إذا كنت تمتلك نصف مليون يورو فهو لك، إنه يُعرَض الآن للبيع في باريس.
تسجيلٌ دقيقٌ نفذه مئات العلماء والفنانين والرسامين الفرنسيين، لكل تفصيلة في حياة المصريين في فجر القرن الـ19.
هو فخر نابليون بونابرت، الذي أعلن للمصريين تأسيس المجمع العلمي، بعد 50 يوماً فقط من احتلاله البلاد، في يوليو 1798، في سابقة لم تحدث من جانب المحتلين الذين تعاقبوا على وادي النيل، وهم كثر.
وعندما غادر الغزاة أرض مصر بعد 3 سنوات، تركوا كنزاً نادراً للبشرية: كتاب "وصف مصر"، وهو أول وصف علمي لمصر القديمة والحديثة.
جاء الكتاب الضخم في 20 جزءاً، منها 11 مجلداً مخصصة للصور واللوحات والخرائط، و9 مجلدات للنصوص.
كانت دار "كريستيز" للمزادات العالمية أعلنت أنها بصدد تنظيم مزاد لبيع "الكتب النادرة والمخطوطات"، وقد تم تحديد موعد المزاد ليوافق يوم الـ29 من مايو/أيار 2018، في العاصمة الفرنسية.
أما كتاب "وصف مصر"، فيقدَّر ثمنه مبدئياً بما بين 300 و500 ألف يورو، علماً أن الرقم قابل للازدياد وفق شدة رغبة من يريدون الحصول عليه.
Description De L,Egypt، هكذا أطلقت اللجنة الفرنسية لعلوم وفنون مصر على الكتاب، الذي يعد أولى حلقات الوصل بين الحضارة المصرية والفرنسية، ومن أهم عوامل اهتمام فرنسا بثقافة الشرق عامة، ومصر خاصة.
كما يُعد الكتاب أحد أسباب إقامة مؤسسة من أهم مؤسسات مصر واستمرارها؛ وهي "المجمع العلمي"، الذي كانت فكرة الكتاب هي النواة الحقيقية لإنشائه.
فيما يلي، نبذة خاصة عن هذا الكتاب، أو بمعنى أدق، الموسوعة التاريخية الهامة:
نزلت الحملة في بيت السناري الأثري
في يوليو/حزيران عام 1798، أرست الحملة الفرنسية سفنها على شواطئ مدينة الإسكندرية. وبعد 50 يوماً، أسس نابليون بونابرت، قائد الحملة الفرنسية، المجمع العلمي.
اختار بيتَ السناري (قصر فخم بناه إبراهيم كتخدا السنّاري في القرن الثامن عشر) ومجموعة من بيوت المماليك المجاورة مقراً لهذا المجمع. وذكر المشرف على مشروع "ذاكرة مصر المعاصرة"، الدكتور خالد عزب، أن مجلة "الهلال" نشرت بتاريخ الأول من مايو/أيار 1925 نزول أعضاء البعثة الفرنسيين من الفنانين والرسامين فيه.
وبعد جلاء الحملة، أدخلت لجنة الآثار العربية بيت السناري في عداد الآثار، وأجّرته لـ"شارل جالياردو بك". أنشأ فيه متحفاً ومكتبة أطلق عليمها اسم "متحف ومكتبة بونابرت". كان قوام هذا المجمع 150 عالماً فرنسياً متخصصين في الكيمياء والفلك والآثار، رصدوا وسجَّلوا كل جوانب الحياة بأنحاء القطر المصري كافة في ذلك الوقت من الشمال إلى الجنوب.
استمر عمل العلماء سنوات، تعادل مدة بقاء الحملة الفرنسية على أرض مصر، ولم يثنِهم شيء عن أداء هذه المهمة، حتى عدم دراية أفراد الحملة بالكتابة الهيروغليفية التي زيَّنت جدران المعابد.
تغلَّبوا على هذا الأمر من خلال الرسامين، الذين نقلوا هذه الرسوم بكل دقة، حتى تمكَّن علماء الحملة من قراءة الكتابة الهيروغليفية عقب فك رموز حجر رشيد على يد العالم الفرنسي "جيان فرانسوا شامبليون" عام 1822.
وغازلت ريشات الرسامين السيدات في الأسواق والجواري بالقصور
كتب العلماء في نهاية الأمر 20 مجلداً ضمن كتاب "وصف مصر"، ليصبح أشمل موسوعة للأراضي والآثار المصرية مكتوبة يدوياً ومرسومة برسوم توضيحية؛ بالإضافة إلى صور ولوحات ترصد تفاصيل حياة المصري القديم وحياة المصريين أيام الحملة الفرنسية نفسها.
