في معمله كان الدكتور جيرهارد شريدر، الكيميائي الألماني، يأمل أن يصل إلى اكتشاف مبيد للآفات يجعله يحرز تقدماً في مكافحة الجوع بالعالم، فقد كان الدكتور شريدر متخصصاً باكتشاف مبيدات حشرية جديدة، ولكن بدلاً من ذلك يكتشف عن طريق الصدفة مادة أخرى تُسبب له شهرة كبيرة.
اكتشف شريدر مادة غازات الأعصاب، التي يُطلق عليها أيضاً اسم "العوامل العصبية"، والتي استُخدمت فيما بعد كأسلحة كيميائية في الحروب، وتسببت في القتل والخراب، ليُطلَق على جيرهارد شريدر لقب "والد العوامل العصبية".
العمل في مجال الحرب لم يكن رغبة شريدر
وُلد الكيميائي الألماني جيرهارد شريدر في 25 فبراير/شباط 1903، في Bortfeld ، بالقرب من Wendeburg، في ألمانيا.
درس الكيمياء في جامعة براونشفايج للتكنولوجيا، وعمِل لاحقاً في شركتي Bayer وIG Farben.
اكتشف شريدر عديداً من المبيدات الحشرية الفعالة للغاية، وقد كان من ضمن تجاربه تجربة مجموعة من المركبات تسمى الفوسفات العضوية، والتي قتلت الحشرات عن طريق مقاطعة وعرقلة أنظمتها العصبية، لتحدث نقطة التحول.
فبدلاً من اكتشاف مبيد حشري جديد اكتشف مركبات شديدة السُّمية والخطورة، استُخدمت في الحروب والنزاعات.
عندما كان الدكتور جيرهارد شريدر في عمر الـ33، وتحديداً في 23 ديسمبر/كانون الأول 1936، قام بتصنيع التابون، واكتشف أيضاً السارين والسومان والسيكلوسارين، وكلها مركبات فوسفات عضوية أصبحت تُستخدم كأسلحة كيميائية.
خزَّن النازيون هذه الغازات شديدة السُّمية، لا سيما التابون، خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن لم تُستخدم ضد الحلفاء.
بعد الحرب، حاولت المخابرات البريطانية تجنيد شريدر لتطوير أسلحة كيميائية في المملكة المتحدة، وهو العرض الذي رفضه شريدر وفضَّل البقاء في ألمانيا والعمل لدى شركة باير، وهي شركة ألمانية تختص بصناعة الدواء والصناعات الكيميائية.
وعلّق شريدر حينها: "أنا سعيد للمشاركة بالكامل مرة أخرى في مجال وقاية النبات، عملي خلال الحرب بمجال المواد السامة لم يكن قط مُتوافقاً مع رغباتي".
كان شريدر يهدف من خلال عمله إلى تقديم المساعدة في تحسين التغذية، وليس في إلحاق جروح جديدة وأضرار أخرى تعانيها البشرية.
اكتشاف غازات الأعصاب حدث بالخطأ!
كما يحدث في كثير من الأحيان بالبحوث العلمية، تم اكتشاف عوامل الأعصاب عن طريق الخطأ.
حدث هذا الخطأ غير المقصود عندما تم تكليف جيرهارد شريدر، الكيميائي في مجموعة IG Farben الكيميائية، وقد كانت شركة ألمانية رائدة بمجال الصناعات الكيميائية، تطوير مبيدات حشرية جديدة.
كلَّف المسؤولون الاستراتيجيون للرايخ الثالث/ ألمانيا النازية شريدر، وكان الهدف من التكليف هو تقليل اعتماد ألمانيا على الأغذية المستوردة من الخارج، وللقيام بذلك، كان البلد بحاجة لمنع الآفات الحشرية من استنفاد إمداداتها الغذائية.
بعد عدة محاولات، فشل شريدر في إنتاج مبيدات آفات قائمة على الفلور والكبريت، فبدأ الكيميائي الشاب بتجربة الجزيئات التي جمعت بين الفوسفور والسيانيد.
