لاجئاً إلى السعودية، ملتزماً الصمت السياسي ومحكوماً عليه بالسجن بتهم الفساد المالي؛ هكذا مرت السنوات الأخيرة التي قضاها الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي في منفاه بمدينة جدة في السعودية، بعد أن أصبح أول رئيس تطيح به ثورات الربيع العربي!
وفي 19 سبتمبر/أيلول 2019، توفي عن عمر يناهز 83 عاماً بعد صراع مع سرطان البروستاتا.
وجاءت وفاة بن علي، بعد 4 أيام من تصويت التونسيين في ثاني انتخابات رئاسية حرة منذ الإطاحة به، وهو ما عزز مكانة بلادهم باعتبارها أنقى ديمقراطية في العالم العربي.
رحلة الإطاحة ببن علي
في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2010، اندلعت الاحتجاجات ضد الفقر والبطالة والقمع السياسي في تونس بإحراق الشاب محمد بوعزيزي نفسه؛ احتجاجاً على إهانة كرامته.
طالب المتظاهرون بن علي بالاستقالة بعد 23 عاماً من حكمه تونس.
قُتل عشرات المحتجين في اشتباكات مع قوات الأمن، وهو ما أثار احتجاجات عدد من جماعات حقوق الإنسان، وانتباه العالم.
في يناير/كانون الثاني 2011، حاول بن علي استرضاء المعارضة من خلال التعبير عن الأسف لوفاة المتظاهرين وتعهَّد بتوفير وظائف، والسيطرة على أسعار المواد الغذائية، وزيادة الحرية السياسية.
ثم في 13 يناير/كانون الثاني 2011، أقر بعدم الرضا الشعبي عن إدارته، ووعد بالتنحي عن منصبه كرئيس بنهاية ولايته في عام 2014.
ومع ذلك، استمرت الاحتجاجات في التزايد، فاستقال بن علي من منصب الرئاسة وغادر البلاد، هرباً إلى المملكة العربية السعودية مع عائلته!
فساد لا حدود له
جنى بن علي وعائلته ثروات طائلة من خلال الاستيلاء على أرباح معظم قطاعات الاقتصاد التونسي.
كشف البنك الدولي أن ربع أرباح القطاع الخاص في تونس كان حكراً على عائلة بن علي ومقربيه.
وبعد رحيل بن علي، فتح المدعون العامون التونسيون تحقيقاً في الشؤون المالية لـ "بن علي" وأقاربه، ووافقت سويسرا على تجميد أصوله في البنوك السويسرية.
بعد عدة أيام من بدء التحقيق، أعلن وزير العدل التونسي، لزهر كروي الشابي، أن الحكومة المؤقتة أصدرت أمر اعتقال دولي لـ "بن علي" وعدد من أفراد أسرته.
ومع ذلك، رفضت المملكة العربية السعودية طلب تونس تسليم الرئيس السابق.
وصرح وزير المالية التونسي، رضا شلغوم، بأن القيمة الإجمالية للحسابات البنكية والنقد والممتلكات المصادَرة من الرئيس السابق زين العابدين بن علي وعائلته بلغت 1.4 مليار دينار تونسي (نحو 450 مليون دولار).
في يونيو/حزيران 2011، أدانت محكمة تونسية بن علي وزوجته، ليلى الطرابلسي، غيابياً باختلاس أموال عامة وحكمت عليهما بالسجن 35 عاماً.
وفي محاكمة ثانية عُقدت في يوليو/تموز، أُدين بن علي بتهريب المخدرات والأسلحة والتحف الأثرية، وحُكم عليه بالسجن 15 عاماً.
في يونيو/حزيران 2012، أدانت محكمة عسكرية بن علي غيابياً من جديد، وحكمت عليه بالسجن مدى الحياة، لدوره في قتل المتظاهرين في جنوب ووسط تونس.
وفي يوليو/تموز 2012، حُكم عليه بالسجن مدى الحياة بعد إدانته في المحاكمة الثانية، لدوره في قتل المتظاهرين بشمال تونس.
وحتى 15 مايو/أيار 2018، بلغ مجموع الأحكام الصادرة في حق بن علي 5 مؤبدات و207 سنوات سجناً و6 أشهر و218 مليون دينار تونسي خطية.
