عند تحليل دوافع النظام الإيراني الحالي لبسط نفوذه بمنطقة الشرق الأوسط، وربما رغبته في استعادة أمجاد الماضي، يغمز المحللون عادةً لاستدعاء النظام الإيراني إرث الدولة الصفوية، التي مثَّلت قوةً لا يُستهان بها بين عامي 1501 و1736.
في هذه السلسلة نقدِّم لكم صورةً عامة عن تاريخ إيران، بدايةً من الدولة الأخمينيّة والسلوقيِّين والبارثيِّين، وصولاً إلى الدولة الساسانيَّة الكبيرة وسقوطها على يد المسلمين، وحتى الدولة الصفوية الشيعية، وصولاً إلى الخميني والنظام الإيراني الحالي. كما سنعرِّج على أهم الشخصيات في هذا التاريخ الإيراني، مثل قورش الثاني، وابنه قمبيز الثاني، وأبو مسلم الخراساني، والشاه إسماعيل الصفوي.
أما موضوع تقرير اليوم فسيكون حول أسرة أو سلالة القاجار، الذين حكموا إيران قرنين من الزمان تقريباً، وكان لهم أثر كبير على تحول المشهد السياسي في إيران، فمن هم سلالة القاجار وأشهر حكامها؟ فلنتابع التقرير التالي للإجابة عن هذه التساؤلات.
من هم سلالة القاجار؟
كان القاجار قبيلةً تركمانية تُسيطر على رقعة من الأرض، فيما يُعرف اليوم بدولة أذربيجان المُعاصرة، التي كانت جزءاً من إيران آنذاك. وعقب موت محمد كريم خان زند، حاكم الدولة الزندية في جنوبي إيران، في عام 1779، انطلق زعيم قبيلة القاجار آغا محمد خان في مهمته لإعادة توحيد إيران. وهزم آغا محمد خان العديد من المنافسين، ليُوحّد إيران بالكامل تحت حكمه، ويُدشّن الدولة القاجارية.
وبحلول عام 1794، كان قد قضى على كافة منافسيه، ومن بينهم آخر أبناء السلالة الزندية لطف علي خان، وأعاد تأكيد السيادة الإيرانية على الأراضي الإيرانية السابقة في جورجيا والقوقاز. وجعل آغا محمد من طهران عاصمةً لدولته، بعد أن كانت قريةً بالقرب من أطلال مدينة الري القديمة. وفي عام 1796، تُوِّج الشاه رسمياً. واغتيل آغا محمد عام 1797، ليخلفه ابن شقيقه فتح علي شاه.
أهم حكام سلالة القاجار
فتح علي شاه "1797-1834" التوسع شرقاً
تحت حكم فتح علي شاه، خاضت إيران حرباً ضد روسيا، التي كانت تتوسّع في الشمال باتجاه جبال القوقاز، وهي منطقة اهتمامٍ ونفوذٍ إيراني تاريخية. وتعرّضت إيران لهزائم عسكرية كبيرة إبان الحرب. وبموجب معاهدة كلستان عام 1813، اعترفت إيران بضم روسيا لجورجيا وتنازلت لها عن غالبية أراضي شمال القوقاز.
ثم اندلعت حربٌ ثانية ضد روسيا في عشرينيات القرن الـ19، لتنتهي نهايةً أكثر كارثية بالنسبة لإيران، التي أُجبِرَت عام 1828 على توقيع معاهدة تركمانجاي، التي تعترف فيها لروسيا بالسيادة على كامل منطقة شمال نهر آراس، وهي الأراضي التي تُمثّل أرمينيا وجمهورية أذربيجان حالياً.
وشهدت فترة حكم فتح علي تواصلاً دبلوماسياً مع الغرب، وبداية تنافسات دبلوماسية أوروبية مكثّفة من أجل النفوذ في إيران. وخلفه حفيده محمد شاه عام 1834، ليقع تحت سطوة النفوذ الروسي، ويُنفّذ محاولتين فاشلتين للسيطرة على مدينة هراة الأفغانية. وحين تُوفّي محمد شاه عام 1848، انتقلت الخلافة إلى ابنه ناصر الدين، الذي أثبت أنّه أنجح وأقدر حكام القاجار.