لم يترك العلماء شيئاً، حتى الشواطئ المصرية، كما غازلت ريشات فنانيهم السيدات في الأسواق والجواري فى القصور، ولم ينسوا أعراب صحراء سيناء.
كان للقاهرة والأهرام النصيب الأكبر من الاهتمام
تطرق الكِتاب أيضاً إلى ملامح الناس، السادة منهم والعبيد، بالإضافة إلى مظاهر الاحتفال بالأعياد القومية مثل عيد وفاء النيل. وكان لمدينة القاهرة، بأحيائها الثمانية آنذاك، النصيب الأكبر من الرسوم واللوحات في 11 جزءاً من الكتاب.
واحتلت الموسيقى الشرقية جزءاً كاملاً من الكتاب لتسجيل الأنغام وتاريخها وجميع آلاتها. ومن أهم لوحات الكتاب، أول صورة يراها العالم لأهرام الجيزة الثلاثة، بالإضافة إلى لوحة وحيدة لمعبد "إيزيس"، الذي دُمر عام 1828 خلال حكم محمد علي؛ لذلك يمكن القول إن علم المصريات بدأ مع وضع كتاب "وصف مصر".
أُنشئت مطبعة خاصة لإخراج الطبعة الأولى
في عام 1802، صدر أمر بنشر الكتاب للمكتبة القومية الفرنسية، وعام 1803 صدرت المقدمة الخاصة بالكتاب وكتبها العالم الفرنسي "فورييه". وفي عام 1809، قُدّم إلى نابليون أجزاء متفرقة من الكتاب.
وأخيراً في عام 1813، صدرت الطبعة الأولى من الكتاب، وعُرفت باسم "الطبعة الإمبراطورية". عمل على إخراجها 2000 شخص، وتم إنشاء مطبعة خاصة في باريس لإخراج هذا العمل. وكان حجم الكتاب كبير يبلغ "58×75 سم"، وتكوَّن من 20 جزءاً، تشمل 1000 لوحة، بيع منها الكثير.
وطبعة ثانية بعد 8 سنوات
أما الدراسات العلمية التي واكبت هذه اللوحات، فصدرت في 9 مجلدات، تشمل نحو 7500 صفحة من القطع الدقيق.
بعد سقوط نابليون، صدر الأمر عام 1817 بإصدار طبعة ثانية تحت رعاية الملك لويس الثامن عشر. وفي عام 1821، ظهرت الطبعة الملكية الثانية التي تولى طباعتها "مسيو بانكوك"، وصدر الجزء تلو الآخر حتى عام 1823، حين توقف الدعم الحكومي واعتمدت المجلدات الباقية على المبيعات لتغطية تكاليفها.
ثم رفض العلماء إصدار طبعة ثالثة خوفاً على تراجع الجودة
وفي عام 1828، أي في عهد تشارلز العاشر، صدر أمر بإصدار طبعة ثالثة، ولكنها توقفت؛ لاعتراض العلماء في ذلك الوقت بسبب تأثر اللوحات الموجودة في الكتاب بعوامل الزمن؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى صدور نسخة أقل جودة مما سبقها، وهذا أمر لم يسمحوا به قَط.
رسم الخرائط واللوحات احتاج مهارة فائقة لضمان دقة النسب
كان الرسم والمساحة من التخصصات الأساسية التي اعتمد عليها العلماء والفنانون، خاصة الخرائط واللوحات التي تعبّر عن أهم المعالم المصرية. استخدم المهندسون لوحاً للرسم وورقاً للتصوير وقلماً ومسطرة وبوصلة. رسموا صوراً مبدئية لأي مكان كان، وبعد قياس جميع الأبعاد، أظهروا الرسم في صورته النهائية.
بهذه الطريقة، حصلوا على لوحة كاملة لمعبد الكرنك على سبيل المثال؛ ومنهم المهندس فولفيك الذي صمَّم عدة لوحات عن مصر القديمة، بالإضافة إلى مجموعة من المقالات عن عادات السكان وتقاليدهم.
وظاهرة السراب من وميض القرى حيَّرت العلماء
ومن أهم علماء الحملة الذين أسهموا في وضع كتاب "وصف مصر" العالِم مونج، الذي استطاع أن يفسر ظاهرة السراب. ويقصد بها تلك الظاهرة التي عاناها الجيش الفرنسي من مدينة الإسكندرية إلى القاهرة من منظر القرى التي كانت تومض لهم من بعيد، وكأنها جزر في مياه بحيرة تظل تتراجع باستمرار كلما اقتربوا منها.