من هو زين العابدين بن علي؟
وُلد زين العابدين بن علي لعائلة متواضعة بالقرب من مدينة سوسة عام 1936.
تدرب في أكاديمية سان سير العسكرية الفرنسية وبمدرسة المدفعية في شالون سور مارن بفرنسا.
وفي عام 1968 عمل ضابطاً في أركان الجيش، ثم انتقل عام 1974 كملحق عسكري بالسفارة التونسية في المغرب مدة 3 سنوات، وعمل سفيراً لدى بولندا في أوائل الثمانينيات.
تم تعيينه وزيراً للأمن القومي في عام 1984، وفي عام 1986 أصبح وزيراً للداخلية وقام بدور نشط في استئصال حركة التيار الإسلامي.
في أكتوبر/تشرين الأول 1987 عيَّنه الحبيب بورقيبة رئيساً للوزراء.
كان بورقيبة، الذي حكم تونس منذ استقلالها عن فرنسا عام 1956، مريضاً واعتبره كثيرون غير لائق بمواصلة الحكم. وفي 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، انقلب عليه بن علي سلمياً واستولى على السلطة.
كيف عانى الشعب التونسي من "العائلة"؟
اعتمد حُكم بن علي على محاربة معارضيه والسيطرة على البلاد بقبضة أمنية صارمة، ودعا إلى قمع المتشددين الإسلاميين.
استخدم الشرطة في توجيه ضربة قاصمة للجماعات الإسلامية المتشددة وإرسال قادتها إلى المنفى.
تعرض لانتقادات عديدة لسياساته في مجال حقوق الإنسان، لكن انفتاحه على الغرب وأمريكا ودخوله في اتفاقات معهم جعلهم يتجاهلون سياساته الاستبدادية في مقابل خدمة مصالحهم.
أُعيد انتخابه رئيساً للبلاد في أربعة انتخابات رئاسية وُصفت بأنها صورية، وكان يفوز فيها جميعاً بأغلبية ساحقة.
في عام 2002 أجرى تعديلاً على الدستور في الفصلين 39 و40 من الدستور، ليتيح لنفسه حق الترشح فترتين رئاسيتين قادمتين (انتخابات 2004 وما يليها).
على غرار عديد من الحكام العرب، أصبح لوجه بن علي حضور ثابت في تونس، حيث ظهرت ملصقات ضخمة للرئيس في الأماكن العامة بجميع أنحاء البلاد، كان هناك استياء من الفساد الملحوظ المحيط بالنخبة الحاكمة.
في عهده، ارتفعت البطالة بين الشباب، وشهدت قطاعات واسعة من المناطق الداخلية التونسية فقراً مدقعاً.
لعبت زوجته الثانية، ليلى الطرابلسي، دوراً بارزاً في الحياة العامة التونسية، وساعدت في جمع ممتلكات اقتصادية ضخمة لعائلتها.
مع عدم وجود منافسين واضحين لـ "بن علي"، كانت هناك تكهنات بأنه كان يتطلع إلى نقل السلطة إلى أحد أقربائه.
في الأيام الأخيرة من عام 2010، بدأت سلسلة من الاحتجاجات في وسط البلاد بعد أن أشعل شاب خريج من الجامعة النار في نفسه؛ احتجاجاً على مصادرةِ شرطية عربته التي كان يبيع عليها الفواكه والخضراوات.
انتشر الخبر على شبكات التواصل الاجتماعي تدريجياً، وبدأ ما بات يُعرف بالربيع العربي.
كيف بدا في لحظاته الأخيرة؟
منذ هروبه إلى السعودية لم يظهر بن علي في العلن باستثناء نشر صوره مع عائلته في مواقع التواصل الاجتماعي، وفق ما نشرتها صحيفة New York Times.
بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية التونسية الأخيرة في 2019، قال محاميه إنه نُقل إلى مستشفى في السعودية بعد تدهور حالته الصحية.
وصرح منير بن صالحة لإذاعة "موزاييك" التونسية، بأن ابنة زين العابدين بن علي اتصلت به، قائلة إن والدها "مريض جداً"، وإنه أمضى سنوات عدة وهو يصارع سرطان البروستاتا، إلى أن توفي في 19 سبتمبر/أيلول 2019 عن عمر 83 عاماً.