نصر الدين شاه "1848-1896" ضياع هراة والخضوع للغرب
دخلت العلوم والتكنولوجيا وأساليب التعليم الغربية إيران في عهد ناصر الدين شاه، وبدأ تحديث البلاد. وحاول ناصر الدين شاه استغلال عدم الثقة المتبادلة بين بريطانيا العظمى وبين روسيا، من أجل الحفاظ على استقلال إيران، لكن التدخلات الأجنبية والتعدّي على الأراضي ازداد خلال فترة حكمه. إذ حصل على قروضٍ أجنبية ضخمة لتمويل رحلاته الشخصية باهظة الثمن إلى أوروبا.
ولم يستطع منع بريطانيا وروسيا من التعدي على مناطق النفوذ الإيراني التقليدية. وفي عام 1856، منعت بريطانيا إيران من إعادة تأكيد سيطرتها على هراة، التي كانت جزءاً من إيران في عصر الدولة الصفوية، لكنها لم تعُد خاضعةً للحكم الإيراني منذ منتصف القرن الـ18. ودعمت بريطانيا دمج المدينة في أفغانستان، وهي الدولة التي ساعدت بريطانيا في تأسيسها من أجل تمديد المنطقة العازلة بين الأراضي الهندية وبين الإمبراطورية الروسية المُتوسِّعة.
كما بسطت بريطانيا سيطرتها أيضاً على مناطق أخرى في الخليج خلال القرن الـ19. وفي الوقت ذاته، كانت روسيا قد أتمّت غزوها لأراضي تركمانستان وأذربيجان المعاصرتين بحلول عام 1881، لتصير الجبهة الروسية مُتاخمةً للحدود الشمالية الشرقية الإيرانية، وتنقطع روابط إيران التاريخية بمدينتي بخارى وسمرقند.
وتسبّبت التنازلات التجارية من جانب الحكومة الإيرانية في وضع الشؤون الاقتصادية للبلاد تحت السيطرة البريطانية. وبحلول أواخر القرن الـ19، بدأ الكثير من الإيرانيين يقتنعون بأنّ حكامهم يرضخون للمصالح الأجنبية.
ناصر الدين شاه والأمير الكبير.. بين الإصلاح والقتل
كان الأمير الكبير ميرزا تقي خان (أمير نظام) مستشاراً للأمير الشاب ناصر الدين ومسؤولاً عن أمنه. وحين مات محمد شاه عام 1848، كان ميرزا تقي مسؤولاً بنسبةً كبيرة عن صعود ولي العهد ناصر الدين إلى العرش. وحين تولّى ناصر الدين العرش، حصل أمير نظام على منصب رئيس الوزراء ولقب الأمير الكبير.
وكانت إيران مُفلسةً تقريباً، وحكومتها المركزية ضعيفة، ومقاطعاتها تتمتّع بحكمٍ ذاتي تقريباً. وخلال العامين ونصف التاليين، أطلق الأمير الكبير إصلاحات مُهمة في كافة قطاعات المجتمع تقريباً، إذ جرى خفض الإنفاق الحكومي، والتفريق بين الأموال الخاصة والعامة. كما تم إصلاح أدوات الإدارة المركزية، وتحمّل الأمير الكبير المسؤولية عن كافة قطاعات البيروقراطية، فقيَّد التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية لإيران، وشجّع التجارة الأجنبية.
وبدأ تنفيذ المشاريع العامة مثل بازار طهران الكبير، وأصدر الأمير الكبير فرماناً يحظر الكتابة المُزخرفة أو المبالغ في شكلها على الوثائق الحكومية، ويعود تاريخ بداية النثر الفارسي المُعاصر إلى تلك الفترة.
وكان تأسيس دار الفنون واحداً من أهم إنجازات الأمير الكبير، وهي أول جامعةٍ حديثة في إيران. وتأسّست دار الفنون من أجل تدريب كادرٍ جديد من الإداريين، وتعريفهم بالتقنيات الغربية. وأمر الأمير الكبير ببناء المدرسة على حافة المدينة، حتى يتسنّى لهم توسعتها عند الحاجة.
