منذ تأسيس الدولة الأمريكية، يوجد شد وجذب بين الرئيس الأمريكي والكونغرس الذي دأب على ممارسة سلطته الرقابية على أعمال الرئاسة من خلال فتح التحقيقات، لكن إدارة دونالد ترمب تحاول الالتفاف على هذا الحق، فهل ينجح في مسعاه؟
في أوائل شهر أكتوبر/تشرين الأول 2019، أرسل مستشار البيت الأبيض في إدراة ترامب، بات سيبولوني، رسالةً تحدٍّ إلى 4 من قادة مجلس النواب الأمريكي. أعلن سيبولوني فيها عدم مشاركة أي شخص من إدارة ترامب في التحقيق الذي يرمي إلى تفعيل إجراءات عزل الرئيس، والذي شرعت فيه رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بيلوسي في سبتمبر/أيلول من العام نفسه، على إثر الكشف عن مكالمة هاتفية أجراها ترامب مع الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي.
بات سيبولوني، رسالةً تحدٍّ إلى 4 من قادة مجلس النواب الأمريكي. أعلن سيبولوني فيها عدم مشاركة أي شخص من إدارة ترامب في التحقيق الذي يرمي إلى تفعيل إجراءات عزل الرئيس، والذي شرعت فيه رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بيلوسي في سبتمبر/أيلول من العام نفسه، على إثر الكشف عن مكالمة هاتفية أجراها ترامب مع الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي.
لخص سيبولوني موقفه الرافض بالقول: "إن المشاركة في هذا التحقيق في ظل الشروط الحالية التي تفتقر إلى الشرعية الدستورية، من شأنه أن يُلحق ضرراً دائماً وبالغ التأثير في مؤسسة السلطة التنفيذية، وخللاً كبيراً فيما يتعلق بمبدأ الفصل بين السلطات، ومن ثم فإن الرئيس ليس أمامه خيار سوى عدم التعاون".
جاء تحذير سيبولوني في لحظةٍ محورية تمسُّ توازن القوى بين الكونغرس ومؤسسة الرئاسة.
فقد دأب بعض الخبراء السياسيين على وصف ترامب بأنه رئيس ضعيف، لفشله في دفع بعض قوانين أجندته التشريعية.
فريق ترمب يروج: الرئيس بعيد عن متناول القانون الجنائي
لكن هذا التحذير، في بعض نواحيه، كان يناسب ما يطلق عليه بعض المؤرخين نموذجَ "الرئاسة الإمبراطورية"، من خلال دفاعه واستدعائه –أكثر مما فعل أي رئيس سابق- لفكرة أن الرئيس بعيد عن متناول القانون الجنائي.
وبحسب ما نشرت صحيفة The New York Times أنه في جلسة استماع جرت أمام محكمة استئناف فيدرالية في نيويورك في أكتوبر/تشرين الأول 2019، قال وليام كونسوفوي، أحد المحامين الشخصيين لترامب، إنه لا يمكن محاسبة رئيس في الخدمة على أي جريمة، حتى لو أطلق النار على شخصٍ ما.
سأل القاضي ديني تشين وقتها: أليس بوسع السلطات المحلية التحقيق؟ أي ليس بإمكان أحد فعل أي شيء حيال الأمر؟ هذا هو موقفك؟ ليجيب كونسوفوي: "نعم، هذا موقفي".
كذلك عمدت وزارة العدل في دفاعها عن ترامب إلى الاحتجاج بقراءات ضيقة تكاد تختفي، لقوانين معينة في حال تطبيقها على الرئيس، فيما يتعلق بجريمة عرقلة العدالة وانتهاك بند المكافآت في الدستور، والتي نُص عليها لمنع الحكومات الأجنبية من ممارسة تأثير فاسد على المسؤولين الأمريكيين.
للكونغرس سلطة رقابية تخوله التحقيق
منذ تأسيس الدولة، دأب الكونغرس على ممارسة سلطته الرقابية على أعمال الرئاسة من خلال فتح التحقيقات، مؤكداً صلاحياته لانتزاع المعلومات من السلطة التنفيذية.
وتعد أهم أداة لديه في هذا المسعى هي أمر الاستدعاء، والذي يمكن للكونغرس إصداره من تلقاء نفسه، دون إقرار من أي محكمة، لمقابلة الشهود والحصول على أدلة مستندية.
