تغلي أغلب مناطق العاصمة الجزائرية بسبب الغضب المحتدم جراء 20 عاماً انتشر خلالها القمع الذي يمارسه الجهاز الشرطي والدولة. لكنَّ منطقة القصبة، الواقعة في قلب الجزائر، تبدو هادئةً على نحو غريب، وتظهر الأزقة الصخرية القديمة خالية تحت وهج الشمس.
ليست هناك حاجة للتظاهر في المنطقة التاريخية للتأكيد على غياب دور الدولة؛ فهو أمر واضح في كل مكان هنا.
يُبرز الحطام المتاهة الجذابة للبنايات المطلية بالأبيض والتي تنحدر اتجاه البحر الأبيض المتوسط، حيث قال رينوار إنَّه "اكتشف الطلاء الأبيض"، فيما رآها غي دو موباسان "مدينة من الجليد تحت الضوء الساطع"، بحسب صحيفة The New York Times الأمريكية.
الحكومة استعانت بالفرنسيين من أجل إنقاذها، لكن الدعوة أثارت غضب الجزائريين
وقبل اندلاع الثورة في الجزائر هذا العام، واجهت خطة جديدة لإنقاذ القصبة من التدهور إشكاليةً تمثلت في هجومٍ قاده بعض الجزائريين، بسبب توجيه المدينة دعوةً إلى الفرنسيين (المستعمرون السابقون للبلاد)، من أجل المساعدة في إنقاذ المنطقة التي يعود تاريخها إلى العصر العثماني.
وفي ظل ما تشهده الجزائر حالياً من اضطراباتٍ سياسية، وانعدام اليقين، واستمرار الشلل الذي يلحق بالحكومة، فسوف تزداد على الأرجح صعوبة تحقيق تلك الخطة. وفي هذه الأثناء، تضمحل منطقة القصبة.
يفتقر حي القصبة إلى العناصر الأساسية التي تجعلها منطقة تارخية، فلا مطاعم ولا متاحف ولا سياح

تظهر كل مرحلة من مراحل الخراب والاضمحلال المدني في هذا الحي، الذي يمتلئ بحوالي 50 ألفاً من السكان الفقراء شبه المحرومين من العناصر التي تساعد في إنقاذ المناطق التاريخية؛ وهي: السياح، والمطاعم، والمتاحف.
وقف بوعليم دباغ عند المدخل المزين على النمط العثماني لأحد المنازل المطلية بالأبيض، وقال إنَّ عائلته سكنته منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر.
وقال: "لم يفعلوا أي شيءٍ منذ عهد بومدين"، مشيراً إلى الرئيس هواري بومدين الذي توفي عام 1978. مرَّ حمارٌ تُجمع على ظهره القمامة. إذ إنَّ الأزقة ضيقة للغاية مما لا يسمح بمرور أي سيارة. وأضاف دباغ: "كل ما يحدث هو الكلام الفارغ".
كان هذا الحي معقل الثوار، فيه تتم عملية التنظيم، ويعتبر أيضاً مخبأً لهم
خلال الحرب التي خاضتها الجزائر لنيل استقلالها من الاستعمار الفرنسي، والتي انتهت عام 1962، أدت القصبة دوراً حيوياً باعتبارها مكاناً لتنظيم المسلحين واختبائهم.
ومع الاستقلال، فرَّ الفقراء إلى الأحياء الأكثر عصرية، التي تخلى عنها الفرنسيون المغادرون.
ولم تُبدِ الحكومة الجزائرية ذات النزعة القومية المتطرفة، والتي ترغب في تحديث الجزائر، إلا قليلاً من الاهتمام تجاه المنطقة التي تأسست في القرن العاشر ميلادياً.
وقال علي مبطوش، رئيس مؤسسة القصبة، وهي منظمة غير هادفة للربح مخصصة لإنقاذ المنطقة: "لم يكن لديها أي شعور بالثقافة أو التراث".