شغل الأمر تفكير العالم مونج، فتقدَّم يوم 28 أغسطس/آب 1798 -أي بعد 4 أسابيع من الاستيلاء على مدينة القاهرة- ببحث يفسر فيه هذه الظاهرة؛ بانعكاس الأشعة الضوئية الآتية من وراء الأفق على سطح طبقة الهواء، التي ارتفعت حرارتها عند مستوى الأرض بفعل الرمال المشبعة بأشعة الشمس.
ورغم أن علم البصريات الحديثة أرجع أسباب تلك الظاهرة إلى أسباب أخرى، فإن الأساس الفيزيائي لتفسير مونج ظل صحيحاً.
حتى الحيوانات تمت دراستها وتدوينها
وهناك عالم الكيمياء "برتوليه"، وكان هناك أيضاً 12عالماً في مجال الطبيعة، كان من أبرزهم "جوفروي، سافيني". وقد عمل كل منهم على دراسة أنواع الحيوانات المختلفة، وتعدَّى تخصصهم التصنيف إلى دراسة الأشكال والتشريح، واعتبرت دراساتهم بداية لظهور علم الحيوان.
وامتدت تخصصات العلماء حتى علم التعدين على يد العالم "دو روزيير"، الذي اهتم بأن تُرفق أسماء الصخور والمعادن بصور توضيحية بأشكالها المختلفة، وقد اعتمد على الرسم في توضيح الشكل واللون.
لم يشارك في وضع الكتاب العلماء فقط؛ بل كان هناك مجموعة من الأطباء، ومنهم على سبيل المثال "ديجينيت، لاري"، ومن الفلكيين "نويه". وهناك جزء في الكتاب يمكن تصنيفه وفقاً لمسميات الحاضر بعلم الاجتماع، حيث تثبت هذه الصبغة العلمية ادِّعاء الفرنسيين أنه كان هناك جانب حضاري لاحتلالهم لمصر، يختلف عما سبقهم وما لحقهم من احتلال.
وللأسف.. لا تمتلك مصر نسخة واحدة كاملة باللغة العربية!
في صباح يوم السبت 17 ديسمبر/كانون الأول عام 2011، استيقظت مصر على كارثة حريق المجمع العلمي، وقد أصاب هذا الحادث الوسطَ العلميَّ والثقافيَّ بالحسرة والألم؛ نظراً إلى الأوراق والمخطوطات الهامة التي حُرقت بالكامل؛ ومن أهمها نسخة أصلية من كتاب "وصف مصر".
ردَّد البعض أنها كانت النسخة الوحيدة الموجودة في مصر، إلا أن رئيس دار الكتب والوثائق القومية، الكاتب حلمي النمنم، أكد عام 2015 أن هناك أجزاء أخرى من موسوعة "وصف مصر"، ولكنها جميعاً باللغة الفرنسية. لم تُترجم إلى اللغة العربية سوى أجزاء بسيطة منها، الأمر الذي جعله يطالب بمشروع قومي يكون هدفه الوحيد هو ترجمة موسوعة "وصف مصر" بالكامل.
وأضاف أن الدكتور زهير الشايب قام بترجمة أجزاء من الموسوعة، ولكن العمر لم يمهله لتكملة هذه الترجمة بالكامل، فواصلت ابنته منى زهير الشايب ترجمة بعض أجزاء الكتاب.
أما عن الأجزاء المتوافرة في مصر، فقد أكد "النمنم" أن هناك 4 نسخ أصلية من موسوعة "وصف مصر" باللغة الفرنسية في دار الكتب والوثائق، ونسخة بقصر عابدين، وكذلك الأمر في جامعة القاهرة، ونسخة واحدة بجامعة عين شمس وجامعة السويس، بالإضافة إلى نسخة رقمية في مكتبة الإسكندرية، ونسخة أخرى بمكتبة البلدية في الإسكندرية، وأخرى بمكتبة دار المحفوظات في القلعة، وواحدة بالمكتبة الجغرافية، بالإضافة إلى نسخة في مكتبة "محمد حسنين هيكل"، ونسخة أخرى بمكتبة "بطرس غالي" رئيس وزراء مصر الأسبق، بالإضافة إلى النسخ الأصلية المتوافرة في فرنسا وإسبانيا.
ازدياد الاهتمام بالكتاب على محركات البحث منذ أن تم الإعلان عن بيعه بالمزاد، يدل من جديد على أهمية الكتاب، الذي يعدُّ طفرة حضارية تؤكد أن الحملة جاءت للغزو فتحوَّل علماؤها إلى أسرى الحضارة المصرية المتجددة دائماً.
ولعل هذا المزاد يفتح الباب أمام توفير نسخ متعددة مترجَمة إلى كل اللغات، تمكِّن العالم من الاطلاع على مكنوناته من كنوز.