على مر عقود سعت الحكومة الإيرانية لقمع حريات مواطنيها وتكميم أفواه معارضيها بالقتل أو النفي أو السجن، وبالرغم من حرص الحكومة على أن تبقى كل تلك الممارسات سرية، إلا أن سلسلة من جرائم القتل التي نفذها مسؤولون رفيعو المستوى في الحكومة الإيرانية استطاعت إثارة الرأي العام حتى أنها وُصفت بـ "موجة الجرائم التي هزت الأمة".
بحسب هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، لطالما كان الكُتاب والصحفيون المعارضون هدفاً رئيسياً للحكومة الإيرانية، وسنسرد عليكم جرائم القتل التي استطاعت البروز خارج أسوار إيران لتصبح حديثاً عالمياً:
الحكومة الإيرانية ترسل 21 كاتباً نحو الهاوية
بدأ كل شيء بحادثةٍ قيل لهم ألا يتحدَّثوا عنها، ولأعوام امتثلوا لذاك التحذير.
ظنَّت مجموعة من 21 إيرانياً بين شعراءٍ، وكتَّاب، وصحفيين أنَّهم متوجِّهون لحضور مؤتمر أدبي بأرمينيا المجاورة في أغسطس/آب 1996.
لكنَّ الرحلة روتينية المظهر تحوَّلت لواحدة من أفظع التجارب في حياتهم.
كانت المجموعة قد استأجرت حافلة تصعد بهم سلسلة الجبال مروراً بطريق حيران، وهي طريقٌ منحدرة وملتوية تصل بين محافظتين شمال إيران.
كانت الرحلة المستمرَّة 18 ساعة قد بدأت تُوقِع آثارها على المسافرين، واحداً تلو الآخر غفا ركَّاب الحافلة.
وفي أولى ساعات الصباح، قطع نومهم هزَّة عنيفة بالحافلة وهي تسرع فجأة.
راقب الركَّاب المستفيقون الحافلة وهي تندفع تجاه حافة الجرف.
ولحسن حظِّهم اعترضت صخرة طريق المركبة وحالت بينها وبين السقوط إلى الهاوية.
كان فرج ساركوهي، وهو صحفي كان عندئذٍ يبلغ من العمر 49 عاماً ويعمل محرراً بالمجلة الثقافية التقدمية آدينه، أحد ركَّاب الحافلة.
قال ساركوهي، مستعيداً الحادث: "بعد توقُّف الحافلة، خرجنا منها واحداً تلو الآخر في حالة ذهول. اقترب منَّا سائق الحافلة معتذراً بأنَّه قد غلبه النعاس".
بعدما استفاق الركَّاب من هول الصدمة الأوَّلى، وافق المسافرون والسائق على اسكتمال رحلتهم.
لكن لم يكن للرحلة المشؤومة أن تنتهي عندئذٍ. بعد بضع دقائق لا أكثر، حوَّل السائق مسار الحافلة تجاه الجرف مجدداً، وقفز من الحافلة تاركاً إياها تدنو من السفح المُشرف على هاوية بارتفاع 300 متر.
أنقَذ الحافلة من السقوط راكبٌ سريع البديهة قفز إلى مقعد السائق وشدَّ الفرامل اليدوية، موقفاً الحافلة بصعوبة وهي تنزلق متجهة إلى الحافة.
للمرَّة الثانية تُنقَذ حيوات الركاب الواحد والعشرين.
نزل الكتَّاب من الحافلة، مقطوعة بهم السبل ومرتبكين من تبدُّل مسار الأحداث العنيف.
وهم على الأرض أمكنهم رؤية مقدّمة الحافلة تترنَّح على حافة الجرف وعجلاتها الأمامية في الهواء. بشكلٍ ما استطاع سائق الحافلة الهروب ولم يكن له أثر.
هذه المرة، علم فرج أنَّ تلك قد كانت محاولةً متعمدة لإسقاط الحافلة عن الجرف.
رأى فرج مجموعة من مسؤولي الأمن في ملابس مدنية جالسين في سيَّارة على الطريق الجبلية، التي عادةً ما تكون مهجورة في هذا الوقت من الليل.
