؟
إليكم القصة كاملة كما وردت في مجلة history extra البريطانية:
بدايات التنقيب عن المقابر الفرعونية
يبدأ تاريخ علم المصريات عموماً في 1 يوليو/تموز 1798، عندما نزل نابليون بونابرت على ساحل البحر الأبيض المتوسط في مصر مع حملة لا تقتصر فقط على الجنود، بل تتكون أيضاً من الفنانين والعلماء.
كان هدف نابليون هو تأسيس مصر كمستعمرة فرنسية، وإحكام قبضته على البحر الأبيض المتوسط، وتوجيه ضربة لبريطانيا.
لكن علماء الآثار كانوا موجودين هناك لأسباب أخرى: كان عليهم السفر في جميع أنحاء البلاد، وإجراء عمليات مسح وتسجيل لكل ما يعثرون عليه، بما في ذلك ما تبقى من الآثار القديمة في مصر.
زار مختلف الرحالة الغربيين تلك الأماكن وقدموا وصفاً لها، لكن لم تكتمل أي حملة على هذا النطاق.
أول خريطة دقيقة لموقع مقابر الفراعنة
في 26 يناير/كانون الثاني 1799، وصل علماء الآثار إلى أطلال مدينة طيبة الرائعة، ويُطلق عليها "وادي بيبان الملوك".
رسم اثنان منهم، وهما بروسبير جولوا وإدوارد دو فيلييه دو تيراج، أول خريطة دقيقة للموقع، موثقين موقع 16 مقبرة، كان معظمها مفتوحاً ويمكن الوصول إليه منذ العصور القديمة.
علاوة على ذلك، يبدو أنهم كانوا أول من سجل وجود الوادي الجانبي الذي يؤدي إلى الفرع الرئيسي لمقبرة الموتى إلى الغرب، المعروفة الآن بالمقبرة الغربية.
بدت الدهشة واضحة على علماء الآثار مما وجدوه. إذ تألفت المقابر من ممرات طويلة مقطوعة في الصخر تؤدي في النهاية إلى حجرات أكبر، وبشكل نموذجي كانت آخر حجرة تحتوي على تابوت حجري لا بد أنه يحوي جثة. لكن كل المقابر نُهبت على أيدي اللصوص.
لم يبق سوى القليل من أملاك المقابر أو ما يشغلها، لكن الجدران كانت مطلية بألوان زاهية تصف مشاهد جذابة للملوك ومجموعة من الآلهة البشرية والحيوانية الغريبة، وتملأ العلامات الهيروغليفية الغامضة كل المكان، رغم أنه لا يمكن لأحد حتى هذا الوقت قراءة تلك النقوش.
البحث عن المقابر المفقودة
في عام 1815، وصل جوفاني باتيستا بلزوني إلى طيبة، بتعليمات من القنصل البريطاني العام في مصر هنري سالت لتجهيز رأس وأكتاف تمثال رمسيس الثاني لنقله من معبد الرامسيوم، معبد الموتى العظيم للفرعون، إلى نهر النيل، حيث سيبدأ رحلة إلى المتحف البريطاني.
تسببت تلك المهمة في إحباط منافس سالت، القنصل الفرنسي العام برناردينو دروفيتي، إذ انتهى بلزوني من مهمته في غضون أسبوعين تقريباً.
أرسل سالت بلزوني بعد ذلك إلى وادي الملوك، حيث أزال بيلزوني صندوق التابوت من أحد المقابر التي دخلها علماء الآثار في عهد نابليون، وكانت مقبرة رمسيس الثالث.
كان بلزوني يدرك أن المؤلفين القدامى وصفوا عدداً أكبر من المقابر التي اكتُشفت فاعتزم العثور على المقابر المفقودة.
بدأ بحثه في أواخر 1816 في الوادي الغربي، حيث أشار العلماء لنابليون إلى وجود مقبرة أمنحتب الثالث.
