مرّ في تاريخ المسلمين عشرات الملوك وآلاف الأمراء والقادة، ربما راح أغلبهم يقطفون ثمار الملك والجاه، لكنّ البعض الآخر -وربما يكونون الأقلّ عدداً- راحوا يقطفون ثمار المُلكِ والجاه بطريقةٍ مختلفة، فيها من الزهد بقدر ما فيها من السلطة، وفيها من الإيمان بقدر ما فيها من المعارك والصراعات، أحد هؤلاء كان يوسف بن تاشفين، الذي حكم قرابة 40 عاماً، وعاش قرناً كاملاً من الزمان.
من هو يوسف بن تاشفين؟
ينتمي يوسف بن تاشفين لقبيلة لمتونة وهي إحدى قبائل صنهاجة، اعتنقت قبيلته الإسلام وأسست دعوة باسم "دولة الرباط والإصلاح" فنشروا المذهب المالكي السنيّ في أنحاء إفريقيا، ثمّ حاربوا العديد من القبائل الأخرى غير المسلمة وأخضعوا غرب إفريقيا.
في منطقةٍ نائية في السنغال بإفريقيا، بدأ عبدالله بن ياسين دعوته بتعليم 9 رجال فقط تعاليم الإسلام، مع الوقت أصبح لديه 1000 رجل، ثمّ ازداد العدد وبدأوا في الجهاد باستعادة بعض الأراضي التي سيطرت عليها مملكة غانا.
توفِّي ابن ياسين، وتواتر الزعماء على الحركة إلى أن وصلت لأبي بكر بن عمر اللمتونيّ، الذي تخلَّى بدوره عن إمارة الدولة لابن عمّه يوسف بن تاشفين مفضلاً الجهاد والدعوة في الصحراء.
ما إن استقرّ لابن تاشفين إمارة دولة المرابطين، حتى بدأ يتحرّك في غرب إفريقيا بسرعةٍ كبيرة، واستطاع توحيد المغرب ثم تأسيس عاصمته مراكش، وبدأ في بثّ السرايا والجيوش لإخضاع القبائل والإمارات الصغيرة حوله، وهادن البعض الآخر ممن جمعته بهم قرابة أو لم يكن بينه وبينهم حروبٌ أو صراعات كبني حمُّود، وبهذه الخطوات استطاع ابن تاشفين تعضيد أركان إمارته.
"أمير المسلمين بدلاً من "أمير المؤمنين"
ما إن تأكّدت سلطة يوسف بن تاشفين على المغرب وبسط ملكه عليها -ولاحقاً على الأندلس- حتى طلب منه بعض أتباعه أن يتسمّى بلقب "أمير المؤمنين"، فقد كان لقبه حتى الآن "الأمير" وفقد، وهو لقبٌ يشتركُ فيه العديد من قادة دولة المرابطين، لكنّه رفض ذلك حسب ما يذكر ابن خلدون، متعللاً بأن لقب "أمير المؤمنين" أولى به الخليفة العباسي.
كان الخليفة العباسي في ذلك الوقت ضعيفاً لا يملك من أمره شيئاً، بل إنّ عدة دول إسلامية ظهرت تحت ولايته الاسميّة فقط، ولم يكن ليشكل خطراً بأي حال على دولة المرابطين أو على يوسف بن تاشفين.
بدلاً من ذلك اقترح عليه أتباعه أن يتسمى بلقب "أمير المسلمين"، وأن يرسل للخليفة أحمد المستظهر بالله في بغداد يطلب منه تقليداً بالولاية، وبالفعل أعطاه الخليفة عهده وولايته على ما تحت يده من البلاد، واتخذ بعد ذلك لقب "أمير المسلمين".
"من بلاد الأندلس لأمير المسلمين" رسالة الاستغاثة التي غيرت التاريخ
على الضفة الأخرى من البحر المتوسّط كان المسلمون في ضعفٍ من أمرهم، فقد استطاع ألفونسو السادس، ملك قشتالة، أن يستولي على بعض الممالك، فقد كان المسلمون في الأندلس عبارة عن 22 دويلة صغيرة، لكلٍّ منها ملك، فيما سمِّى بعهد "ملوك الطوائف".
كان ألفونسو يسعى للاستيلاء على دويلات ملوك الطوائف، واستطاع الاستيلاء على أحد أهم هذه الدويلات سنة 1085، حينما دخل مدينة طليطلة، بعدها بدأت مراسلاته ومضايقاته لأميري إشبيلية وبطليوس، وبدأ بفرض الجزية على ممالك المسلمين الضعيفة.
في هذه المرحلة أرسل عدد من ملوك الطوائف رسالةً لابن تاشفين يستدعونه فيها لقيادة الجهاد ضد ألفونسو السادس، واستجاب لهم ابن تاشفين الذي كان في ذلك الوقت يتجاوز 70 عاماً. نزل بجنوده مدينة الجزيرة الخضراء، بعدما تبادل المراسلات مع ألفونسو، حين دعاه للإسلام أو الاستسلام ودفع الجزية، وحين رفض ألفونسو عَبَرَ ابن تاشفين وجنوده البحر ووصلوا الأندلس.
استمرّ حشد الجيوش من الجانبين، انضم بعض ملوك الطوائف لابن تاشفين، ومن ناحية أخرى أرسل ألفونسو يستدعي كامل جيوشه للتجهُّز للمعركة الفاصلة التي ستغيِّر تاريخ الأندلس، معركة الزلّاقة، التي دارت عام 479 هـ – 1086م.
