رغم أنها تمت في أربعينيات القرن الماضي، إلا أن تقنية تجسس "الحرب الباردة" التي نفذها الروس ضد الأمريكيين أثبتت عبقريتها واستمراريتها حتى يومنا هذا.
نعم، هذه التقنية البدائية التي ابتكرها عالم روسي عبقري ما زلنا نستخدمها حتى يومنا هذا وفي كل شيء نشتريه.
كيف؟ نعود إلى أصل الحكاية وتحديداً الرابع من شهر أغسطس/آب عام 1945.
هدية ملغومة إلى السفير الأمريكي
انتهى وقتها الفصل الأوروبي من الحرب العالمية الثانية، وبدأت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي تفكران في علاقتهما المستقبلية.
وفي السفارة الأمريكية، نفّذ مجموعة من الشبان في منظمة الرواد الشباب في الاتحاد السوفييتي بادرة صداقة ساحرة بين القوتين العظميين.
قدموا للسفير الأمريكي، أفيريل هاريمان، ختماً تذكارياً كبيراً للولايات المتحدة منحوتاً يدوياً. وأصبح يُعرف لاحقاً بـ "الشيء".
وكما هي العادة، فحص مكتب السفير الأمريكي الزخارف الخشبية الثقيلة بحثاً عن أي معدات تنصّت إلكترونية، ولكن لم يكن هناك أي أسلاك أو بطاريات، وبدا لهم غير ضار تماماً.
منح السفير هاريمان هذا "الشيء" مكانة كبيرة، وعلقه على جدار شهاداته، حيث ظل ينقل محادثاته الخاصة على مدار السنوات السبع التالية.
لم يدرك إن هذا الجهاز صُمم على يد واحد من المبدعين الحقيقيين في القرن العشرين.
مبتكر جهاز التنصت كان يصنع معدات موسيقية
اشتهر ليون ثيرمن في هذا الوقت بابتكار المعدات الموسيقية الإلكترونية الثورية، التي تعمل دون لمسها، وفق ما نشر موقع هيئة الإذاعة البريطانية BBC.
كان يعيش ثيرمن في الولايات المتحدة مع زوجته، لافينيا ويليامز، قبل أن يعودا إلى الاتحاد السوفيتي عام 1938.
وقالت زوجته لاحقاً إنه تعرّض للاختطاف، ووُضع في إحدى معسكرات الاعتقال، حيث أُجبر على تصميم العديد من الأجهزة، من بينها "الشيء".
اكتشف الأمريكيون التقنية الجديدة بعد سنوات عديدة
في النهاية، صادف مشغلو الإذاعة الأمريكية بث محادثات السفير الأمريكي عبر الأثير.
كانت عمليات البث غير متوقعة تماماً، وفتشوا السفارة الأمريكية بحثاً عن أجهزة بث لاسلكية، ولكنهم لم يعثروا على أي شيء. واستغرق الأمر وقتاً أطول حتى اكتشفوا السر.
كان جهاز التنصت بداخل "الشيء" بسيطاً جداً، لا يزيد عن هوائي مثبت بتجويف مغطى بغشاء فضي يعمل بمثابة ميكروفون. لم يكن هناك بطاريات أو أي مصدر للطاقة. لم يكن "الشيء" يحتاج إلى أي منهما.
كانت موجات الراديو التي يبثها السوفييت في السفارة الأمريكية تُنشّط جهاز التنصّت، ثم يستخدم طاقة الإشارة الواردة لإعادة البث.
وعندما تتوقف الإشارة، يتوقف "الشيء" أيضاً.
تقنية تجسس "الحرب الباردة" تستخدم في جوازات السفر
مثل آلة ثيرمن الموسيقية، قد يبدو "الشيء" مجرد شغف تقني. ولكن فكرة جهاز يعمل بالموجات الإذاعية الواردة، ويرسل من خلالها المعلومات، قد تكون أكثر من ذلك بكثير.
وينتشر استخدام رقاقات "تحديد الهوية باستخدام موجات الراديو" (RFID) بشكل كبير في الاقتصاد الحديث.
تستخدم تلك الرقاقات في جواز السفر، وبطاقات الائتمان، وتمكنك من دفع المبالغ الصغيرة ببساطة من خلال التلويح بالبطاقة بالقرب من جهاز قراءة RFID.
حتى إن الكتب في بعض المكتبات العامة عليها تلك الرقاقات. ويزداد استخدام شركات الطيران لتلك التقنية لتتبع الأمتعة، وتستخدم أيضاً لدى باعة التجزئة لمنع السرقة.
بعض الرقاقات تحتوي على مصدر طاقة، ولكن معظمها، مثل "الشيء" الذي صممه ثيرمن، تعمل بواسطة الإشارة الواردة. مما يجعلها رخيصة، ويزيد من الطلب عليها.
وقبلها في طائرات الحلفاء كجهاز اتصال
وخلال الحرب العالمية الثانية، استخدم نوع من رقاقات RFID في طائرات الحلفاء؛ إذ يسلط الرادار أضواءه على الطائرات، فتتفاعل مجموعة من الأدوات تسمى "أجهزة الإرسال والاستقبال" لموجات الرادار وتبث إشارة مفادها: "نحن في صفك، لا تُطلق النار".