وقال إنَّ عناصر الأمن هؤلاء هم من أقلُّوا المجموعة الأدبية إلى مقرهم المحلي في بلدة مجاورة حيث احتُجِزوا ليومٍ كامل.
وقال: "أجبرونا على كتابة خطابٍ نوافق فيه على عدم التحدُّث عن هذا الحادث مع أياً كان. ومن بعد هذه اللحظة علمنا أنَّهم أرادوا قتلنا جميعاً".
وأضاف: "صُدمنا. ولم يسعنا فهم كراهيتهم المتغلغلة ووحشيتهم تجاهنا. كنَّا مدهوشين لدرجة أن أحدنا لم يستطع التحدُّث مع الآخر".
ظلَّت تفاصيل المحنة التي تعرَّض لها الكتَّاب طي الكتمان لعدة أعوام، ولم تُكشَف إلَّا بعد سلسلة أحداث عام 1998.
24 طعنة
كانت باراستو فوروهار تجلس في بيتها في ألمانيا تنتظر مكالمةٍ من والديها، مثلما اعتادت كل أسبوع، لتسمع أخبار عائلتها وهي على بعد آلاف الأميال من بلدها الأم إيران، لكن انتظارها كان دون جدوى.
زاد قلق باراستو، التي كان عمرها 36 عاماً آنذاك، عندما تلقَّت مكالمة هاتفية من صحفية تعمل بهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) تسألها فيها عن والديها.
تستحضر باراستو ما حدث قائلة: "قالت لي المراسة إنَّها رأت رسالة إخبارية عن تعرُّض والديّ لهجوم لكنها لم تستطع إخباري بالحقيقة كاملة".
وأكملت قائلة: "اتّصلتُ بعدئذٍ بصديق مقرَّب لوالديّ كان يعيش منفياً في باريس، وأخبرني أنَّهما قد قُتِلا".
قُتِل داريوش فروهر وزوجته بارفانا فروهر بوحشية في بيتهما جنوب طهران يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني.
طُعِن داريوش (70 عاماً) 11 مرة، وطُعِنت زوجته، التي كان تصغره باثني عشر عاماً، 24 مرة
كان كلا الزوجين قد صارا من المنتقدين الصريحين للسلطات في ظلّ حُكم الجمهورية الإسلامية في إيران، وترأسا حزباً علمانياً معارضاً صغيراً سمح النظام الإيراني بوجوده، إلى الآن.
صدمت جريمة القتل الوحشية للزوجين المسنَّين الأمَّة الإيرانية بأكملها ووثَّقت أوَّل أحداث ما عُرِف في ما بعد باسم "سلسلة القتل في إيران".
قُتلا خنقاً
بعد مضي قرابة الأسبوعين من سماع باراستو الأنباء المفجعة بمقتل والديها، ودَّع محمد مختاري ابنه البالغ من العمر 12 عاماً وهو يغادر منزله في طهران لأداء بعض المهام.
قال ابنه سوهراب، وهو الآن راشدٌ يعيش في ألمانيا، مستعيداً ما حدث: "آخر ذكرى لي عنه كانت اللحظة التي غادر فيها منزلنا، طلبتُ منه شراء الحليب أثناء وقوفه أمام الباب، لكنه كان مختلفاً، وكأنه شعر بأن هناك خطباً ما".
كان محمد (56 عاماً) كاتباً وشاعراً ومنتقداً صريحاً للرقابة المفروضة على الصحافة في إيران، ولم يعُد محمد إلى منزله أبداً.
قضى شقيق سوهراب الأكبر الأيام السبع التالية باحثاً عن والده المختفي في المستشفيات ومخافر الشرطة في أنحاء طهران.
ما لم يعلمه آنذاك هو ظهور جثة بالفعل في مصنع أسمنت على حدود طهران، بعد يومٍ من اختفاء محمد يوم 3 ديسمبر/كانون الأول.