ووظّف مُدرسين فرنسيين وروسيين إلى جانب الإيرانيين، لتعليم التلاميذ مُختلف المواد مثل اللغة والطب والقانون والجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والهندسة. ولكن الأمير الكبير لم يعش طويلاً ليُشاهد إتمام أعظم إنجازاته للأسف، لكن إنجازه لا يزال منتصباً في طهران ليدُل على أفكار رجلٍ عظيم من أجل مستقبل بلاده.
وأغضبت تلك الإصلاحات العديد من الشخصيات البارزة التي استُبعِدَت من الحكومة. إذ كانوا يعتبرون الأمير الكبير تهديداً لمصالحهم؛ فشكّلوا ائتلافاً ضده، نشطت فيه والدة الملك، وأقنعت الشاه الصغير بأنّ الأمير الكبير يُريد اغتصاب العرش. وفي أكتوبر/تشرين الأول عام 1851، طرد الشاه الصغير ناصر الدين الأمير الكبير ونفاه إلى كاشان، حيث قُتِلَ لاحقاً بأوامر من الشاه.
مظفر الدين شاه.. ميلاد الثورة الدستورية في إيران
من مشيئة القدر أن يلاقي ناصر الدين شاه المصير ذاته الذي أذاقه للأمير الكبير، فقد اغتيل ناصر الدين شاه على يد ميرزا رضا كرماني عام 1896، بعدها انتقل العرش إلى نجله مظفر الدين. وكان مظفر الدين حاكماً ضعيفاً وغير فعّال. إذ أسفر البذخ الملكي وغياب العائدات عن تفاقم المشكلات المالية.
وسرعان ما أنفق الشاه أموال قرضين كبيرين من روسيا على رحلاته إلى أوروبا جزئياً. وازداد الغضب الشعبي نتيجة نزوع الشاه لتقديم التنازلات إلى الأوروبيين، في مقابل مبالغ سخية تُدفع له ولمسؤوليه. فبدأ الناس يُطالبون بفرض قيودٍ على السلطة الملكية وتأسيس سيادة القانون، بالتزامن مع ازدياد قلقهم حيال النفوذ الأجنبي، وخاصةً الروسي.
وحين فشل الشاه في الاستجابة لاحتجاجات المؤسسة الدينية والتجار وغيرها من الطبقات اضطر التجار والزعماء الدينيون، في يناير/كانون الثاني عام 1906، إلى اللجوء للمساجد في طهران وخارج العاصمة، من أجل الاحتماء من الاعتقال المُحتمل. وحين تراجع الشاه عن وعده بأن يسمح بتأسيس "بيتٍ للعدل"، أو مجلسٍ استشاري، لجأ 10 آلاف شخصٍ يقودهم التجار إلى مجمع المندوب البريطاني في طهران، خلال شهر يونيو/حزيران. وفي أغسطس/آب، أُجبِر الشاه على إصدار فرمانٍ يعد بوضع دستور.
وفي أكتوبر/تشرين الأول، انعقد مجلسٌ مُنتخب وصاغ دستوراً فرَضَ قيوداً صارمة على السلطة الملكية، وتشكيل برلمانٍ منتخب "أو مجلس" بسلطاتٍ واسعة لتمثيل الشعب، وتشكيل الحكومة بوزراء يُصادق عليهم المجلس. ووقّع الشاه على الدستور في الـ30 من ديسمبر/كانون الأول عام 1906. ومات بعدها بخمسة أيام.
ونصّت القوانين الأساسية التكميلية، التي أُقرِّت عام 1907، على الحرية المشروطة للصحافة والتعبير، وتكوين الجمعيات والأمن على الحياة والامتلاك. ومثّلت الثورة الدستورية نهاية حقبة العصور الوسطى في إيران، لكن الأمل في حكمٍ دستوري لم يتحقّق.
