من أشهر نساء العالم وأكثرهن شراسة. حبها للعرش والسلطة دفعها لأن تفعل ما لا يمكن أن يتصوره إنسان. إنها كاثرين العظمى، الإمبراطورة الروسية التي تحدّت ظروفها وآراء المحيطين بها لتشكل حقبة بأكملها من تاريخ روسيا.
وُلدت المرأة التي ستصبح كاثرين العظمى في 2 مايو/أيار 1729، في مكان يُطلق عليه ستيتين، وهو جزء من بروسيا، ولكنها تقع في ما يمكن اعتباره الآن شمال غرب بولندا.
في عام 1744، استدعت الإمبراطورة الروسية إليزابيث الأميرة كاثرين والبالغة من العمر وقتها 14 عاماً فقط إلى موسكو لتتزوج من ابنها الذي سيصبح الإمبراطور بيتر او بطرس الثالث.
كان زواج كاثرين وبيتر الثالث متأرجحاً منذ بدايته، لذا كان لدى كاثرين الكثير من الوقت لتمضيه وحدها تأملاً وتدبيراً، حتى بعدما أنجبت له ابناً اشمه بول.
كاثرين العظمى والتخطيط لما بعد زواجها الفاشل
تقول فرجينيا راوندنج، مؤلفة كتاب "كاثرين العظمىإن الملكة إليزابيث أخذت ابنهما بول الأول بعيداً عنهما لتربيته، "فكانت هذه الفترة تجربة تكوينية لها كقائدة"، إذ أعطتها الوقت اللازم لتتفرغ لنفسها.
وتضيف رودينغ: "عندما كانت دوقة عظيمة في زواج فاشل، ولم يكن لديها شيء تفعله في البلاط الملكي، باستثناء إرضاء الإمبراطورة والابتعاد عن المشاكل، قضت الكثير من الوقت في القراءة".
هذه القراءة جعلت كاثرين على دراية جيدة بالفلسفة الفرنسية واللغة الروسية والفنون الجميلة. درّبت نفسها بنفسها إيماناً منها أنها أفضل من زوجها بأشواط.
وفي 28 يونيو/ حزيران عام 1762، اعتلى زوجها العرش بعد وفاة والدته إليزابيث، لكنه لم يكن محبوباً، وتولى الحكم لدة 6 شهور فقط، قبل أن يعزله الحرس الملكي.
إلا أن زوجته كاثرين كانت العقل المدبر لهذا الانقلاب، الذي قاده الضابط غريغوري أورلوف.
تفاصيل الانقلاب والمؤامرة مع رجال الدين
في شهر يوليو/تموز من عام 1762، أي بعد ستة أشهر من تولي بيتر الثالث مقاليد الحكم، توجه بيتر مع حاشيته والمقربين منه لقضاء إجازة في أورانينباوم، تاركاً زوجته في سانت بطرسبرغ – وهي الغلطة التي سيدفع حياته ثمنها.
في ليلة 8 يوليو/ تموز، تلقت كاثرين العظمى خبراً مفاده بأن أحد المتآمرين معها وقع في قبضة زوجها، وبأنها يجب أن تنفذ على الفور ما كنت تخطط له.
في اليوم التالي، غادرت القصر إلى مقر لواء إسماعيلوفسكي العسكري، حيث ألقت خطاباً طالبت فيه الجنود بحمايتها من زوجها.
ثم غادرت كاثرين مع الفوج للذهاب نحو ثكنات سيمينوفسكي، حيث كان رجال الدين ينتظرون أن يعينوها كملكة العرش الروسي.
ليلة القبض على زوجها
بعد ذلك، ألقت القبض على زوجها وأجبرته على توقيع وثيقة تنازل عن العرش.
وفي 17 يوليو/تموز 1762 – أي بعد ثمانية أيام من الانقلاب وبعد 6 أشهر فقط من وصوله إلى العرش، توفي بيتر الثالث خنقاً على يد أليكسي أورلوف (الأخ الأصغر لجريجوري أورلوف، والمشارك في الانقلاب).
وفي نفس وقت الإطاحة بزوجها بيتر الثالث، ولعدم إفساح المجال لأي مطالبات بالعرش، أمرت بقتل أحد المنافسين والذي يدعى إيفان السادس.
كان إيفان السادس (1740-1764) من بين المنافسين المحتملين الآخرين للعرش، علماً أنه كان محتجزاً منذ عمر 6 أشهر، بحجة أنه مجنون.
لكنه كان الريث الشرعي للعرش، إلا أن الملكة إليزابيث التي سبقت كاثرين العظمى أمرت باعتقاله وهو طفل مع اخوته كي تستولي على الحكم وتورثه لابنها بيتر الثالث.
أمرت وقتها باغتياله لو تم تهريبه، وهو ما حصل بالفعل ولكن في عهد كاثرين.
إذ اغتيل إيفان السادس خلال محاولة لإطلاق سراحه كجزء من انقلاب فاشل، بعدما أبقت كاثرين على التعليمات الصارمة بقتله في حالة حدوث أي محاولة من هذا القبيل.
