نادراً ما تأتي نهاية الزعماء المستبدين الذين يستولون على السلطة، وهم مستلقون على السرير في سلامٍ وسط العائلة والأصدقاء. هذا ما برهنته على الأقل نهاية الزعيم الليبي معمر القذفي، وقبله ديكتاتوريون كثر.
حتى بالنسبة لستالين وماو، اللذين وافتهما المنية لأسبابٍ طبيعية، فقد أصيبا بجنون العظمة حين اقتربت نهايتاهما، بحسب ما نشره موقع History Extra البريطاني المتخصص بالتاريخ.
ويكشف التاريخ كيف أن الحكام الديكتاتوريين، الذين استولوا على السلطة بالعنف، تعيَّن عليهم الحفاظ على السلطة بعنفٍ أكبر، وهو ما يخلق أعداءً أكثر يتوجب القضاء عليهم.
وفي حال تمكن الديكتاتور من الاستحواذ على السلطة، فإن الآخرين يستطيعون فعل ذلك أيضاً، وهو ما يزيد احتمالات طعنه من الخلف.
وهناك منافسون جاهزون لشغل المنصب دائماً، ويكونون بالقسوة نفسها عادةً. ويتعين على الديكتاتور تطهير صفوفه باستمرار، لأن المنافس قد يظهر من حاشيته الخاصة.
ومن المجدي أن يتخلص الديكتاتور من أصدقائه قبل أن يتصدى لخصومه، وغالبية الحكام الديكتاتوريين كانوا من الرجال. على الأقل هذا ما سجَّله التاريخ عبر الرئاسات المتعاقبة، والتي سُلبت بالقوة.
ثقافة الخوف.. يرون المؤامرات في كل مكان
يسيطر جنون العظمة على الأجواء في غالبية الحالات، إذ يرى الحكام الديكتاتوريون أعداءً حقيقيين وخياليين في كل مكان.
وبوصفه الأمين العام للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي؛ حرص جوزيف ستالين على أن تقبض الشرطة السرية على أكثر من 1.5 مليون شخص، وتحقق معهم، وتعذبهم، وتعدمهم دون محاكمةٍ في كثير من الأحيان بين عامي 1934 و1939 فقط.
إذ ظل يرى المؤامرات في كل مكان، بالتزامن مع تعرض ملايين آخرين للقتل أو الإرسال إلى معسكرات العمل في العقود التالية.
والخوف نفسه يقضي على ستالين وماو
لكن ثقافة الخوف المحيطة بستالين أيضاً كان لها تأثيرٌ على طريقة موته.
ففي الأول من مارس/آذار عام 1953، عثر عليه مستلقياً على الأرض غارقاً في بوله. إذ انفجر وعاءٌ دمويٌّ في دماغه، ولكن أحداً لم يجرؤ على إزعاجه في غرفة نومه.
وتأخرت المساعدة الطبية أيضاً، لأن حاشية الزعيم خشيت أن تتخذ القرار الخاطئ. فمات ستالين في الخامس من مارس/آذار.
وسيطر جنون العظمة المشابه على ماو تسي تونغ، زعيم الحزب الشيوعي الصيني.
فإبان العقد الأخير من حياته؛ صار متشككاً للغاية لدرجة أنه أطلق ثورةً ثقافية، وحرَّض الناس بعضهم على بعض حين أجبرهم على إثبات ولائهم المطلق له وحده، عن طريق إهانة أفراد عائلتهم وأصدقائهم وزملائهم.
ودمرت الحملة حياة عشرات الملايين من شعبه. وحين شُخصت إصابة زميله المقرب تشوان لاي بالسرطان، رفض ماو الموافقة على علاجه حتى فوات الأوان، فمات تشوان في يناير/كانون الثاني عام 1976.
ومات ماو نفسه بعد ثمانية أشهرٍ، في التاسع من سبتمبر/أيلول عام 1976.
نهايةٌ مهينة.. موسوليني وهتلر
مات ستالين وماو لأسبابٍ طبيعية، لكن الزعماء الديكتاتوريين كافة لا يموتون بالنسق نفسه.
فبعد اجتياح الحلفاء صقلية عام 1943، انقلب مجلس الفاشية الكبير على الديكتاتور الإيطالي بينيتو موسوليني.
وفي يوليو/تموز، أمر الملك فيكتور إيمانويل الثالث الجيش بوضع موسوليني رهن الاعتقال.
ولم يعترض عضوٌ واحد في الحزب على القرار، رغم أدائهم اليمين على حماية زعيمهم حتى الموت. وسُجن موسوليني في جزيرة بونزا، قبالة الساحل الإيطالي.
لكن موسوليني كان ما يزال يمتلك صديقاً واحداً، إذ إن النهاية المهينة لحليفٍ مقرب كانت تذكيراً لا يُحتمل بأن الزعماء المستبدين يمكن الإطاحة بهم من السلطة؛ لذا جهَّز أدولف هتلر عمليةً إنقاذٍ جريئة، وأرسل فرقة كوماندوز لتحرير الدوتشي.