في عام 1821، أقرت المحكمة العليا بسلطة الكونغرس لفرض مذكرات الاستدعاء، من خلال توجيه تهمة "ازدراء الكونغرس" للمسؤولين الذين يرفضون الانصياع للاستدعاء، وصولاً إلى إرسال مأمور تنفيذ يعينه الكونغرس لاعتقال المتهم واحتجازه.
لكن "الأمن القومي" له حق إخفاء ما يريد من المعلومات
بيد أنه على مدار نصف القرن الماضي، أخذت تتنامى جرأة الفرع التنفيذي من الحكومة الأمريكية على حجب المعلومات باسم الأمن القومي أو "الامتياز التنفيذي" [حق الرئيس الأمريكي في إخفاء المعلومات]، للحفاظ على سرية اتصالات الرئيس.
وبات الكونغرس أو الفرع التشريعي هو الفرع الأقل قدرة على تنفيذ أوامره الخاصة.
إذ لم يرسل الكونغرس مأمور تنفيذ تابع له لاعتقال أي شخص أو احتجازه منذ عام 1935.
وتميل المحاكم إلى التسوية والتفاوض، عندما يطلب منها الحكم فيما يتعلق بهذه القضايا.
فعلى سبيل المثال، أصدرت محكمة المقاطعة في واشنطن في عام 2008، تحذيراً يقضي بأن "المواجهات الاستفزازية، وغير المناسبة" فيما يتعلق باحتجاز أو اعتقال مسؤول من السلطة التنفيذية "يجب تجنبها".
وحتى عندما يتدخل القضاة متخذين جانب الكونغرس، فإن عملية الاحتكام قد تستغرق وقتاً طويلاً يتمكن الرئيس خلالها من الفوز ببساطة عن طريق استنفاد الوقت.
يقول جوش شافيتز، أستاذ القانون في جامعة كورنيل، إن "إجراء المحاكمة في صالح الكونغرس، لكن القيمة السياسية للمعلومات التي سيجري طرحها انخفضت إلى صفر".
هل هناك سوابق مع رؤساء آخرين غير ترامب؟
واجه كل من الرئيس جورج دبليو بوش والرئيس باراك أوباما الكونغرس بشأن مذكرات استدعاء معينة، لكنهم في الوقت نفسه كانوا يحترمون سلطته الرقابية.
على النقيض من ذلك، رفضت إدارة ترامب جميع مذكرات الاستدعاء حتى قبل بدء التحقيق الذي يهدف العزل.
في 31 أكتوبر/تشرين الأول، زعمت وزارة العدل، خلال جلسة استماع في محكمة محلية في واشنطن، أن الكونغرس لا يستطيع الذهاب إلى المحكمة لفرض استدعاء لمحامي البيت الأبيض السابق دونالد ماكجان، الذي كان قد استُدعي للشهادة حول مساعي ترامب لعرقلة التحقيق الذي كان يجريه المستشار الخاص روبرت مولر.
فقد سألت القاضية كيتانجي براون جاكسون: ألا يمكن لمجلس النواب أبداً اللجوء إلى المحكمة؟ ليجيب جيمس بورنهام، محامي وزارة العدل، "بلي، أعتقد أن هذا صحيح. فالدستور لا يسمح بذلك"، إنها حجة كاسحة.
إدارة ترامب ترفض التعاون مع التحقيقات
يقول شافيتز إن "الجديد في الأمر هو أن تنكر الرئاسة شرعية الفكرة بأكملها، فكرة مراقبة الكونغرس للرئاسة، بدلاً من الجدال حول إجراء معين".
ومن ثم، ولكي لا تعلق في إجراءات قانونية لا تنتهي، لم تستدع لجان مجلس النواب المكلفة بالتحقيق في قضية عزل ترامب شاهداً واحداً إلى المحكمة، إذ حتى كبار المساعدين مثل وزير الخارجية مايك بومبيو، والمحامي الشخصي لترامب رودي جولياني الذين كانوا في بؤرة التعامل مع أوكرانيا، رفضوا الشهادة أو تسليم أي وثائق أو مستندات في حوزتهم.