إنجازات كاثرين العظيمة
خلال فترة حكمها، أشرفت كاثرين العظمى على توسع الإمبراطورية الروسية – بالإضافة إلى النزاعات التي نشأت مع الاستيلاء على أراضي جديدة، مثل الحرب الروسية التركية بين عامي 1768-1774.
ضمت أيضا إقليم شبه جزيرة القرم، الذي لا يزال وضعه مشحوناً سياسياً حتى يومنا هذا.
وامتدت امبراطوريتها حوالي 520،000 كيلومتر مربع من حدود الإمبراطورية الروسية، لتستوعب روسيا الجديدة والقرم وشمال القوقاز وشرق أوكرانيا وروسيا البيضاء وليتوانيا، إلى جانب منافسة الإمبراطورية العثمانية.
عاشقة نهمة للفن
اشتهرت الإمبراطورة المتمردة بحبها للفنون والأدب والعلوم.
ويعد متحف الأرميتاج، وهو أحد أشهر المتاحف في العالم في "القصر الشتوي"، ثروة قومية روسية بفضل شغفها الفني.
إذ بدأ المتحف كمجموعة شخصية لها، ثم أمرت ببناء الأرميتاج في عام 1770 لإيواء مجموعتها المتزايدة من اللوحات والمنحوتات والكتب.
وبحلول عام 1790، كان بيت الأرميتاج موطناً لـ 38 ألف كتاب و 10 آلاف جوهرة و 10 آلاف لوحة، وجناحين مكرسين لمجموعاتها الفنية التي أثارت فضولها.
وفي عهدها أيضاً استورد الروس ودرسوا التأثيرات الكلاسيكية والأوروبية التي ألهمت التنوير الروسي، وكان الراعية الكبرى للأوبرا الروسية.
حياتها الشخصية والعاطفية
استقبلت كاثرين رسامة البلاط الفرنسية إليزابيث فيجي لو برون (والتي سبق ورسمت الملكة ماري أنطوانيت).
وعن تلك التجربة، تشير الوثائق التاريخية لوصف الرسامة للإمبراطورة بأنها كانت صغيرة الحجم وسمينة ذات وجه جميل ونظرات ثاقبة، وبأنها كانت ترفع شعرها الأبيض.
اتخذت كاثرين لنفسها عشاقاً كثر، لكنها لم تتزوج إطلاقاً خوفاً من أن يشاركها أحد شؤون الحكم. ك
ان تمنح عشاقها مكاناً مرموقاً في البلاط الملكي ثم ترسلهم إلى أماكن بعيدة عندما تنتهي علاقتها بهم.
كانت علاقاتها المتعددة والموثقة في مراسلات بينها وبين أحد عشاقها، أحد الجوانب التي أشعلت المخيلة الأدبية والفنية لتصوير حياة هذه الإمبراطورة.
لم تتردد في إقامة علاقات مع رجال يصغرونها بـ 40 سنة، وهو الامر الذي أثار حفيظة العديد من حاشيتها، وألقى مسلسل من إنتاج HBO في عام 2019 الضوء عليه.
علاقتها بمسلمي الإمبراطورية
اختارت كاثرين دمج الإسلام في الدولة بدلاً من القضاء عليه بعدما كان محظوراً ومحارباً في العهود السابق.
وفي عام 1773، أصدرت مرسوم "تسامح جميع الأديان" سُمح بموجبه للمسلمين ببناء المساجد وممارسة جميع شعائرهم، بما فيها الحج إلى مكة المكرمة، بعدما كان ممنوعاً.
بعد ذلك، أنشأت كاثرين "جمعية أورينبورغ الروحانية المسلمة" للمساعدة في تنظيم المناطق المأهولة بالسكان المسلمين، وكذلك تنظيم تعليم ومُثُل الملالي.
ولتنظيم الشؤون الدينية لبلدها، عيّنت كاثرين رجال الجمعية الروحانية ودفعت رواتبهم، كما أمرت في عام 1786، دمج المدارس الإسلامية في نظام المدارس الحكومية الروسية، ليتم تنظيمها ومراقبتها من قبل الحكومة.
وفاتها وتلك الشائعة المغرضة
توفيت كاثرين بسبب جلطة صباح 16 نوفمبر/تشرين الثاني العام 1796، أي عندما كان عمرها 67 عاماً.
لكن شائعات سرت في الأدب المعادي لروسيا ادعت أنها توفيت نتيجة محاولتها ممارسة الجنس مع حصانها المفضل، وهو ما رفضه الكثير من المؤرخين معتبرين الإشاعة إهانة لامرأة لم تخجل من علاقاتها المتعددة في مجتمع ذكوري بامتياز.
كان من المفترض أن تكون كاثرين مجرد بيدق أو جندي إضافي في لعبة القوة الأوروبية.
بمعنى أن تتزوج من أمير ما وتمنحه "الوريث الشرعي" لمواصلة السلالة، لكنها رفضت هذا الدور لنفسها، وآثرت أن تحكم كإمبراطورة في بلدها، وأن يستمر التاريخ في سرد روايتها حتى يومنا هذا.