ونجحت العملية، وهو ما سمح لموسوليني بتأسيس إدارةٍ فاشية جديدة شمال إيطاليا.
ولم تأتِ نهاية الدوتشي قبل عامين متتاليين، حين أُلقي القبض عليه مع عددٍ من أتباعه بواسطة بعض مناهضي الفاشية قرب بحيرة كومو.
وفي الـ28 من أبريل/نيسان عام 1945، أُعدم من دون محاكمةٍ، وأُلقيت جثته في شاحنةٍ نقلته إلى ميلان، حيث عُلقت رأساً على عقب.
ولاقى حليف موسوليني نهايةً عنيفة، ولكن ليس على يد أعدائه. فخلال الأشهر الأخيرة من الحرب، انسحب هتلر إلى مخبئه في برلين، الذي بُني أسفل مبنى المستشارية الألمانية الجديد.
إذ كتب ألبرت شبير، المهندس المعماري المفضَّل لدى الفوهرر، أن ذلك المخبأ كان "المحطة الأخيرة في رحلته بعيداً عن الواقع".
وأمر هتلر بمواصلة القتال، وهو عازمٌ على جلب الموت والدمار إلى ألمانيا، التي اعتقد أنها لا تستحقه.
وفي الـ20 من أبريل/نيسان عام 1945، يوم عيد ميلاد هتلر الـ56، ضربت أولى قذائف العدو برلين. وبعد أيامٍ قليلة، لم يتبقَّ حول المخبأ سوى دخان الأنقاض.
وبعد أن سمِع عن المعاملة غير اللائقة التي تعرضت لها جثة موسوليني، أمر هتلر بإحراق رفاته؛ للحيلولة دون تدنيسه.
وفي الـ30 من أبريل/نيسان عام 1945، انتحر هتلر بإطلاق النار على نفسه. وسُحبت جثتا هتلر وإيفا براون، عشيقته القديمة التي تزوجها قبل يوم واحد، وانتحرت بنفسها عن طريق تناول سم السيانيد، خارج المخبأ وأُلقي عليهما البنزين قبل إشعالهما.
رموزٌ متداعية.. جدار برلين والخطابات الواهية
في عام 1961، بُني حاجزٌ خرساني، على بُعد 100 مترٍ من موقع مخبأ هتلر.
وكان جدار برلين هو حل ألمانيا الشرقية لنزوح مواطنيها إلى الغرب عبر الحدود المفتوحة لبرلين الغربية، في ذروة الحرب الباردة.
وبعد سقوط الجدار في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1989، سقطت تماثيل لا تحصى للحكام الديكتاتوريين.
إذ فكك الناس تماثيل الثائر الروسي فلاديمير لينين بطول أوروبا الشرقية، وهاجموها بالمطارق ليقطعوا رؤوسها. وانتهت أيام مجد أتباع لينين.
كان بحر التغيير ذلك مفاجئاً لعديد من المراقبين، إذ كان من المعتقد أن الحكام الديكتاتوريين لا يسقطون، بعد أن هيمنوا على أرواح مواطنيهم وصاغوا فكرهم، كأنهم ألقوا عليهم تعويذةً سحرية، كما كان يقال.
ولكن لم تكن هناك تعويذةٌ سحريةٌ على الإطلاق؛ بل كان هناك خوف، وحين تبخَّر الخوف؛ انهار الصرح بأكمله.
وفي حالة نيكولاي تشاوتشيسكو الديكتاتور الشيوعي الذي حكم رومانيا بين عامي 1965 و1989، فيمكن تحديد لحظة تعثره بالتفصيل.
إذ ظهر في الـ21 من ديسمبر/كانون الأول عام 1989، من شرفة المقر الرئيسي للحزب وسط بوخارست؛ من أجل إلقاء خطابه على الحشود التي جاءت لدعم النظام.
وقبل أربعة أيامٍ فقط، في الـ17 من ديسمبر/كانون الأول، كان تشاوتشيسكو قد أمر قواته الأمنية بإطلاق النار على متظاهرين مناهضين للحكومة في مدينة تيميشوارا.
وكان السخط على نظام الديكتاتور يتزايد، بالتزامن مع سيطرة شرطته السرية الصارمة على حرية التعبير والإعلام طوال عقود.
وفي غضون دقائق من بدء تشاوتشيسكو خطابه، بدأ الحاضرون في الصفوف الأخيرة إطلاق الصافرات وصيحات الاستهجان.
فرفع الزعيم يده مطالباً بالصمت، وضرب على الميكروفون مراراً وتكراراً، لكن الاضطراب تواصل. وبدا تشاوتشيسكو مصدوماً.