مباني الحي تنهار واحداً تلو الآخر وضحايا يسقطون نتيجة لذلك
واليوم، حوالي ثلث بنايات القصبة التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر قد تحول إلى ركام، و "البقية تتداعى"، حسبما قال مبطوش، وهو من قدامى المحاربين في حرب الاستقلال ومن مواليد القصبة.
وتأكيداً على ضعف المنطقة، انهار مبنى في القصبة السفلى الشهر الماضي بعد سقوط أمطار غزيرة، مما تسبب في قتل خمسة من أبناء العائلة المقيمة فيه.
أصبح إنقاذ القصبة أمراً مستبعداً، فالجهود العالمية محدودة وإهمال من اليونسكو للمنطقة
كانت الجهود العالمية لإنقاذ المنطقة محدودة، بسبب الخوف من حدوث مزيدٍ من الإساءات والهجوم من قبل الجزائريين المتشككين. ونظراً إلى نزعتها القومية المتشددة، ظلت الحكومة الجزائرية متحفظةً لعقود تجاه اللجوء إلى أي نوعٍ من المساعدات الخارجية.

وعقدت منظمة اليونسكو في العام الماضي مؤتمراً دولياً لمناقشة طرق تقديم المساعدة إلى المنطقة. لكنَّ المعماري الألماني أرمن در، الذي عمل في المنطقة قبل أعوام، أخبر الجمهور المذهول قائلاً: "مع الأسف الشديد، يجب علي أن أقول وداعاً إلى القصبة".
وأضاف: "لا أعتقد أنَّ هذه الجهود المبذولة للمرة الألف سوف تنجح".
رفضت منظمة اليونسكو وضع القصبة على قائمة المواقع المعرضة للخطر، بينما "تبدو بالفعل في خطر" حسبما قال كريم بن مريم، وهو مهندس معماري يعمل في معهد التنمية والعمران بمنطقة باريس (Institute for Development and Urbanism of the Paris Region)، وهي وكالة خبراء متخصصة في التخطيط العمراني وتقديم استشارات للحكومات المحلية في جميع أنحاء فرنسا، وأحياناً خارجهاً، حول قضايا التخطيط العمراني.
حاولت الحكومة استعداء معماري فرنسي شهير لإحياء المنطقة، لكنها أثارت غضب الجزائريين
كان المعهد في قلب الخلاف المشهود في العام الماضي، عندما قال والي الجزائر إنَّه أراد استدعاء خبرات الوكالة وخبرات المعماري الفرنسي الشهير جان نوفيل -الفائز بأرفع جائزة معمارية، وهي جائزة بريتزكر- من أجل إعادة إحياء المنطقة.
رد عشراتٌ من المؤرخين، والمعماريين، والكتاب، والنشطاء، والطلبة من كلا جانبي المتوسط والأطلسي بغضبٍ شديد تجاه الخطة المقترحة، في رسالةٍ مفتوحة نُشرت في صحيفة L'Humanité في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
أعادت الرسالة إلى الأذهان شبح "الاستعمار الفرنسي"، وطالبت بانسحاب نوفيل، الذي صمم مسرح غوثري في مينيابوليس ومتحف برانلي في العاصمة باريس.
وكتب هؤلاء: "لا تقبلوا التواطؤ في موجة رابعة من التحولات الفرنسية الدموية للقصبة"، مشيرين إلى الانحدار الحقيقي الذي عانت منه المنطقة خلال 132 عاماً من الحكم الفرنسي.
لم ينسحب نوفيل، لكنَّ دوره يبقى غامضاً، وبدأ بإعداد خطة
قال ابن مريم: "ما ننتظره منه غير محدد تحديداً دقيقاً".
رفض نوفيل طلباً لإجراء مقابلة معه، إلا أنه تعهد في ردٍ موجهٍ إلى متهميه، بأن "يصيغ إسهاماً ينمو ويتطور استناداً إلى تضاريس المنطقة".