محمد علي شاه ..الثورة والإطاحة بالشاه
حاول محمد علي شاه (1907-1909)، نجل مظفر الدين، إلغاء الدستور وإبطال الحكومة البرلمانية بمساعدةٍ من روسيا. وبعد عدة نزاعات مع أعضاء المجلس في يونيو/حزيران، استخدم لواء القوزاق الفارسي -بضباطه الروس- لقصف مبنى المجلس، وقبض على العديد من النواب، ثم أغلق المجلس.
لكن مقاومة الشاه تكتّلت في تبريز وأصفهان ورشت وغيرها من المدن. وفي يوليو/تموز عام 1909، تقدّمت القوات الدستورية من رشت وأصفهان إلى طهران، وأطاحت بالشاه، وأعادت العمل بالدستور. ونُفِيَ الشاه السابق إلى روسيا.
ورغم انتصار القوات الدستورية، لكنّها واجهت صعوبات شديدة. إذ إنّ اضطرابات الثورة الدستورية والحرب الأهلية قوّضت الاستقرار والتجارة. علاوةً على أنّ الشاه السابق حاول استعادة عرشه، بمساعدة روسيا، ونشر بعض الجنود في يوليو/تموز عام 1910. والأخطر من ذلك كله هو أنّ الأمل في تدشين الثورة الدستورية لحقبةٍ جديدة من الاستقلال عن القوى العظمى انتهى، حين اتفقت بريطانيا وروسيا على تقسيم إيران إلى مناطق نفوذ بموجب الحلف الأنجلو-روسي عام 1907.
وحصل الروس على حق حماية مصالحها في الجزء الشمالي من البلاد، في حين حصل البريطانيون على الجنوب والشرق. وكان للقوتين مُطلق الحرية في التنافس على الأفضلية الاقتصادية والسياسية داخل المنطقة المُحايدة بمنتصف البلاد.
وبلغت الأمور ذروتها حين سعى مورغان شوستر، المدير الأمريكي الذي عُيِّن أميناً للخزانة من جانب الحكومة الفارسية لإصلاح أوضاعها المالية، إلى تحصيل الضرائب من مسؤولين نافذين ترعاهم روسيا. ثم حاول إرسال أفرادٍ من حرس الخزانة، وهي قوة شرطة تابعة لدائرة الضرائب، إلى منطقة النفوذ الروسية.
وحين رفض المجلس بالإجماع إنذاراً روسياً يُطالب بإقالة شوستر في ديسمبر/كانون الأول عام 1911؛ تحرّك القوات الروسية التي كانت داخل البلاد بالفعل لاحتلال العاصمة. وللحيلولة دون حدوث ذلك، حاصر الزعماء البختياريون وجنودهم مبنى المجلس، وأجبروا الأعضاء على قبول الإنذار الروسي وأغلقوا المجلس، مما عطّل الدستور مرةً أخرى. وأعقبت تلك الأحداث فترةٌ من الحوكمة بقيادة الزعماء البختياريين وغيرهم من الشخصيات البارزة النافذة.
أحمد شاه ..النهاية
وُلِدَ أحمد شاه في الـ21 من يناير/كانون الثاني عام 1898 بمدينة تبريز، وصعد إلى العرش في الـ11 من عمره. وكان مُحباً للمتعة وعاجزاً وغير مؤهّلٍ للمنصب، لذا فشل في الحفاظ على سلامة إيران ومصير سلالة عائلته الحاكمة.
وكان احتلال إيران خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، بواسطة القوات الروسية والبريطانية والعثمانية، بمثابةٍ ضربةٍ لم يُفِق منها أحمد شاه فعلياً.
وصار رضا خان (رضا شاه بهلوي 1925-1941) الشخصية السياسية الأبرز في إيران، بعد انقلابٍ عسكري وقع في فبراير/شباط عام 1921. وأقال المجلس أحمد شاه رسمياً في أكتوبر/تشرين الأول عام 1925، أثناء زيارته لأوروبا، ثم أعلن انتهاء حكم سلالة القاجار. ومات أحمد شاه لاحقاً في الـ21 من فبراير/شباط عام 1930 بمدينة نويي-سور-سين الفرنسية.