كم مرةً شعرنا أننا لا ننتمي إلى مجتمعنا؟ نفعل ما لا نؤمن به خوفاً من النبذ والإقصاء؟
"أنا ضد عالمي، وعالمي سيقتصّ مني يوماً ما".
يتخبَّط القارئ في بداية أحداث رواية "بنت النبي"؛ حتى يقرأ هذه العبارة، إذ يرى نفسه بين السطور، فهي موجَّهة للمتردِّدين بشأن المُسلمات، ومَن يشكّون في إيمانهم، على الرغم من تمسكهم به.
تنقسم الرواية -الصادرة عام 2017 عن دار تويا للنشر والتوزيع- إلى 5 أجزاء، تناقش نظرة الشباب إلى مجتمعهم وحياتهم، هي على التوالي: سجين، صديق، سجين، صديق، من المدونة، ثم خاتمتان لتوضيح الألغاز في الأجزاء السابقة.
أحلام كافكاوية تنقلنا إلى عالم موازٍ يقدس الرذيلة
تدور أحداث الرواية في عالمين مختلفين، يرتبطان بكابوس لا نعرف سببه، العالم الأول يظهر ديستوبيا حقيقية في مدينة تدعى "العاهرة"، كل ما هو محرم في عالمنا مباح بها؛ بل ومقدس، فالجنس طقس مقدس ومرادف حرفي للعبادة، والعري فرض على الذكور والإناث، عدا شعر الأنثى فقط، الذي يُغطَّى ولا يُكشف سوى أثناء التعبُّد فقط.
فهي مدينة إباحية بامتياز، وتفعل كلَّ ذلك تعبداً للإله وباسمه، بطلها هو إيساف برصيصة، ويسجن لعدم امتثاله لقوانين المدينة من عري وإباحية.
العالم الثاني هو زمننا الحالي، يحاول فيه عبدالملك شريف، مترجم اللغة اليابانية، إيقاظ صديقه القديم محمود مصطفى، الملقب بكافكا؛ من غيبوبة طويلة، بعد مشاهدته لكافكا في أحلامه لعشرين يوماً؛ يهرب فيها من ذئب ودب.
خلال بحث شريف عن طريقة لإيقاظ صديقه، يعرف أن المرأة في حياته كامنة في كل شيء، على عكس ما يظهر، فعندما وجد حب كافكا، بدأت العُقد في الحلحلة.
تتوالى أحداثُ الرواية حتى نكتشف أن كافكا هو ذاته إيساف، لكنه سجين في عالم آخر، وضع شروطه هو دون أن يدري، وكلاهما مثلنا قارئي الرواية، لا نعرف حقيقةً ماهية الحق والباطل، نعيش مذبذبين، وباحثين عن اليقين في كل شيء.
وتبعاً لذلك، يحاول كافكا قتلَ كل ما يجعله مشتتاً في الحياة بداخله، فيعقد العزم على إلغاء الحب، والجنس، والصداقة، والموت من ذاكرته، ليصبح أقوى. فهل يمكن لنا كبشر العيش كذلك؟
بنت النبي تبعث الأملَ في الانتصار على الغريزة والتطرف
أكثر ما يميز الرواية، هو أن لكل شيء سبباً قوياً يربط الأحداث والأسماء -حتى الأدب المفضل للبطل- ببعضها البعض، في رمزية شديدة متوافقة مع الحبكة، فأي لقب يمكن أن يتماشى أكثر مع محمود، وحياته، وقراءاته، وكابوسه المخيف غير كافكا؛ تيمناً بـ"فرانز كافكا"، رائد الكتابة الكابوسية في الأدب العالمي.
كذلك، اختيار الكاتب لأسماء الأنبياء والأشخاص في مدينة العاهرة، كان موفقاً، فهاهو يجعل "إبيقور" نبياً، وهو فيلسوف يوناني شهير صاحب المذهب الفلسفي الذي يدعو إلى أن اللذة هي الخير الأسمى، وغاية الحياة السعيدة -لكن بشروط واعتدال تؤدي إلى الزهد- والاكتفاء بالأصدقاء؛ في إشارة لكافكا، وأمنيته بالعيش في عالم يقدس الصداقة، وعزازيل خاتماً الأنبياء، ويدعو للفعل المقدس، وإيرما العاهرة، تبعاً لـ"إيرما لادوس"، أشهر غانيات باريس.
ومن جانب آخر، فإن إيساف ومحاولته للظفر بحبيبته نائلة، نسبةً لصنمي العرب الشهيرين، اللذين فعلا الفاحشة في الكعبة فسُخطا حجرين. ثم "بروه يهوه" صديق إيساف، اشتق اسمه من بروتس ويهوذا، أبرز خائني التاريخ، تماشياً مع مشاعر كافكا المحبطة بسبب أصدقائه وابتعادهم عنه.
الرواية تميزها لغتُها الفصحى القوية والسلسة في آنٍ واحد، لاستخدامه مرادفات سهلة، واستخدم الكاتب العامية قليلاً في السرد، لإضفاء الحس الكوميدي أحياناً، أو لإظهار انعدام الثقافة والرقي في العالم الموازي المتمثل في "العاهرة".
يظهر النبي يوسف في كلِّ لحظات الرواية تقريباً؛ فإيساف يسجن لعدم انقياده لغريزته، ويلتقي بصاحبي سجن، ذئب يظلم بذنب لم يقترفه، ابنته هي كل التمني، وحلم ينتظر التفسير، إيساف يرى نفسه النبي يوسف رغم اختلاف القصة في مدينة العاهرة.