ولكن مع تقلص أحجام دوائر السيليكون الإلكترونية، أصبح من الممكن تصميم رقاقات لأشياء أقل قيمة وأهمية بكثير عن الطائرات.
مثل الرمز الشريطي "الباركود"، يمكن استخدام رقاقات RFID للتعرف سريعاً على الأشياء.
ولكن على خلاف الرمز الشريطي، يمكن مسح رقاقات RFID تلقائياً، بدون الحاجة إلى خط مرئي.
بعض الرقاقات يمكن قراءتها من مسافة عدة أقدام؛ وبعضها يمكن قراءتها على دفعات، وإن كان لا يقدم ذلك نتيجة مثالية. وبعض الرقاقات يمكن استنساخها وإعادة الكتابة عليها، أو تعطيلها عن بعد.
والآن يمكن تخزين معلومات عليها
ويمكن للرقاقات تخزين كمية بيانات أكبر بكثير من الرمز الشريطي، مما يسمح بالتعرف على العنصر بتفصيل أكثر؛ ليس فقط سروالاً متوسط الحجم مريحاً من نوع معين، بل تحديد كذلك مكان وتاريخ إنتاجه.
كانت تستخدم رقاقات RFID لحفظ معلومات حمولات عربات السكك الحديدية والماشية المنتجة للألبان في سبعينيات القرن الماضي.
وتستخدم على جميع ما تنتجه الشركات
وفي أوائل الألفية الجديدة، بدأت هيئات كبرى مثل Tesco، وWalmart ووزارة الدفاع الأمريكية المطالبة بوضع رقاقات على حاويات الواردات. وانتهى الأمر بوضع رقاقات RFID على كل شيء.
حتى أن بعض المتحمسين للفكرة زرعوا رقاقات RFID داخل أجسادهم، مما مكَّنهم من فتح الأبواب الإلكترونية وركوب قطار الأنفاق بإشارة من أيديهم.
وفي عام 1999، قال كيفن آشتون، من شركة Procter and Gamble للسلع الاستهلاكية سريعة التداول إن تقنية رقاقات RFID قد تؤدي إلى "إنترنت الأشياء".
لكن الهواتف الذكية سرقت منها الأضواء
ولكن الهالة المحيطة بتقنية RFID بدأت تتلاشى لينتقل الاهتمام إلى المنتجات الاستهلاكية البرّاقة؛ الهواتف الذكية، التي ظهرت في 2007، والساعات الذكية، والمنظمات الحرارية الذكية، والسماعات الذكية، وحتى السيارات الذكية.
كل هذه الأجهزة متطورة ولديها قوة معالجة كبيرة، ولكنها أيضاً باهظة التكلفة وتحتاج إلى مصدر طاقة قوي.
عندما نتحدث اليوم عن "إنترنت الأشياء" فإننا عادة لا نشير إلى رقاقات RFID وإنما إلى تلك الأجهزة، عالم من التعقيد الهندسي تتحدث من خلاله المحمصة إلى الثلاجة، وتكشف فيه معلومات عن عادات يعتبرها معظمنا حميمية وخاصة للغاية.
وتظل هذه الرقاقات ضرورية للمنتجات دون البشر
ربما ينبغي ألا نفاجأ بذلك. في عصر ما تطلق عليه عالمة الاجتماع شوشانا زوبوف "رأسمالية المراقبة"، أصبح انتهاك الخصوصية الآن نموذجاً تجارياً شائعاً.
ولكن وسط كل هذا الضجيج والقلق، تواصل رقاقات RFID عملها في هدوء. ويراهن البعض أن أيام مجدها تلوح في الأفق.
كانت وجهة نظر آشتون حول إنترنت الأشياء بسيطة؛ تعتمد أجهزة الكمبيوتر على البيانات إذا أرادت فهم العالم المادي بدلاً من الفضاء السيبراني، للتتبع والتنظيم والتحسين.
وبدلاً من أن يكتب البشر كل تلك البيانات، صمموا أشياء يمكنها تزويد تلك المعلومات تلقائياً لأجهزة الكمبيوتر، ليصبح العالم المادي واضحاً ومفهوماً من الناحية الرقمية.
العديد من البشر اليوم يحملون هواتف ذكية، ولكن العناصر المادية "الجماد" لا تحمل هواتف. لذا، تظل رقاقات RFID طريقة غير مكلّفة لتتبع تلك الأشياء.
حتى إذا كانت تلك الرقاقات لا تقدم أمام قارئ RFID أي معلومات إلا أن تقول: "هذا أنا، هنا، والآن"، فهذا يكفي أجهزة الكمبيوتر لفهم العالم المادي.
والفضل كله يعود لـ"ليون ثيرمن"
يمكن استخدام الرقاقات لفتح الأبواب، وتتبع الأدوات، والمكونات، والأدوية، وعمليات الإنتاج الآلية، والمدفوعات الصغيرة.
قد لا تتمتع تقنية RFID بقوة ومرونة الهواتف الذكية أو السيارات ذاتية القيادة، ولكنها رخيصة وصغيرة؛ رخيصة بما يكفي وصغيرة بما يكفي لاستخدامها لتعريف مئات المليارات من العناصر، ولا تحتاج إلى بطاريات.
أي شخص يعتقد أن هذه التقنية لم تعد مهمة عليه أن يتذكر اسم "ليون ثيرمن".