150 عاماً على إقرار التعديل الـ14 في الدستور الأميركي والذي اعتُبر الحل لإنهاء أشكال التمييز العنصري، وما زالت أميركا رغم تفوُّقها تعاني كل يومٍ آثاره.
في أهم الجامعات وأماكن التوظيف ومراكز الشرطة وحتى أعمالها الفنية، توجد آثار من حقبة سوداء دفع ثمنها آلاف الأبرياء. ورغم دخول الدولة العظمى الألفية الثالثة يفاجأ العالم بأخبارها يوماً بعد يوم، حتى في أفخر جامعاتها، هافارد. وتنقل وسائل إعلامها أحداثاً تؤكد أن العالم لا يزال أمامه شوط طويل كي يطوي تلك الصفحة.
ومع حلول ذكرى التعديل الـ14 في الدستور الأميركي، والذي كان بمثابة الحل الذي كان من المفترض أن ينهي أغلب أشكال التمييز العنصري، نتطرق إلى تسلسه التاريخي وآثاره الجدلية، التي ستضع كبرى جامعات أميركا، وضمنها هارفارد، في كرسي الاتهام.
كانت النقلة النوعية مع إقرار إجراءات تنفيذية إصلاحية حازمة، تُعرف اليوم بـ"التمييز الإيجابي"؛ أي باختصار فرض مجموعة من الإجراءات والقوانين، التي تُلزم بعض الهيئات، والمصالح العامة والخاصة، بتخصيص نِسب بعينها من أفرادها من الأقليات التي تم اضطهادها من قبلُ بسبب عِرق أو جنس أو لون.
بقرارٍ من كينيدي.. دخل المصطلح إلى الوعي الجمعي
بدأ مصطلح التمييز الإيجابي بالدخول إلى حيز الوعي العام في الولايات المتحدة عام 1961، عندما وقَّع الرئيس الأميركي جون كينيدي على مجموعة من القوانين سميت Affirmative actions، من شأنها منع التمييز العنصري تجاه الأقليات في المجتمع الأميركي.
وتقضي التعديلات بتخصيص نِسب بعينها من المواطنين لشغل الوظائف، أو الالتحاق بالجامعات الكبرى التي كانت في أوقاتٍ سابقة تختصُّ بالطلبة من ذوي البشرة البيضاء بنسبٍ كبيرة من بين الدارسين بها.
اشتمل القرار على بندٍ ينص على أن المتعاقدِين الحكوميِّين يجب أن يطبِّقوا التمييز الإيجابي؛ لضمان توظيف المتقدمين، ومعاملة الموظفين في أثناء العمل دون النظر إلى عرقهم، أو عقيدتهم، أو لونهم، أو موطنهم الأصلي.
لم يكن القرار يشتمل على الجنس، وتمت إضافته لاحقاً عام 1967 في عهد الرئيس ليندون جونسون.
بعدما طُبقت سياسات التمييز الإيجابي، كان المجال الأول والأهم لتطبيقها هو المؤسسات التعليمية الأميركية، وخاصة الجامعات، التي كانت تعاني ندرة شديدة في الأقليات قبل إصدار القانون، وتحديداً الطلاب من أصولٍ إفريقية، بنسبة لا تتعدى 5% من إجمالي المتعلمين في تلك الجامعات، والتي ارتفعت بعدها خلال السنوات إلى 46%.
لكن "التمييز الإيجابي" قد يتسبب في التمييز تجاه البيض! هذه هي المشكلة
في السنوات العشر الأخيرة، عاد المجتمع الأميركي إلى مناقشة التمييز الإيجابي، خاصة بعد أن أثيرت عام 2008 قضية فتاة بيضاء رفعت دعوى قضائية ضد جامعة ولاية تكساس، واتهمتها برفض قبول طلبها بالدراسة في الجامعة؛ بسبب كونها "بيضاء".
اتهمت الجامعة بأنها تستغلّ التمييز العنصري بشكلٍ رسميٍّ لحساب الطلاب السود، ولكنَّ الجامعة قالت إنها رفضت طلب التحاق الفتاة بسبب درجاتها، وليس بسبب لون بشرتها، وإن هذا لا يتعلق بوجود برنامج للتمييز الإيجابي بالجامعة.