وهناك، أبعد قليلاً في الوادي، وجد مقبرة آي، الفرعون قبل الأخير من الأسرة الـ18، رغم أن ذلك كان عن طريق الصدفة فقط ودون أن يدرك مقبرة من تلك، وكتب في هذا:
"لا يسعني التفاخر بأنني اكتشفت اكتشافاً عظيماً في هذه المقبرة رغم احتوائها على العديد من النماذج المرسومة الغريبة والفريدة على الجدران. ونظراً لمساحتها، وجزء من التابوت الجدري المتبقي في وسط حجرة كبيرة، يمكنني افتراض أنه كان مدفن شخص ذي مكانة".
لم يعرف العالم أنها مقبرة آي حتى أعيد فحصها مرة أخرى عام 1970، رغم أن كل صور وأسماء الفرعون مشوهة.
بلزوني يكتشف المزيد من المقابر
سرعان ما وجد بلزوني مقبرة ثانية في المنطقة نفسها. لكنها لم تكن مكتملة وكانت غير مزخرفة، واحتوت على مومياوات في توابيت لثمانية أشخاص ربما ينتمون إلى عائلة تنحدر من الأسرة الـ 22.
بالعودة إلى الفرع الرئيسي لوادي الملوك، اكتشف مرقد مينتوهيرخيبشيف (أحد أبناء رمسيس التاسع)، ثم مقبرة أخرى غير مزخرفة. وفي أكتوبر/تشرين الثاني 1817، عثر أخيراً على مقبرة فرعون عظيم: أول ملوك الأسرة الـ19، رمسيس الأول.
يقود درج إلى حجر أساس من أرض الوادي، وأعقبه ممر نازل، ثم درج منحدر آخر انتهى بغرفة دفن مزخرفة بشكل جميل. كانت "كبيرة ومزينة على نحو مقبول" في تقدير بلزوني، مع تابوت من الغرانيت الأحمر في المنتصف.
كانت المقبرة ضخمة، لكن بدت أنها لم تكتمل.
كان رمسيس مؤسس الأسرة الـ19 ولم يكن ينحدر من سلالة ملكية، ربما يكون قد اعتلى العرش في وقت متأخر من حياته بعد أن أثبت بالفعل أنه كفء في الجيش المصري.
وحكم لفترة قصيرة، ربما فقط عامين أو ثلاثة، مما قد يفسر لماذا لم تكن مقبرته أكثر روعة.
ابتعد بلزوني قليلاً عن الفرع نفسه من الوادي، حيث حقق أخيراً اكتشافاً بالحجم الذي كان يأمل فيه: مقبرة خليفة رمسيس الأول، سيتي الأول.
وهو واحد من أعظم الفراعنة جميعهم، حكم سيتي الأول مدة تمتد بين 11 إلى 15 عاماً، وأقام الأراضي المصرية من جديد في سوريا وفلسطين، وأطلق مشروعات بناء ضخمة في مواقع مثل الكرنك وأبيدوس. كانت مقبرته هي الأكثر ارتفاعاً في الوادي بنيت على ارتفاع 137 متراً، وزينت بشكل جميل بأكملها.
وكما هي حال مقبرة رمسيس الأول، يجري الدخول إلى المقبرة عبر سلسلةٍ من السلالم والممرات المنحدرة، غير أن مقبرة سيتي الأول تضمنت سبع غرفٍ رئيسيةٍ إضافيةٍ، خمسةٌ منها تقوم على ركائز مربعة.
تناثرت قطعٌ جنائزيةٌ على أرضية المقبرة، من بينها بقايا للعديد من تماثيل أوشبتي، وهي تماثيل صغيرةٌ كانت بمنزلة خدمٍ للميت في الحياة الأُخرى.
أما أبرز المُكتشفات فقد كانت التابوت الحجري للفرعون، الذي كان يُغطي سُلماً يقود إلى جانب التل، وهو سُلمٌ لم تُكتشف نهايته إلا عام 2007.