وقال آدم شيف، رئيس لجنة الاستخبارات التابعة للكونغرس، والذي كان يقود التحقيق في إجراءات العزل: "لسنا على استعداد للسماح للبيت الأبيض بتعطيلنا في جولات طويلة من الهجوم والدفاع في المحاكم، لذلك سنمضي قدماً".
والكونغرس يستخرج المعلومات من صغار الموظفين
يعوّل مجلس النواب، عوضاً عن ذلك، على شراكة ضمنية بينه وبين العمود الفقري للسلطة التنفيذية، أي الموظفين المحترفين، الذين يعملون بين كل من الإدارات المختلفة في وزارة الخارجية والبنتاغون ومجلس الأمن القومي.
إذ على الرغم مما يخاطر به هؤلاء المسؤولون من فقدانٍ لوظائفهم أو معاشاتهم التعاقدية باختيارهم الانصياع لاستدعاء الكونغرس بدلاً من توجيهات سيبولوني، فإنهم أخذوا يستجيبون يوماً بعد يوم لأوامر الاستدعاء، ويقطعون الطريق إلى مقر "الكابيتول"، لإخبار الكونغرس بما يعرفونه عن مساعي ترامب فيما يتعلق بأوكرانيا.
ويحاول استعادة مكانته بين السلطات
إن صراع السلطات الجاري بين فروع الحكم الثلاثة الآن هو ما عوّل عليه المشرعين الذين صاغوا الدستور، وتوقعوه.
فالضوابط والتوازنات التي يستند إليها الحكم الأمريكي هشة ومستدامة في آنٍ معاً، وهي ما تنفك تمر بمراحل من إعادة الضبط في أوقات الأزمات.
وقد تصبح عملية المساءلة المتعلقة بإجراءات العزل الجارية حالياً مركزَ دفع الكونغرس لاستعادة مكانته المتساوية في توازن فروع الحكم.
كتب القاضي ديفيد تاتيل، من محكمة الاستئناف الأمريكية بدائرة العاصمة واشنطن في أكتوبر/تشرين الأول 2019، في حكمٍ أصدره لصالح الكونغرس (بفرق أصوات 2 إلى 1) في قضيةٍ تتعلق بما إذا كان من حق الكونغرس فرض استدعاء على جهاتٍ يناط بها الكشف عن الإقرارات الضريبية للرئيس، قائلاً: "إن النزاعات بين الكونغرس والرئيس لهي عقدة تواطأ [مشرّعو الدستور] على تكرارها في قصة أمتنا الأمريكية".
ونقل تاتيل عن القاضي لويس برانديز، في رأي خارجٍ عن السرب، كتبه عام 1926، يقول فيه: كان الغرض من الفصل بين السلطات "عن طريق الخلافات الحتمية التي سيفضي إليها توزيع السلطات الحكومية بين دوائر ثلاث، هو حماية الناس من الاستبداد" والحيلولة دون استئثار دائرة منهم بالسلطة كلها.
يمكن للكونغرس التحقيق في فساد الحكومة أو أسباب الخطأ أو الفشل في قضايا (مثل حريق واشنطن على يد القوات البريطانية في عام 1814، أو الهجوم على المجمع الدبلوماسي الأمريكي في بنغازي في ليبيا، بعدها بـ 200 عام تقريباً).
الفكرة هي أن المشرّعين ونواب البرلمان في حاجة إلى التدقيق لمعرفة الأخطاء التي حدثت، ومن ثم يمكنهم إصلاحها من خلال أدائهم لوظيفتهم الرئيسة وهي التشريع.
فضائح سابقة كشفها الكونغرس
اضطلع الكونغرس بهذا الدور في معالجة فضيحة الفساد الكبرى في عشرينيات القرن الماضي، والتي سبقت فضيحة ووترغيت.
إذ قادت معلومات قدمها أحد مشغلي حقول النفط الساخط على طرده من حقلٍ منافس، إلى تحقيقات قادتها لجنة محققين من الكونغرس الأمريكي في مزاعم بوجود مؤامرة ورشاوى، تتعلق بالسماح بتأجير احتياطات النفط الفيدرالية في "تي بوت دوم" في ولاية وايومنغ، والتي شارك فيها وزير الداخلية ألبرت فال.