أنتج الخليط مادةً شديدةً السُّمية حتى في التجارب المبدئية، إلى درجة أن التعرض لكميات ضئيلة جعل شريدر نفسه يذهب إلى المستشفى عدة أسابيع.
ثم في 23 ديسمبر/كانون الأول 1936، بنى شريدر مركبّاً شديد الخطورة، دمرت المحاليل المخففة منه الآفات الغذائية للحشرات، وتسببت أيضاً في القيء وضيق التنفس وتوسُّع حدقة العين وإفراز اللعاب والتعرق والإسهال والموت في القرود والثدييات الأخرى.
وفقاً لمقاييس أصحاب العمل، فشل شريدر، لأن المبيدات يجب أن تقتل الآفات بشكل انتقائي، وليس مجموعة واسعة من الحيوانات أيضاً، بالإضافة إلى الآفات.
ولكن بالنظر إلى سُمية الجزيء للإنسان، فقد حذرت مجموعة IG Farben الجيش الألماني من هذا المركب السام الجديد.
وهي المعلومة التي تلقاها الجيش واستغلها، فعمل العلماء الألمان على تطوير قنابل قادرة على نشر الأسلحة الكيميائية، وخزنت القوات المسلحة النازية ذخائر غاز الأعصاب سراً.
تطوير التابون وظهور السارين
عند الحافة الشمالية الغربية لبرلين تقع قلعة سبانداو الضخمة التي تعود إلى القرن السادس عشر.
معظم زوار الموقع المذهل، الذي يستضيف اليوم الحفلات الموسيقية والمسرح وحفلات الزفاف والمعارض الموسمية، لا يدركون أنه خلال الرايخ الثالث، استضافت القلعة مجموعة من العلماء الذين طوروا أسلحة كيميائية سراً، في انتهاك مباشر لمعاهدة فرساي، وهي اتفاق السلام في الحرب العالمية الأولى.
عندما حلل علماء الجيش الألماني في قلعة سبانداو، أول مرة، المادة التي حضَّرها شريدر، أُعجبوا بدرجة كبيرة بمدى سُميتها، لدرجة أنهم أطلقوا عليها اسم التابون، وهي من الكلمة الألمانية "تابو" وتعني " المُحرمة".
كانت الأسلحة الكيماوية الموجودة، مثل غاز الخردل والفوسجين، تستغرق ساعات إلى أيام لقتل الضحايا، لكن التابون تطلَّب 20 دقيقة فقط.
وسرعان ما بدأ الباحثون العسكريون الألمان استخدام التابون في التسليح، وإيجاد طرق لإدراجه في المقذوفات التي يمكن تخزينها بأمان دون تسرب.
اختبر علماء آخرون المركّب على الحيوانات، وطوروا عمليات لتصنيع السُّم. وفي عام 1938، قام شريدر بتركيب عامل عصبي جديد كان سُمياً بمقدار ضعف التابون على القرود.
وبحلول يونيو/حزبران 1939، أُحضرت المادة الجديدة المُسماه Substance 146، إلى قلعة سبانداو، حيث بدأ الكيميائيون العسكريون تطوير طرق جديدة لإنتاجها، ودراسة آثارها الفسيولوجية.
تمت إعادة تسمية السُّم باسم السارين، وهو اختصار تم بناؤه من الأسماء الأخيرة للعلماء الذين قادوا عملية تطويره.
عندما لاحت بوادر الحرب العالمية الثانية في الأفق، بنى الجيش الألماني مصنعاً تجريبياً للتابون كان قادراً على إنتاج 400 كيلوغرام من السُّم في موقع غابات بالقرب من مدينة مونستر.
هناك اختبروا القنابل الجوية التي تحتوي على التابون، واكتشفوا أن أكثر الطرق الفتاكة لنشر العامل غير المتقلب هي استخدام مُتفجرات صغيرة، لتفريقه كالضباب.
بحلول ربيع عام 1943، وبعد سنوات قليلة من الحرب، تم إنشاء أول مصنع كبير للتابون بالقرب من ديهيرنفورث، وهي بلدة صغيرة تبعد 40 كم عما يُعرف الآن بمدينة فروتسواف، في بولندا.