فمالت زوجته "إلينا" إلى الأمام، وخاطبت الحشد قائلةً: "التزموا الهدوء! ماذا دهاكم؟".
فقرر تشاوتشيسكو مواصلة خطابه. وبصوتٍ أجشٍ ضعيف، حاول تهدئة المتظاهرين بتقديم زيادةٍ في الحد الأدنى للأجور. لكن اهتزازه كان واضحاً.
وفي غياب الخوف، تحولت الوقفة الحشد إلى أعمال شغب، أجبرت الزعيم وزوجته على الفرار بالمروحية. وجرت مطاردتهم بضعة أيام، قبل القبض عليهم وإعدامهم بإجراءاتٍ موجزة.
وبعد صدور حكم الإعدام، اقتيد الزوجان إلى فناءٍ جليدي بالقرب من المراحيض. وكان تشاوتشيسكو يغني "نشيد الأممية Internationale"، وهي أغنيةٌ يسارية تبناها البلشفيون في أعقاب الثورة الروسية عام 1917، بوصفها نشيداً وطنياً جديداً.
في حين صرخت "إلينا"، الأقل تحفظاً: "اللعنة عليكم" إبان إطلاق النار عليهما.
أيام الحساب.. حتى رفاتهم نقلت إلى مقابر عادية
ينجح الحكام الديكتاتوريون أحياناً في تأجيل يوم الحساب إلى ما بعد وفاتهم.
إذ دُفن الديكتاتور الإسباني الجنرال فرانكو مثلاً أول الأمر في وادي الشهداء، وهو النصب التذكاري الضخم الذي بُني -بأمرٍ من فرانكو- لتكريم الضحايا من طرفي الحرب الأهلية الإسبانية. ولم يبدُ أن فرانكو كان مهتماً باستغلال السجناء السياسيين كأنهم عمالٌ عبيد لإتمام المشروع.
لكن في سبتمبر/أيلول عام 2019، استُخرجت جثة فرانكو ونُقلت إلى مقبرةٍ عائلية أكثر تواضعاً.
وبالمثل، حُنِّطت جثة ستالين ودُفنت بالقرب من لينين. ولكن حين شجب نيكيتا خروتشوف زعيمه السابق وحقبة الإرهاب التي أشرف عليها؛ سُحبت جثة ستالين من الضريح الواقع في الميدان الأحمر عام 1962.
وكان انهيار الاتحاد السوفييتي الشرارة التي أشعلت موجة من الثورات ضد الحكام الديكتاتوريين في أنحاء العالم كافة.
لدى العرب.. كانت نهاية القذافي شنيعة
أتت الموجة التالية مع اندلاع الربيع العربي، بالتزامن مع الإطاحة بعديد من الأنظمة -أو تكسير عظامها- في عام 2011.
إذ كان الزعيم الليبي معمر القذافي واحداً من أكثر الحكام الديكتاتوريين انحطاطاً في المنطقة، ولكنه مات ميتةً وضيعة عام 2011، بعد أكثر من 40 عاماً في السلطة.
ويُزعم أن القذافي حوصر بعد أن زحف إلى أحد الجحور، محاولاً الفرار من مقاتلي المعارضة.
وتوسل إليهم للإبقاء على حياته، فضربوه، وجرَّدوه من ملابسه، وأهانوه قبل أن يطلقوا عليه النار عدة مرات.
وفي قليل من الحالات، نجح الطغاة في تثبيت ذريتهم بالسلطة، ليطيلوا فترة حكمهم بطريقةٍ غير مباشرة.
إذ حكم فرانسوا دوفالييه، المعروف باسم بابا دوك، هايتي 14 عاماً، وأعلن نفسه "رئيساً مدى الحياة".
ودُفن في المقبرة الوطنية بهايتي حين مات في أبريل/نيسان عام 1971، ولكن رفاته نُقل إلى ضريحٍ فخم، نصبه نجله الذي خلفه في الرئاسة، جان كلود دوفالييه.
ولكن حين سقط دوك الصغير من السلطة عام 1986، هدم حشدٌ غاضب مثوى والده الأخير.
ونهاية حاكم كوريا الشمالية لن تكون عادية بالتأكيد
ولا شك في أن كوريا الشمالية أنجح مثالٍ على أسرةٍ حاكمة، إذ يفرض كيم جونغ أون رقابةً لصيقة على الضريح العملاق، حيث يرقد جده "القائد العظيم" ووالده "القائد العزيز" داخل توابيت زجاجية.
وفي أنحاء البلاد كافة، تنتصب معالم تُعرف باسم "أبراج الحياة الأبدية"، لتذكير الشعب بأن كيم إيل سونغ وكيم جونغ إيل "سيظلان معنا إلى الأبد".
وربما كان ذلك مريحاً له بعض الشيء، ولكن الحتمية التاريخية تقول إن إرثهم سيلقى نهايةً مخزيةً أيضاً.