وعندما فشل المدعي العام الأمريكي هاري دورتي في توجيه اتهامٍ يُفضي إلى محاكمة أي شخص، اشتبه لجنة المحققين في تورطه، وأمر باستدعاء شقيقه، الذي كان يسيطر على بنك يحتفظ بسجلات ذات صلة بالقضية، لكنه رفض الامتثال لأمر الاستدعاء، فاعتقله مأمور التنفيذ.
رفعت القضية إلى المحكمة العليا، وسنّ القضاة سابقة مهمة بتقريرهم أن من حق لجان الكونغرس إجبار الشاهد على الحضور.
وكتب القضاة في حكمهم الصادر عام 1927 أن سلطة التحقيق في الكونغرس كانت "مساعداً أساسياً وقامت بدورها على نحو مناسبٍ إزاء مهام الوظيفة التشريعية".
كان الكونغرس قد سعى أيضاً حينذاك للحصول على السجلات الضريبية لألبرت فال وهاري سنكلير، قطب النفط العملاق المشتبه بدفع الرشوة.
وتمتع الرئيس كالفين كوليدج بالسلطة القانونية للحصول على السجلات من "دائرة الإيرادات الداخلية"، لكن مساعديه أبدوا قلقاً من أن يسعى الكونغرس لاستكشاف جرائم أخرى، ومن ثم تردد كوليدج في تسليمها.
لكنهم في النهاية توصلوا إلى تسوية: فقد طلبت لجنة التحقيق فحص الإقرارات الضريبية بدلاً من الحصول عليها، ووافق كوليدج على ذلك.
أسقطت التحقيقات بعد ذلك هاري دورتي من منصب المدعي العام، إذ استقال في عام 1924، وألبرت فال، الذي أدين بتهمة الرشوة في عام 1929.
الكونغرس يستند إلى قوانين عمرها 100 عام لعزل ترمب
ورداً على المقاومة التي واجهتها لجنته في قضية "تي بوت دوم"، أصدر الكونغرس قانونين.
الأول هو "قانون الكشف عن الإيرادات/السجلات الضريبية لعام 1924″، الذي يتيح لرئيس لجنة الضرائب والإيرادات الداخلية ومراقبة الميزانية، المطالبة بالسجلات الضريبية لأي مواطن.
ثم في عام 1925، راجع الكونغرس قانون "ممارسات الفساد الفيدرالية"، لتوسيع نطاق متطلبات الإفصاح المالي للأشخاص الساعين لشغل مناصب فيدرالية.
والآن، بعد ما يقرب من قرن من الزمان، يعد قانون الكشف عن السجلات الضريبية الاساس الذي يرتكز عليه مجلس النواب الأمريكي في مطالبته بالحصول على الإقرارات الضريبية الخاصة بترامب.
ترامب ليس الرئيس الأول في مواجهة السلطة التشريعية
بحلول أربعينيات القرن الماضي، كانت سلطة الكونغرس قد تراجعت مرةً أخرى، ليتجاهلها رئيس آخر، هو فرانكلين ديلانو روزفلت، الذي كان قد انتخب لأربع ولايات رئاسية متتالية، فقد وسّع من نطاق سلطته التنفيذية لمواجهة الكساد العظيم، والمشاركة في الحرب العالمية الثانية.
في هذه الأثناء، كان السيناتور هاري ترومان يصنع لنفسه اسماً في الكونغرس من خلال تحقيقه وبحثه عن أدلة على ممارسات احتيالية بين متعهدي وزارة الدفاع الأمريكية، ليقود لجنة تحقيقات الكونغرس التي عقدت مئات من جلسات الاستماع وأنقذت الحكومة من إهدار ملايين من الدولارات في صفقات متعلقة بالحرب.
عندما وصل ترومان إلى البيت الأبيض في عام 1945، وجد نفسه على الجانب الآخر من كونغرس متحفز بعد الحرب، وواجه اتهامات الجمهوريين (التي قاد بطولتها بعد ذلك السيناتور جوزيف مكارثي) بأن الشيوعيين يسيطرون على وزارة الخارجية.
أصدر ترومان أمراً بالتحقيق في انتماءات جميع موظفي هيئات الخدمة المدنية الفيدرالية لضمان ولاءهم، وطلب من "مكتب التحقيقات الفيدرالي" إدارة شبكات خلفية.