وبعد مرور أسبوع على اختفائه، تلقَّت العائلة اتصالاً من السلطات الطبية تطالبهم للحضور والتعرُّف على الجثة.
ووفقاً للسلطات، كل ما عُثِر عليه مع جثة محمد مختاري كان قصاصة ورق وقلماً، كان الرجل قد قُتِل خنقاً، وأفادت التقارير بوجود كدمات حول عنقه.
في ذات اليوم الذي اكتشف فيه الشقيقان مختاري مصير والدهما، اختفى صديقٌ للعائلة وكاتبٌ زميل هو الآخر في إيران.
كان محمد جعفر بويانده (44 عاماً) مترجماً بارزاً في المشهد الأدبي وإن لم يكن معروفاً للجمهور. اختُطِف محمد خارج مكتبه في وسط المدينة بطهران في وضح النهار، وبعد ثلاث أيام، اكتُشِفَت جثته وكانت، مثله مثل صديقه، تحمل آثار تعرُّضه للخنق.
الرابط القاتل
كان بين مختاري وبويانده عاملٌ مشترك، وهو أنَّ كلاهما كان عضواً بجمعية الكتَّاب الإيرانيين، وهي المجموعة نفسها التي نظَّمت رحلة الحافلة المُجهَضة إلى أرمينيا قبل وقوع تلك الأحداث بعامين.
كذلك قد كانا، في مرحلةٍ ما، منتقدين صريحين للسلطات الإيرانية.
كانت الجمعية، التي جمعَت أعضاءً ذوي عقلياتٍ تقدُّمية متشابهة من كتَّاب، وشعراء، وصحفيين، ومترجمين، في محاولةٍ لمكافحة الرقابة في إيران، تعرَّضت نشاطاتها لقيودٍ صارمة في عهد حكوماتٍ إيرانية متتالية، ومُنِع نشاطها كلياً بعد فترةٍ قصيرة من اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.
يصف فرج ساركوهي، وقد كان من أبرز أعضاء جمعية الكتاب الإيرانيين في حقبة التسعينيات، كيف تمكَّنت الجمعية من التحايُل على الحظر.
قال: "استمرّ وجود الجمعية لأنَّها حظت بدعمٍ مهول. أقمنا حفلات عشاء لمناقشة أفكارنا خلف الأبواب المغلقة، واستضفتُ بعضها في منزلي الخاص. علمنا أنَّه كان يجري التنصُّت علينا لكن لم نكن نملك خياراً آخر".
ثم أتت نقطة التحوُّل في عام 1994، عندما حاول 134 فرداً من أعضاء الجمعية بثّ روحٍ جديدة في جمعية الكتاب الإيرانيين إذ وقَّعوا خطاباً مفتوحاً يطالب بحرية التعبير في إيران. لاقى النص المنشور دعماً كبيراً داخل وخارج البلاد.
كان من بين مَن ساعدوا في صياغة مسودّة النص فرج ساركوهي، ومختاري، وبويانده، وعدة كتابٍ سيحدث بعد عامين أن يذهبوا في رحلة الحافلة المشؤومة إلى أرمينيا.
وقبل أسابيع قليلة من مقتلهما عام 1998، استُدعي مختاري، وبويانده، وأربعة كتَّاب آخرين إلى المحكمة على خلفية مجهوداتهم لإقامة مؤتمر باسم جمعية الكتاب الإيرانيين.
وهُناك استُجوبوا وأُمِروا بحزمٍ أن يتخلّوا عن خططهم تلك.
التحقيق بالجريمة كان مجرد تمثيلية
لم تكن الاغتيالات السياسية أمراً جديداً على إيران، لكنَّ الطبيعة الوحشية التي نُفذَّت بها جريمة قتل الزوجان فروهر أسرت اهتمام العامة.
وقالت باراستو، التي كان والداها علمانيين ينظّمان حملاتٍ داعمة للديمقراطية في إيران وقت مقتلهما: "ما أثَّر فيَّ هو الوحشية التي نُفِذت بها الجريمة، إذ طُعِنت أمي حتى الموت 24 مرة، وقُتِل أبي على كرسي مكتبه ووُضِع الكرسي مشيراً لاتجاه مكة في نوعٍ من القتل الشعائري".