كان الغطاء قد أُزيل وكُسّر إلى قطعٍ، أما الصندوق الذي تبقى فقد كان تُحفةً في فن النحت الحجري، مصنوعاً من قطعةٍ عملاقةٍ من حجر الألباستر المصري الشفاف، ومزيناً بكتاباتٍ هيلوغريفيةٍ منحوتةٍ بدقةٍ ومطعمةٍ بصورٍ من نصوصٍ دينيةٍ متنوعةٍ، أغلبها كان من كتاب البوابات.
أخرج بلزوني التابوت من المقبرة، ليصير جزءاً من مجموعة سالت، وقد بيع فور وصوله إلى إنجلترا ثم أُخذ إلى المتحف البريطاني عام 1821.
وبعد عامين من المداولات وافقت سلطات المتحف على شراء المجموعة لكن ليس التابوت الحجري، بحجة أنه باهظ الثمن.
وبدلاً من ذلك وصل إلى معماريٍ لندنيٍ اسمه السير جون سوان. وحتى يومنا هذا لا يزال التابوت في سرداب منزله في لينكولنز إن بلندن، الذي بات الآن متحفاً.
ما الذي اكتُشف كذلك في وادي الملوك؟
لم يزد عدد المقابر المُؤكدة المكتشفة إلا بعدما بدأ المُنقب الفرنسي فيكتور لوريت بالعمل في الوادي في تسعينيات القرن الـ19.
أجرى الفرنسي يوجين ليفيبور مسحاً شاملاً على المقابر، محدداً مواقعها وناسخاً النقوش والجداريات. وكان لوريت عضواً في فريق ليفيبور وقد أشار بوضوحٍ إلى احتمالية اكتشاف المزيد من المقابر.
ثم أصبح مديراً لمصلحة الآثار المصرية عام 1897، وقد توصل في السنتين اللتين شغل فيهما المنصب لسلسلةٍ لا تُصدق من الاكتشافات متفوقاً على بلزوني، ليرتفع عدد المقابر المعروفة من 25 إلى 41.
وكانت من بين المقابر المكتشفة المقبرة KV 39 التي ربما تعود إلى أمنحوتب الأول، ثاني ملوك الأسرة الـ18، الذي لم يُحدد موقع دفنه بدقةٍ إلى الآن، والمقبرة KV 34 التي تعود إلى تحتمس الثالث، بنقوشها الغامضة وغرف دفنها التي تُشبه الخرطوشات.
أما أهم اكتشافات لوريت فقد كان مقبرة أمنحوتب الثاني.
كانت المقبرة بزخارفها الغنية وعمارتها المعقدة بحالةٍ جيدةٍ، وبعكس المعتاد، فقد كانت مومياء الملك لا تزال في مكانها في التابوت الحجري.
في الغرف الجانبية التي تقود إلى يمين غرفة الدفن وجد لوريت مخبأين لمومياواتٍ.
كانت توجد ثلاث جثثٍ غير مكفنةٍ ترقد إلى جانب بعضها البعض: ذكرٌ شابٌ في المنتصف، وإلى يمينه امرأةٌ شابةٌ تُعرف الآن باسم السيدة الصغيرة، وإلى اليسار "سيدةٌ كبيرةٌ". ولعدم وجود أي توابيت أو نقوش لم يكن لوريت قادراً على تحديد هوياتهم.
لكن مجموعةً من الأدلة قد جُمعت من ذلك الحين، بالإضافة إلى اختبارات الحمض النووي، لتُشير إلى أن السيدة الكبيرة قد تكون الملكة تي، زوجة أمنحتب الثالث، وأم أخناتون، وجدة توت عنخ آمون.
أما السيدة الصغيرة فربما تكون نفرتيتي، لكن الأدلة ليست كافيةً لتأكيد تلك النظرية.