لكن عندما طالبت "لجنة الكشف عن الأنشطة غير الأمريكية"، بدءاً من عام 1948، بالاطلاع على ملفات مكتب التحقيقات الفيدرالي، التي شملت معلومات حول فضائح جنسية وعادات شرب ارتكبها عناصره، حارب الرئيس للحفاظ على سرية تلك الملفات.
تقول بيفرلي غيج، أستاذة التاريخ بجامعة يال الأمريكية، والتي تكتب كتاباً عن سيرة مؤسس مكتب التحقيقات جاي إدغار هوفر، تعليقاً على ذلك: "كانت تلك من المرات، التي وقف فيها الليبراليون جنباً إلى جنب مع دعاة الحريات المدنية سعياً لإيقاف الكونغرس".
أمضى سام إرفين، السيناتور الديمقراطي من ولاية نورث كارولينا، العام الأول له في المنصب في عام 1954 يقاتل لإدانة مكارثي.
وكان إرفين يمتلك رؤية واقعية حول خطورة التحقيقات الدستورية. إذ قال في مرحلة لاحقة من حياته العملية: "يمكن أن تكون هي الحافز الذي يدفع الكونغرس والشعب لدعم استحداث إصلاحات حيوية في قوانين دولتنا. وإلا ستهين مبادئنا، وتخترق خصوصيات مواطنينا، وتوفر منصة للمتحزبين المنتشرين والغوغاء".
فضيحة ووترغيت انتصار للكونغرس
وفي عام 1973، ترأس إرفين اللجنة التي شكَّلها مجلس الشيوخ للتحقيق في فضيحة التجسس "ووترغيت" التي تورط فيها الرئيس نيكسون وعدد من كبار مساعديه.
وقتها قرر الرئيس نيكسون التجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس في مبنى ووترغيت، ومن هنا جاءت التسمية.
ومرت أحداث ووترغيت بلحظات بدا فيها وكأن إفلات الرئيس من العقاب، وليس المساءلة أمام الكونغرس، هو ما سينتصر في النهاية.
فحين طالبت اللجنة برئاسة إرفين الحصول على الأشرطة التي قيل إنَّ نيكسون ناقش فيها الجرائم المتعلقة باختراق مبنى ووترغيت، قال نيكسون إنه غير مضطر لتسليمها، مؤكداً أنه يتمتع بحصانة رئاسية تستند إلى "السرية الضرورية لأعمال مكتب الرئيس".
لكن إرفين سخر من حجة نيكسون، ووصفها بأنها "ترهات تنفيذية". فلم يسبق أن أصدرت أية محكمة قراراً بتمتع الرؤساء بحق دستوري في المطالبة بحصانة السلطة التنفيذية للحفاظ على سرية المعلومات استناداً إلى وضع الرئاسة في الفصل بين السلطات.
وحين أحالت لجنة إرفين الأمر للقضاء من أجل إقرار مذكرات الاستدعاء الخاصة بها للوصول لهذه الأشرطة، كانت هذه المرة الأولى التي يختبر فيها الكونغرس سلطته في المحكمة ضد ادعاء الرئيس بتمتعه بالحصانة.
لكن محكمة واشنطن انحازت لصف الرئيس، وفي مايو/أيار 1974، أيَّدت محكمة الاستئناف حكم محكمة واشنطن، وأقرت أنَّ لجنة إرفين لم تبرهن أنَّ حاجتها إلى الأشرطة ضرورية لأداء وظيفتها الاستقصائية أو التشريعية.
لكن حين طلب المدعي الخاص لقضية ووترغيت الأشرطة لمقاضاة مسؤولي البيت الأبيض المتورطين جنائياً، أمرت المحكمة العليا بالإجماع نيكسون، في يوليو/تموز من ذلك العام، بتسليم الأشرطة.
وعلى غرار فضيحة الرشاوى "تي بوت دوم"، كانت ووترغيت أزمة أتاحت للكونغرس إثبات مكانته من جديد.
وكانت السبعينيات من أكثر فترات التاريخ الأمريكي التي شهدت تبني الإدارة إصلاحات حكومية أعادت توازن القوى بين أذرعها.
تلاها قوانين حرية المعلومات والإفصاح المالي
وبدأت موجة التشريعات بقانون صلاحيات الحرب، الذي أقره الكونغرس لوضع قيود على المدة التي يمكن للرؤساء أن يأمروا فيها القوات الأمريكية بالقتال دون موافقة الكونغرس، بالرغم من استخدام نيكسون حق النقض الرئاسي ضده في عام 1973.