حكمت بعدها المحكمة بإنهاء برنامج التمييز الإيجابي في جامعة تكساس، وهو واحد من الأمثلة التي أعادت للسطح إحصائيات كانت قد نُشرت في التسعينيات عن نسب الطلاب السود بالجامعات الكبرى، والتي أظهرت أن نسبة 86% من الطلاب السود الذين يتم قبولهم بالتمييز الإيجابي هم من الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وأن نسبة الطبقات المتوسطة والفقيرة في الطلاب البيض لا تتعدى 50%؛ أي إن تلك الجامعات تقبل الفقراء من السود بنسب أكبر من البيض.
الجدير بالذكر أن 8 ولايات أميركية أوقفت بشكل نهائي برامج التمييز الإيجابي في جامعاتها، ومدارسها (وضمنها هارفارد ويال وبرنستون)؛ نظراً إلى كونها صارت خارج منظومة التمدّن الحديث، وقد تُسبِّب احتقاناً بين أطياف الشعب، الذي يجب أن يعامَل جميعه بشكل متساوٍ (هذه الولايات مسؤولة وحدها عن تعليم 29% من طلاب الجامعات).
ماذا عن التوظيف؟.. الأوضاع تحسَّنت ولكن!
واحدة من الإحصائيات التي تهتم بها الولايات المتحدة منذ الستينيات وحتى اليوم هي نِسب البطالة، ونسب مشاركة السود في الوظائف القيادية، والتنفيذية بالمؤسسات الحكومية، والتي أوضح آخرها مما بين عامي 1966 و2013، ارتفاعاً في نسب الموظفين الكبار من أصحاب البشرة السوداء من نسبة 0.87% إلى نسبة 6.77% بواقع 7.2 مليون أميركي.
يختلف الأمر عن نسب أخرى نُشرت حول نسب البطالة، والتي تُقاس في الغالب على غير العاملين بالقطاع العام في الولايات المتحدة والتي توضح أن 8.4% من السود يعانون البطالة، بالمقارنة بنسبة 4.3% من البيض، أي إن القطاع الخاص لاي زال يحتوي على نسبة فرص أعلى بالنسبة للبيض.
ترمب يرى أن هناك مشكلة ويريد أن يلغي القانون
في 2017، صرَّح الرئيس الأمريكي دونالد تامب بأن وزارة العدل الأميركية سوف تبدأ برامج تهدف إلى مقاضاة الجامعات التي ما زالت تطبق التمييز الإيجابي لصالح السود داخل الولايات المتحدة.
تناولت وقتها العديد من الصحف الأميركية القرار، واعتبرت أن قرار الرئيس الأميركي جاء لصالح منع العنصرية ضد البيض، ولكن في حقيقة الأمر لا يزال السود يحتاجون إلى ما هو أكثر من هذا القانون، وأن إلغاء العمل به قد يؤثر في عمليات قبول الموظفين والطلبة، وقد يفجِّر المزيد من القضايا الشبيهة بقضية فتاة جامعة تكساس.
والشهر الماضي (يوليو/تموز 2018)، وجَّه ترمب رسالة إلى رؤساء الجامعات، طالب فيها بعدم اعتبار العِرق في قرارات القبول، ليعكس بذلك سياسةً حثَّ عليها سلفه باراك أوباما.
وبالنظر إلى نسب القبول للطلاب من الأقليات بعد قرار منع "التمييز الإيجابي" في عدد من الولايات، تُظهر النتائج انخفاضاً حاداً في عددهم، ما يعني أن إلغاء تلك المميزات سوف يؤثر على التحاق الأقليات بالتعليم.
ومنتقدوه يعتبرون خطوته "محاولة بغيضة لتقسيم الدولة المتصدعة"
ومن المرجح أن يؤدي تحرُّك إدارة ترمب إلى تصعيد النقاش الوطني الذي طال أمده بشأن الدور الذي يجب أن يلعبه العرق في القبول بالجامعات، وهي القضية التي تدخلت فيها المحكمة العليا عدة مرات منذ السبعينيات.
وفي مقال نشرته مجلة Fortune، اعتبر محرر المجلة أن "مهاجمة سياسة تزيد من إمكانية وصول أعضاء المجتمعات المهمشة تاريخياً هي جوهر البغض الكاذب الذي يسهم في الانشقاقات بالمجتمع الأميركي، والتي يبدو أن قيادتنا السياسية الحالية سعيدة للغاية باستغلالها. يجب أن نرى هذا الهجوم الأخير على ما هو عليه: وعد مبشِّر بالقضاء على عدو غير موجود، ولكن في الحقيقة محاولة أخرى لتقسيم الدولة المتصدعة بالفعل".