كانت معركة الأرك معركة فاصلة في التاريخ الإسلامي في الأندلس، ربّما لم تكن بنفس محورية وأهمية معركة ملاذكرد التي قادها القائد الشاب ألب أرسلان وأسر فيها إمبراطور الروم، لكنّها بمحوريّة وأهمية معركة الزلاقة التي قادها يوسف بن تاشفين في الأندلس أيضاً.
أسباب معركة الأرك
بعد دولة ملوك الطوائف في الأندلس سيطرت دولة المرابطين على الأندلس، وبعد سقوط دولة المرابطين سيطرت دولة الموحدين على الأندلس والمغرب، وكانت الأندلس تابعة للمغرب، وكانت الحرب بين أخذٍ وردّ بين المسلمين وسلطانهم من الموحدين وبين ممالك المسيحيين: قشتالة وليون ونافارا.
وفي عام 1191 – 585 هـ قام ملك البرتغال بمهاجمة مدينة شلب بالأندلس، فعاد أبويوسف يعقوب المنصور، سلطان الموحدين إلى الأندلس، وحاربه وفاز عليه في معركةٍ تعدّ صغيرة مقارنةً بغيرها، ووقَّعا معاً هدنة سلام 5 سنوات، ولكن بعدما انقضت الهدنة بدأت تظهر بوادر معركة الأرك.
فقد أرسل ألفونسو الثامن، ملك قشتالة، رسالة إلى سلطان الموحدين أبويوسف يعقوب المنصور يستهزئ به فيها ويدعوه لمحاربته إن استطاع، وقام بحملةٍ على بعض البلاد المسلمة بالأندلس وقتل أهلها وغنم أموالها.. عندما وصلت الرسالة لسلطان الموحدين أمر بكتابة التالي على ظهر الرسالة:
"ارجع إليهم فلنأتينهم بجنودٍ لا قِبَلَ لهم بها ولنخرجنهم منها أذلةً وهم صاغرون.. الجوابُ ما ترى لا ما تسمع" .
وبدأ المسير من المغرب إلى الأندلس.
قبل المعركة..
عبر سلطان الموحدين البحر إلى الأندلس، وحشد جيوشه كاملة، الجيوش المغربية والجيوش العربية والمتطوِّعين وكذلك الجيوش الأندلسية، ووقعت المعركة في يوم 18 يوليو/تموز 1195 – 9 شعبان 591 هـ.
يختلف المؤرِّخون حول أعداد الجيشين، فيعتمد البعض أرقاماً خرافية، فقد أوصلها بعضهم إلى 300 ألف مقاتل في جيش ألفونسو بينما يوصلون جيش الموحدين إلى 200 ألف مقاتل، لكن فيما يبدو أنّ هذه الأرقام ليست هي الأصوب، وأغلب الظنّ أنّ جيش ألفونسو كان حوالي 150 ألف مقاتل بينما كان جيش الموحدين حوالي 100 ألف مقاتل.
جمع السلطان المنصور قادته جميعاً واستشارهم في خطط الحرب، كان قد أمر سابقاً بقراءة خطاب ألفونسو المستفزّ على مسامع الجند ليتحمّسوا، وقد كانت هذه الخطوة حافزاً قوياً للجنود.
أشار أبو عبدالله بن صناديد على الملك المنصور بالخطة وهي كالتالي: أن يجعل قائداً عاماً للجيوش وهو وزيره أبو يحيى بن أبي حفص، وأن يجعله قائداً على جيش الأندلسيين، ويجعل قائد كلّ جيشٍ من قومه حتى يستأنسوا له ويحمِّسهم متى أراد ذلك ليثير فيهم الرابطة القومية، على أن يكون نخبة الجيش الموحدي والحرس الخاص بالسلطان في مكانٍ آخر وأن ينجدوا جيش المسلمين متى احتاج نجدة.
وبدأت المعركة..
معركة الأرك الفاصلة
اعتمد القشتاليون بقيادة ألفونسو الثامن خطة ذكية أيضاً، فقد اختاروا موقعاً مميزاً على ربوة، وبدأوا في الهجوم على قلب جيش الموحدين الذي كان بقيادة الوزير أبويحيى بن أبي حفص، واستطاع جيش المسلمين أن يصدّ الهجوم مرتين، وفي الثالثة استشهد ابن أبي حفص، وربما ظنّ القشتاليون أنّ السلطان المنصور هو الذي قُتل.
ظنّ القشتاليون أنّهم فازوا في المعركة، وأكملوا تقدُّمهم، لكنّ القائد المحنّك أبو عبدالله بن صناديد وكان قائد ميمنة الجيش، التفّ على مقدمة الجيش القشتاليّ وفصلها عن بقية الجيش، واستطاع أن يُعمِلَ فيهم القتل.
في هذه اللحظة نزل السلطان بجيشه الخاص إلى أرض المعركة، واستطاع أن يكمل الكرّ على الفارين من جيش القشتاليين، والذي ينسحب الآن بقيادة ألفونسو الثامن، دخل القتشاليون حصن الأرك، فحاصرهم المسلمون ظناً منهم أنّ ألفونسو يختبئ بالحصن، لكنّ ألفونسو كان قد خرج من بابٍ آخر للحصن، هارباً إلى طليطلة.
نتائج معركة الأرك
أكمل جيش المسلمين سيطرته على عدّة قلاع وحصون وأراضٍ من أراضي القشتاليين، كما غنم المسلمون غنائم هائلة فوفقاً لما ذكره المقري التلمساني في كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب"، فقد قتل من جيش القشتاليين 146 ألف مقاتل وأسر 30 ألفاً وغنم الموحدون 165 ألف خيمة و80 ألفاً من الخيل و100 ألف من البغال و400 ألف من الحمير، وما لا يحصى من الأموال والجواهر.
عاد ألفونسو المهزوم إلى عاصمته طليطلة، ووفقاً للكتاب السابق فقد حلق رأسه ولحيته واعتزل النساء مقسماً أنّه لن يقربهم حتى يأخذ بالثأر، لكنّ السلطان المنصور حاصر طليطلة أيضاً، ولم يعد إلا عندما خرجت له أمّ ألفونسو وزوجته وبناته وبقية حريمه يسألنه إبقاء البلد والرحيل عنها، وقد أجابهم السلطان إلى ذلك؛ لأنّه كانت لديه أيضاً بعض التمردات في المغرب فأراد أن يعود سريعاً لإخمادها.
استمرّ الوضع على ما هو عليه، طيلة 17 عاماً، حافظ المسلمون فيها على مكاسبهم من معركة الأرك، حتّى وقعت معركة العقاب، التي حدثت بعد وفاة السلطان المنصور، وهُزم فيها المسلمون هزيمةً ضخمة جعلتهم يخسرون العديد من الأراضي التي ملكوها بدماء شهدائهم.