تبدأ الخطة بإعادة استثمار المساحات الفارغة، بوضع بنى مؤقتة على شاكلة المساحات المخصصة للعب الأطفال وورش عمل الفنانين، في مفهومٍ يُعرف بـ"العمارة المؤقتة"، لكي يسمح للسكان "باستعادة تراثهم"، حسبما قال ابن مريم.
وأضاف: "لا يمكنك معالجة المسألة الأساسية إلا إذا أبدى الملاك اهتماماً ببناياتهم. والمسألة تتعلق بإعادة توليد القيمة".
إلا أنَّ الاستجابة الواقعية لخطة نوفيل كانت أقل حفاوة
إذ قال فريد علوي، وهو ساكن يحاول تجديد بناية متهالكة تماماً حتى ظهر الطوب عارياً: "لا نعرف حتى من يكون هذا الشخص. إنَّهم لا يقولون شيئاً إلينا، إلى الناس".
أما مبطوش، رئيس المؤسسة المخصصة لإنقاذ القصبة، فقد اتفق ضمنياً مع هذا.

إذ قال: "لا يمكنك ترميم القصبة بدون أبناء القصبة. لماذا يقررون مصيرنا بدون استشارتنا".
تظهر هشاشة القصبة جليةً أمام أعين الجميع. إذ تمتد العوارض المعدنية على طول بعض الأزقة الضيقة، ضمن عمليات تدعيم البنايات على جانبي الطريق.
حال الحي اليوم: 30% من البنايات غير معروفة أصحابها، ومنذ 40 عاماً لا يوجد أي أعمال بناء بالحي
وقال ابن مريم، الذي يرأس معهد باريس، إنَّه لم تكن هناك أي معاملات عقارية في القصبة منذ 40 عاماً. وأضاف: "ليس هناك بائعون، وليس هناك مشترون. 30% من البنايات لا نعلم من يكون ملاكها".
وقال مبطوش إنَّه من بين البنايات المهجورة "80% منها تخص ملاكاً هجروا ممتلكاتهم"، لأنَّهم غير قادرين على دفع المال اللازم للترميم.
يأتي المستقطنون، وترفرف الملابس المغسولة أعلى الأسطح التي يطل كلٌ منها على البحر. توجد بنايات سقطت واجهاتها أو خلفياتها، لتكشف عن الطوب المتهالك في الداخل والفناءات ذات الأعمدة المميزة.
وبعد ذلك، يجد الرائي أكواماً كبيرة من الركام، حيث كانت هذه البنايات شامخةً في وقتٍ سابق، ومساحات من الأراضي الفارغة التي نمت فيها الأعشاب وتجاوزت الركام.
لكنَّها أيضاً منطقة يلعب فيها الأطفال لعبة الداما في المداخل المنحوتة نحتاً منمقاً، وتصعد الأمهات اللواتي يرتدين الحجاب الأزقة شديدة الانحدار بعد اصطحاب بناتهن من المدارس، ويظهر فيها ما يكفي من النسيج الحضري بألوانه البيضاء، الذي نجا عبر الزمان ليمنح شعوراً ملموساً من الماضي.
وقالت جميلة حمودة، وهي واحدة من السكان: "هنا، يشعر جيرانك بأنَّهم في بيتهم وهم معك، وتشعر بأنَّك في بيتك وأنت معهم".
أما زوجها محمد، 73 عاماً، وُلد في دارٍ عثماني يعود إلى القرن الثامن عشر، حيث يظهر البلاط الأبيض والأزرق الرائع مع الدرج الصاعد.
كان محمد مراهقاً حينما نسف المظليون الفرنسيون المنزل، الذي كان يؤوي أسطورة الثورة الجزائرية علي لابوانت، خلال معركة مدينة الجزائر عام 1958.
وقال عن تلك الفترة: "لقد صَدَمَنَا ما عايشناه".