معركة الزلاقة.. أحد أبرز معارك دولة المرابطين
وضع ابن تاشفين خطّته المُحكمة على ثلاث مراحل، وقسّم الجيوش لثلاثة جيوش، ما استطاع من خلاله استخدام عنصر المفاجأة لجيش ألفونسو، فقد شعر ألفونسو بأن النصر قريب بعدما استطاع أن يوقع العديد من الخسائر المادية والبشرية في صفوف مقدمة جيش المرابطين الذي كان بقيادة ملك إشبيلية المعتمد بن عبّاد وداؤود بن عائشة وهو أحد قادة جيش المرابطين المشهورين.
كان عنصر المفاجأة عندما نزل ابن تاشفين أرض المعركة، مع نخبة الجيش المرابطيّ وحرسه الخاص الذي كان يبلغ حينها 4 آلاف مقاتل أشدّاء، هجموا من الخلف على معسكر ألفونسو، فأصبح ألفونسو الآن بين شقيّ رحى: جيش المعتمد بن عباد وجيش ابن تاشفين، وقد أصيب ألفونسو إصابةً بالغة في فخذه ظلّ يعرجُ بسببها طوال عمره.
حسب بعض الروايات فقد استطاع ألفونسو الهرب بخمسمئة فارسٍ فقط من إجمالي 80 ألف مقاتل دخل بهم المعركة، بالطبع لم يقتلوا جميعاً، فبعض المصادر المتوافرة تشير لحوالي 24 ألف قتيل، عاد ألفونسو منهزماً، فرفع الحصار عن كبريات الدويلات المسلمة في الأندلس، وتراجع كثيراً، حينها فقط عاد يوسف بن تاشفين للمغرب لأنّ وليّ عهده توفي في المغرب.
هذه هي المرة الأولى التي أنقذ فيها الأندلس.. ماذا عن المرّات الأخرى؟
ما إن انتصر المسلمون في موقعة الزلاقة حتّى عاد ابن تاشفين للمغرب، وبدأت أمارات الفُرقة تلوحُ من جديد على أمراء وملوك دويلات المسلمين، بينما استطاع ألفونسو أن يشحذ همم جنوده ويتعافى ويهجم من جديد، وبدأت مشكلات "حصن لييط" الذي اتخذه ألفونسو مركزاً لهجماته على ملوك الطوائف.
كتب ملوك الطوائف مرةً أخرى لابن تاشفين يدعونه فيها لعبور البحر المتوسط من جديد لمواجهة ألفونسو، وبالفعل عاد من جديد عام 481 هـ – 1088م، ليحاصر الحصن، لكنّ ألفونسو صمد هذه المرة، وما إن تراجع المسلمون عن حصار الحصن حتى هرب من الحصن بعد أن أضرم فيه النيران، وبسط المعتمد بن عباد سيطرته على الحصن، وعاد ابن تاشفين مرة أخرى لعاصمته مراكش.
بعد سنتين عاد ابن تاشفين للأندلس، وحاصر طليطلة التي كان فيها ألفونسو، وأغار على عددٍ من الحصون والمدن التي كانت مركزاً للهجوم على ملوك الطوائف، لكنّ المُلاحظ أنّ وصوله الأندلس تلك المرة كان بمبادرة شخصيةٍ منه وليس باستدعاءٍ من ملوك الطوائف.
في هذه المرة استولى يوسف بن تاشفين على أولى دويلات ملوك الطوائف، عندما هزم عبدالله بن بلقين وأخذ غرناطة، عاد للمغرب، فخاف ملوك الطوائف من سطوته بسبب تهديده لملكهم، فبدا المعتمد بن عباد -وهو حليف الأمس الذي استغاث به وحارب معه في موقعة الزلاقة- في مراسلة ألفونسو الذي أمدّه بجيشٍ كبيرٍ لمواجهة جيوش ابن تاشفين.
وكانت هذه هي المرة الرابعة والأخيرة، إذ لم تفلح جيوش ألفونسو السادس ولا جيوش المعتمد بن عباد ولا بقية ملوك الطوائف في وقف الزحف المرابطيّ إلى الأندلس، فضمّ ابن تاشفين الأندلس كلّها تحت إمرته هذه المرّة، وبدأت رحلته في الجهاد ضد ألفونسو وممالك شبه الجزيرة الإيبيرية.
سيّر ابن تاشفين قادة جيوشه في معارك طويلة لاسترداد ما أخذه ألفونسو من المدن، وبالفعل استطاع استرداد كلّ الأراضي التي كانت تحت حكم الأمويين في الأندلس، ما عدا دويلة سرقسطة، فقد كان أميرها موادعاً لابن تاشفين مجاهداً لألفونسو فأقرّه على إمارته ولم يضمّها لملكه.
النهاية الهادئة لأميرٍ ليس هادئاً
عاد ابن تاشفين إلى المغرب، وترك ابنه محمّد والياً على شرق الأندلس، في المغرب كان مُلكُ ابن تاشفين متوطداً قوياً، فعاش آخر أيامه في هدوء وراحة، ومرض آخر سنةٍ من عمره، وهو قرب التاسعة والتسعين من عمره، وانتهت بوفاته عام 500 هـ – 1106م.
وقبيل وفاته عَهِدَ بالولاية من بعده لأصغر أبنائه عليّ بن يوسف بن تاشفين واستوثق من الأمراء والقادة والفقهاء على موافقتهم، وأصبح ابنه عليّ خليفته في حكم دولة المرابطين واستمرّ على عهد أبيه من الجهاد في الأندلس حتى وفاته.