واستمرت القائمة لتشمل توسيع نطاق قانون حرية المعلومات في عام 1974؛ ما أتاح لوسائل الإعلام والجمهور مزيداً من الحرية للاطلاع على المعلومات الخاصة بالحكومة.
وشملت التشريعات كذلك فرض قيود على المساهمات المالية في الحملات الانتخابية، وتحديد آلية لتعيين مدعٍ عام خاص، و(مرة أخرى) اشتراطات أقوى للإفصاح المالي.
وبتوقيع بعض هذه القوانين، سمح رئيسان -هما الجمهوري جيرالد فورد والديمقراطي جيمي كارتر- للكونغرس "باستعادة بعض سلطاته"، على حد تعبير إرفين.
وكان بإمكان صائغي الدستور الأمريكي خوض مسيرة طويلة لتقليل الاحتكاك بين أذرع الإدارة. فكان من الممكن أن يأسسوا "ثلاث دوائر حكومية محكمة الغلق"، تكون كل واحدة منها بمعزلٍ تام عن الاثنتين الأخريين، كما أشارت المحكمة العليا في عام 1977.
لكن بدلاً من ذلك، وضع الدستور نظاماً من الفروع المتداخلة. وفي العقود التي تلت ووترغيت، ومع نضال الكونغرس للحفاظ على الرقابة على هذه الأفرع من خلال كشف الأعمال الداخلية للسلطة التنفيذية، وجد كل جانب منها أنَّ من مصلحته السياسية تقديم تنازلات.
وكانت تلك هي الدينامية المُحرِّكة عندما أدلى ألبرتو غونزاليس، المدعي العام للرئيس جورج دبليو بوش، بشهادته أمام الكونغرس حول الرقابة الداخلية في عام 2006، وعندما أمضت هيلاري كلينتون، بعد عملها وزيرة للخارجية في إدارة أوباما، 11 ساعة في الإجابة عن أسئلة لجنة من مجلس النواب حول هجمات 2012 على المجمع الأمريكي في بنغازي بليبيا.
عدم الاتفاق قد يؤدي لحرب استنزاف سياسية
لكن عندما لا تتمكن فروع الإدارة من حل أحد الصدامات من تلقاء نفسها، غالباً ما يتحول اندلاع معركة قضائية طويلة إلى حرب استنزاف سياسية.
فخلال رئاسة جورج دبليو بوش، استدعت اللجنة القضائية التابعة لمجلس النواب، برئاسة الديمقراطيين، اثنين من كبار مساعدي البيت الأبيض للتحقيق في فصل تسعة محامين أمريكيين. وفازت اللجنة بحكم قضائي أولي في عام 2008 ضد مزاعم بوش بالتمتع بحصانة رئاسية وحصلت على بعض الوثائق.
ومع ذلك، تمسك المساعدون بموقفهم الرافض للإدلاء بإفادتهم أمام الكونغرس. وفي نهاية عام 2008، قالت محكمة الاستئناف إنه لا جدوى من التعجيل بإصدار حكم نهائي؛ لأنَّ جلسة الكونغرس كانت على وشك الانتهاء، ومعها سيتوقف سريان مذكرات الاستدعاء.
وفي عام 2011، وفي عهد أوباما، فتحت لجنة مجلس النواب للإشراف والإصلاح، بقيادة الجمهوريين، تحقيقاً بشأن عملية Fast and Furious التي شنَّها مكتب الكحول والتبغ والأسلحة النارية، والتي زُعِم فقدان أسلحة خلالها في المكسيك.
وسلَّمت وزارة العدل المستندات ذات الصلة، وأدلى المدعي العام إريك هولدر بشهادته أمام الكونغرس، التي أقر فيها أنَّ عملية Fast and Furious كانت "مليئة بالأخطاء الجذرية".
لكن وزارة العدل زعمت تمتعها بامتيازات السلطة التنفيذية بشأن مواد متعلقة بمداولاتها الداخلية، وهي المرة الوحيدة التي تبنت فيها إدارة أوباما هذا الموقف أمام المحكمة. واستمرت الدعوى حتى أبريل/نيسان 2019.