وجد لوريت كذلك في الغرفة الثانية مخبأً آخر لمومياواتٍ كانت هذه المرة مكفنةً وموضوعةً في توابيت. بالإضافة لمومياء أمنحوتب الثاني فقد وجد جثث تسعة فراعنةٍ من المملكة الحديثة. وقد نُقلت كلها إلى هنا في حادثةٍ واحدةٍ وقعت في السنة الـ13 لحكم سمندس الأول من الأسرة الـ21؛ لحمايتها من النهب.
هوارد كارتر يكتشف مقبرة توت عنخ آمون
في أوائل القرن الـ20 اكتُشفت المزيد من الاكتشافات، كان الكثير منها برعاية ثيودور إم دافيس.
كان دافيس، المحامي المسن من رود آيلند بالولايات المتحدة، يقضي شتاءاته على ضفاف النيل منذ عام 1889.
وقد أبدى اهتماماً بالانخراط في أعمال التنقيب لكبير مفتشي الآثار في صعيد مصر الشاب هوارد كارتر. وافق دافيس على تمويل حفريات كارتر، وبعد موسمٍ أولٍ غير مذهلٍ عام 1902 اكتشف كارتر في يناير/كانون الثاني من عام 1903 مقبرة تحتمس الرابع.
وكان سيُتابع التحقيق في المقبرة KV 20 التي كانت مفتوحةً منذ سنواتٍ عديدةٍ لكن لم يُعرف عنها إلا القليل.
وقد ثبت أنها حُفرت لتحتمس الأول، وربما كانت أول مقبرةٍ في الوادي، لكنها عُدلت بشكلٍ مريبٍ لتُصبح مقبرة ابنته الفرعونة حتشبسوت.
في ذلك الوقت أعادت مصلحة الآثار تعيين كارتر في مصر السفلى، ولم يعد بإمكانه متابعة عمله في وادي الملوك.
استمر دافيس في تمويل حفريات من خلفوا كارتر في صعيد مصر، بدءاً من جيمس كويبل، الذي اكتشف المقبرة غير الملكية ليويا وتويا أبوي الملكة تي، التي كانت سليمةً إلى حدٍ كبيرٍ، ثم آرثر ويغال، ثم مع منقبٍ آخر هو إدوراد أيرتون بدءاً من عام 1905 وبشكلٍ مستقلٍ عن مصلحة الآثار.
اكتشف أيرتون عام 1907 المقبرة المبهمة KV 55، التي حوت مزيجاً من المواد من حقبة العمارنة، من بينها قطعٌ جنائزيةٌ للملكة تي، وتابوتٌ يضم مومياء لذكرٍ أظهرت تحاليل الحمض النووي مؤخراً أنه والد توت عنخ آمون.
ولا يُمكن الجزم بهوية ذلك الرجل؛ لعدم وجود نصوصٍ تُعرف بأيٍ من والدي الملك الصبي، لكن أغلب الظن أنه ابن الفرعون الموحد أخناتون.
بعد ذلك بسنةٍ اكتشف أيرتون مقبرة أحد خلفاء توت عنخ آمون، آخر ملوك الأسرة الثامنة عشرة، حورمحب.
ترك أيرتون علم المصريات بعد ذلك بفترةٍ قصيرةٍ، وخلفه في منصب رجل دافيس الميداني هارولد جونز.
اكتُشفت بضع اكتشافاتٍ صغيرةٍ أُخرى في السنوات التالية، لكن بحلول عام 1912 شعر دافيس أن بإمكانه الإعلان عن "استنزاف" الوادي.
اعتقد الكثيرون أن الوادي لا يزال يحوي الكثير من الكنوز التي لم تُكتشف بعد، وكان من بينهم كارتر، لكن هذه المرة بتمويلٍ من إيرل كارنارفون.
وبعد بضع سنواتٍ لم تُكلل بالنجاح، وفي نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1922 أثبت كارتر خطأ دافيس بأكثر الطرق إذهالاً عبر اكتشافه مقبرة توت عنخ آمون، المقبرة المكتشفة رقم 62. ومنذ ذلك الحين لم تُكتشف أية مقابر ملكيةٍ في الوادي.