وأضافت: "كان المجتمع الإيراني مصدوماً وغاضباً بشدة. ولهذا اندلعت مظاهرةٌ ضخمة في جنازة والديّ، وحضرها آلاف الأشخاص".
بدأ العامة يشكُّون بأنَّ جرائم القتل تِلك كانت ذات وازعٍ سياسي.
تزايد الضغط من جراء الغضب، وأمر الرئيس خاتمي في ديسمبر/كانون الأول 1998 بفتح تحقيقٍ في مقتل الزوجان فروهر، وأيضاٌ في الظروف المحيطة بمقتل مختاري وبويانده.
وبعد بضع أسابيع لا أكثر، في يناير/كانون الثاني عام 1999، أعلنت السلطات الإيرانية، في اعترافٍ نادر الحدوث، أنَّ عدداً من العناصر الفاسدة في وزارة الاستخبارات الإيرانية هم منفّذو جرائم القتل.
وقالت السلطات إنَّ المشتبه به الرئيسي والعقل المدبر للجرائم كان نائباً سابقاً لوزير الاستخبارات يُدعى سعيد إمامي.
مات إمامي في ظروفٍ مثيرة للريبة هو في عُهدة الشرطة، وقال المسؤولون إنَّه انتحر بأن بلع زجاجة من مزيل الشعر.
مثل إجمالاً 18 شخصاً للمحاكمة على خلفية الجرائم، حُكِم على ثلاثة منهم بالإعدام (وقد خُفّف الحكم فيما بعد لأحكام بالسجن)، وحُكم على اثنين بالسجن لفتراتٍ متفاوتة، وبُرّئ ثلاثة آخرين.
كان من بين هؤلاء الذين مثلوا أمام المحكمة خسرو باراتي، الذي أفادت التقارير في ما بعد اعترافه بأنَّه كان السائق في حادثة الحافلة.
لكنَّ عائلات الضحايا رفضت نتائج التحقيق، إيماناً منها بأنَّه كان تمثيلية.
ودرست باراستو، ابنة الزوجين فروهر، ومحاميتها الحائزة على جائزة نوبل شيرين عبادي، جميع اعترافات المتهمين عن كثب.
وقالت باراستو: "قال كلُّ متهم إنَّه تصرَّف بناءً على أوامر وزير الاستخبارات الإيراني شخصياً. كان ذلك وارداً في اعترافاتهم لكنَّ المحكمة لم تحقّق بهذا الادّعاء، بل تعاملت معهم وكأنَّهم أشخاصٌ قتلوا غيرهم دون وازع سياسي".
استقال وزير الاستخبارات آنذاك، قربان علي دري نجف آبادي، على خلفية القضية لكنَّه استمرّ بإنكار تورِّطه فيها.
وأظهرت سلسلةٍ من شرائط الفيديو المسرَّبة بعد مضيّ عدة أعوام على القضية استخدام العنف ضدَّ بعض المتهمين لإرغامهم على الاعتراف.
وفي تلك الأثناء، بدأ بعض الصحفيين الاستقصائيين التحقيق بالقضية ووجدوا صلاتٍ بينها وبين حوادث قتلٍ أخرى غامضة لم تُحَل راح ضحيتها مفكّرين وكتَّاب في أواخر الثمانينيات وتعدَّدت وسائلها بين الخنق، والطعن، وحتى الحقن بمادة البوتاسيوم للتسبُّب في نوبة قلبية.
سُجِن أحد هؤلاء الصحفيين، وهو أكبرغانجي، لمدة خمس أعوام بعد نشره سلسلة من التحقيقات تشير بأصابع الاتهام في القضايا المذكورة إلى وزيرٍ رفيع المستوى في الحكومة الإيرانية السابقة، بالإضافة لرجال دين بارزين.
لم تحقِّق الدولة الإيرانية في أيٍ من تلك المزاعم، وظلَّت معظم حوادث القتل بلا حلٍ حتى اليوم.