ولم يحدث أن وصلت قط أية دعوى بشأن حصانة السلطة التنفيذية ضد طلب الكونغرس الحصول على المعلومات إلى المحكمة العليا.
عزل ترامب خلاف قانوني صعب حله
لكن يظل السؤال القانوني الأساسي، الذي يمثل جوهر التحقيق الرامي لعزل الرئيس، من دون إجابة.
إذ رفع أحد الشهود المحتملين في التحقيق، وهو النائب السابق لمستشار الأمن القومي تشارلز كوبرمان، دعوى قضائية لسؤال المحاكم عن الجهة التي يجب أن يطيع أوامرها.
وتقول الدعوى: "من الواضح أنَّ المدعي لا يستطيع تلبية المطالب المتنافسة لكل من الفرعين التشريعي والتنفيذي".
لكنه سيؤدي إلى جملة تعديلات إصلاحية بين السلطات
وبدون القدرة على التحكم في من يدلي بإفادته، تبدو رئاسة ترامب أقل إمبريالية. لكن حين تنتهي التحقيقات، وأياً كانت نتيجتها، فقد يقرر الكونغرس، مثلما فعل بعد فضيحتي تي بوت دوم ووترغيت، تطبيق الدروس المستفادة من هذه التحقيقات بإعادة التوازن بين السلطات.
ولضمان أن العامة يطلعون على مزيد من المعلومات بشأن أية مصالح مالية شخصية قد تؤثر على الرئيس، يمكن أن يمرر الكونغرس قانوناً يطالب شاغلي البيت الأبيض المستقبليين بالإفصاح عن إقراراتهم الضريبية والإفصاح عن مزيد من المعلومات حول استثماراتهم المالية.
وفي هذا الصدد، علَّق بوب باور، الذي شغل منصب مستشار أوباما في البيت الأبيض: "ينبغي لهذه أن تكون مهمة سهلة، فحتى في عالمنا المليء بالاستقطاب هذا، يمكن إتمام ذلك بعد رحيل ترامب. وهو ما يجب أن يحدث".
وتتضمن المقترحات الأخرى مقايضة التكاليف والفوائد المحتملة. فلكي يحول الكونغرس دون إطالة زمن الدعوى القضائية، يمكن للكونجرس تحديد مواعيد زمنية قصيرة الأجل لصدور الأحكام، مثل 30 أو 60 يوماً.
فمن جانبه، قال ستيف فلاديك، أستاذ القانون بجامعة تكساس في مدينة أوستن: "التأخير يساعد في إبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه؛ أي أنه يساعد الرئيس. يمكن للكونغرس إصلاح هذا".
بوادر تعاون جمهوري ديمقراطي على تعديلات ما بعد ترامب
لكن ماذا لو قرر القضاء الذي يزداد التواجد الجمهوري فيه -إذ عيَّن ترامب أكثر من 150 قاضياً من الحزب المحافظ- الانحياز لجانب السلطة التنفيذية انحيازاً قاطعاً في حكمه؟
قال جاك غولدسميث، أستاذ القانون بجامعة هارفارد وأحد العاملين بوزارة العدل تحت إدارة جورج دبليو بوش: "كن حذراً فيما تتمناه".
وأضاف أنَّ الكونغرس يتمتع بسلطات خاصة به، اكتسبها بحكم الممارسة. وأوضح: "حرفياً، كل ما تفعله السلطة التنفيذية يتطلب التمويل. وبالطبع مجلس النواب هو من يتحكم في الإنفاق".
يُشار إلى أنَّ باور وغولدسميث يتشاركان في تأليف كتاب يحمل مبدأياً عنوان "ما بعد ترامب: أجندة للإصلاح"، وهو تعاون يوضح اتفاق الحزبين، في العالم القانوني، أنَّ الفصل بين السلطات بعيد عن السيطرة.
لذا يتعين على الكونغرس تشديد قبضته (وعلى الرئيس المقبل المساعدة في إنجاز ذلك).
لكن من المؤكد أنَّ جوهر السلطة التنفيذية سيبقى على حاله. وسيستمر المدعي العام في خدمة الرئيس داخل السلطة التنفيذية، على الرغم من التحديات التي يفرضها ذلك أمام استقلال وزارة العدل وأي تحقيق جنائي مع الرئيس.