كان المصنع ينتج 350 طناً مترياً (350.000 كغم) من التابون في الشهر، وبحلول نهاية الحرب، كان المصنع قد أنتج 12000 طن متري من التابون وتحميله في قنابل جوية وقذائف المدفعية.
على الرغم من كل الجهود التي بذلت على التابون، فإنه بحلول منتصف الحرب، أصبح من الواضح بشكل متزايد للباحثين العسكريين أن السارين كان سلاحاً كيميائياً أفضل.
كان السارين أكثر تقلباً وسُمية من التابون، على الرغم من أن السارين كان أكثر صعوبة في تصنيعه.
وفي عام 1943، وافق الجيش الألماني على بناء مصنع جديد تماماً للسارين بموقع يبعد 70 كم خارج برلين.
كيف يمكن أن يتطور مبيد حشري إلى غاز أعصاب سامٍّ وقاتل؟
مشكلة الفوسفات العضوي، وكذلك الكارباميت، وهي فئة أخرى من المبيدات الحشرية، هي أنها تؤثر في ناقل عصبي مهم شائع بين كل من الحشرات والثدييات.
هذا الناقل العصبي هو أسيتيل كولين، وهو له أهمية بالغة للخلايا العصبية لتكون قادرة على التواصل بعضها مع بعض.
يبدأ أسيتيل كولين الذي تصدره خلية عصبية، في التواصل مع خلية عصبية أخرى، ولكن يجب إيقاف هذا التحفيز في النهاية، ولإيقاف الاتصال، تتم إزالة الأسيتيل كولين من المنطقة المحيطة بالخلايا العصبية.
يؤثر الفوسفات العضوي والكرباميت سلباً في هذا الناقل العصبي، وهو ما يُعطل الأداء السليم للخلايا العصبية، تسمى هذه المبيدات الحشرية مثبطات أسيتيل كولين.
هناك اختلافات هيكلية بين أنواع الفوسفات العضوي والكارباميت، وهو ما ينعكس بالتبعية على الدرجة التي يتم من خلالها التأثير في أسيتيل كولين.
فغازات الأعصاب عالية الكفاءة تؤثر سلباً في أسيتيل كولين بشكل دائم، في حين أن المبيدات الحشرية شائعة الاستخدام تؤثر بشكل مؤقت فقط، لكن سُمّية هذه المبيدات الحشرية تمثل مخاطر صحية كبيرة، وقد يصل الأمر إلى التسبب في الوفاة، كما يكون الجهاز العصبي النامي لدى الأطفال عرضة للتأثر السلبي بشكل خاص.
استخدام غازات الأعصاب في الحرب
من بين الأسلحة الكيميائية، يمكن القول إن غازات الأعصاب هي الأكثر ضراوة والأشد خطورة، فهي يمكن أن تدمر الجهاز العصبي للضحية عند التعرض لها على المدى الطويل، وبإمكان التعرض للجرعات العالية أن يتسبب في حدوث وفيات مؤلمة، وعادةً ما تحدث الوفاة عن طريق الاختناق.
وفقاً للموسوعة البريطانية، استُخدمت الأسلحة الكيميائية بشكل موسع، لأول مرة، في الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، والتي تسببت في أكثر من مليون إصابة لحقت بالمقاتلين في ذلك الصراع، وقتلت ما يُقدَّر بنحو 90 ألفاً. ومنذ ذلك التاريخ، تم استخدام الأسلحة الكيميائية عدة مرات، وأبرزها في الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988).
بدأ الأمر بالانتشار ولم يقتصر وجود الأسلحة الكيميائية على ألمانيا النازية فقط، فقد بَنت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، خلال عقود من المواجهة في الحرب الباردة (1945-1991)، مخزونات هائلة من الأسلحة الكيميائية.
ومكَّنت نهاية الحرب الباردة الدولتين من الموافقة على حظر جميع الأسلحة الكيميائية من الأنواع التي تم تطويرها خلال الحرب العالمية الأولى (الجيل الأول)، والحرب العالمية الثانية (الجيل الثاني)، والحرب الباردة (الجيل الثالث).