يُسقط الكاتب الكثير من مشكلات المجتمع في الرواية خفية، مثل التعصب الديني، فكل ما أصاب كافكا كان لتشبُّثه بتفاصيل صغيرة في الدين، فهو يشق على نفسه في كل شيء، حتى إنه يرى المسجد سجناً في حياته الأخرى بالعاهرة، لا أمل في الهرب منه.
أيضاً، رؤية المجتمع للمرأة، فمفهوم أن جسدها الجميل يتسبب في الغرائز، وتوقير المظهر الخارجي المتمثل في الحجاب، هو سبب ابتعاد كافكا أو إيساف عمّن أحب، لخوفه من مقاييس المجتمع، حتى دون تمسكه هو بالكثير من تعاليم الدين، على الرغم من رؤيته الدينية المتطرفة؛ إلا أنه يفضل أن يصبح متماشياً مع مَن حوله دون قناعة، وتظهر المشكلة عندما لا يستطيع ذلك. نرى ذلك جلياً في حبه لياسمين في عالمنا، وإيرما ونائلة في العاهرة.
حتى في الحرب المستعِرة داخله للحيلولة دون ربط الحب بالجنس، ومحاولته أن يكون حبه عفيفاً دون شوائب غرائزنا البشرية، فهو يرى محبوبته "بنت النبي"، الطاهرة، والشرعية، والفاتنة في آنٍ واحد، حاول الكاتب إظهارها في رمزية لاسمه في العاهرة، فهو إيساف برصيصة، إيساف؛ الذي يعني المبالغة في الحزن والغضب، كما غضب ونقم على مجتمعه في الرواية، وبرصيصة؛ راهب بني إسرائيل الذي كان يحاول الابتعاد عن الوقوع في الخطيئة.
غلاف الرواية، لإسلام مجاهد، يبدو متماشياً مع الأحداث، يستسيغه القارئ ويتفهَّمه فور انتهائه منها، وأوراق الرواية كذلك مجعدة، وهي فكرة جديدة مناسبة لتفاصيل الرواية، وعلاقة كافكا بما يكتب وما يريد التذكر.
تُظهر الرواية تأثر المؤلف محمود حافظ بالكاتب أحمد خالد توفيق، ولا عجب في ذلك، فهو من مواليد 1991، أي من جيل محبي روايات مصرية للجيب، وربما يعود الفضل لها لاتجاهه إلى الكتابة، شارك حافظ في مسابقات أدبية من خلال قصص قصيرة نشرها عبر الإنترنت، ودرس الهندسة في جامعة عين شمس بالقاهرة، متخصصاً في الكهرباء، قسم قوى وآلات.
يحسب لحافظ ابتعاده عن الأدب الصوفي؛ الذي قد يفكّر كثيرون في ربطه بالأحداث، خاصةً في الكتابة عن مشكلات دينية مثل التطرف، واليقين، وغيرها، لكنه آثر البساطة في السرد، والحلول دون تعقيد؛ ربما ليسهل للقراء أصحاب الخلفية الدينية الصلبة الارتباط بالرواية دون قلق، ما يحدث تغييراً طفيفياً في نظرة الأفراد للدين الذي يصوره لنا المجتمع، الذي قد يكون مختلفاً عن الدين الحق.
أحياناً النسيان ليس حليفاً لنا..
يعيب الرواية، كثرة الأدباء والمعلومات بها، التي قد تشتت القارئ، كذلك بعض الجمل التي قد تظهر في الحوار دون الإشارة إلى أنها من نصوص أدبية، أو عروض فنية معروفة، فهي قد تكون مجهولة للبعض، مثل: جملة Winter is not Coming من ملحمة Games of Thrones الشهيرة.
وعلى الرغم من أن الرواية ستجعلك محباً لأصدقائك، وشغوفاً بكل فرد منهم، وبما يعرفونه عنك، وكيف يرونك في وجدانهم؛ نظراً لمحاولات عبدالملك المستميتة لإنقاذ صديقه؛ إلا أنها للأسف تبدو غير واقعية؛ إذ توجب على المؤلف أن يظهر سبباً واضحاً لمساعدة كافكا، الذي لم يعرفه سوى لفترة قصيرة في تدريب التربية العسكرية، تبعتها عدة محاولات للبقاء على روابط التواصل، فهي مثالية غير موجودة في الوقت الحالي.
في الختام، تخبرنا الرواية أن عقولنا تتحكم في كل شيء نراه، فالنسيان، والمقاومة، والحياة التي نتمنَّى أن نعيش، هي نتاج لأفكارنا ورؤيتنا الذاتية لما حولنا.
وأن الأدوار قد تتبدَّل فجأةً، فمن نظنه عدواً يصبح الصديق والمنقذ الحق، وكل الأشياء تختلف يقيناً عندما نراها بعين اليسر، والرحمة لذواتنا قبل كل شيء.
بعد أن تنتهي من قراءة بنت النبي ستصبح ممتناً لأُنس الأصدقاء، وناقماً من الوحدة، محتفياً بذاكرتك التي تجعلك أنت. كذلك قد تتغير نظرتك نحو الذئاب والدببة، ربما ستتخلص من دمى الدببة في منزلك، وتستبدلها بدمية لذئب رمادي يقف في زهو، لعله ينقذك من أحد كوابيسك يوماً ما.
الرواية متوفرة PDF، عدد صفحاتها 295