بانكاج ميشرا، هو مؤلف ومحلل هندي مهتم بآسيا والشرق الأوسط، أصدر كتاباً مثيراً للاهتمام أسماه "عصر الغضب" يناقش فيه عالماً تتفجّر فيه أعمال العنف المفاجئة في نشرات أخبارنا، والعنصرية وكراهية النساء المنتشرة على الشبكات الاجتماعية، والأصوات المتطرفة التي تكتسب زخماً في السياسة، ونسأل نفسنا: كيف وصلنا إلى هنا؟
في حين أنه من السهل أن نفكر في أننا أول جيل يواجه هذه المشاكل، فإن "ميشرا" يسلط الضوء على بعض أوجه الشبه المدهشة مع القرن الثامن عشر، عندما تم التخلي عن العديد من الوعود "الحديثة" بالحرية والازدهار، ما أدى إلى انتشار الكراهية والعنف والحنين. لعصر ذهبي وهمي، وتأسست الحركات المسلحة في جميع أنحاء العالم.
شيء مخيف على وشك الوقوع!
The Age of Anger and its 'crisis of masculinity' – an interview with Pankaj Mishra https://t.co/jK9INbupl1 via @instapaper
— Ike Sharpless (@ikesharpless) December 19, 2017
يقول "ميشرا" إن أصول الغضب والعنف ليست مرتبطة بدين أو ثقافة بلاد معينة، ولكنها جزء من تاريخ طويل جداً، مرتبط بالهياكل السياسية والاقتصادية السائدة سواء كانت الدولة القومية أو الرأسمالية الصناعية القائمة على الاستغلال والتدمير.
ففي كل كل ثقافة ستجد أصولية وإرهاباً، نتيجة لتجارب الحرمان والحرمان من الحقوق والظلم والغزو والإمبريالية، وهي عوامل متشابهة لا تقتصر على بلد واحد، هذا هو ما يسميه "عصر الغضب" .
تبدو هذه الأفكار مغايرة للرأي الغربي السائد عن صعود اليمين والشعبوية في الغرب والعالم العربي أيضاً، فالأمر لا يبدو حسب "ميشرا" كرد فعل على صعود داعش ووحشيتها، ولا ازدياد اللاجئين والمهاجرين، بل هناك جذور للغضب والخوف تاريخية ونفسية، كانت الشعبوية حاضرة في انتظار لحظة الظهور المناسبة.
ولكن إلام ننظر بالتحديد؟ هل ثمة معنى اجتماعي أوسع من هذا؟ هل نحن على شفا جرف هاو في منحنى التاريخ؟ هل نحن أمام صندوق متفجرات يوشك أن ينفجر انفجاراً ضخماً؟ أم ترى أن بعض الأشياء كالسيارات والشبكات الاجتماعية هي فعلاً مضرة بصحتنا النفسية؟
صحيفة The Guardian البريطانية حاولت الإجابة على هذه الأسئلة من جوانب اقتصادية ونفسية واجتماعية مختلفة.
دورات العنف الاقتصادية
بالفعل لقد بدأت جميع الحركات الاجتماعية باضطراب ما، سواء كان على شكل عمل إضرابي أو احتجاج أو شغب. البعض يجعل الاقتصاد في قلب المزاج الاجتماعي، فمثلا موجة كوندراتييف التي تطول بين 40 إلى 60 عاماً (ولنقل أنها 50 عاماً كي تتفق تماماً مع دورة موجات العنف) تصف اقتصاد العالم الحديث بموجات نمو مرتفعة ومنخفضة، حيث الركود يتفق دوماً فيها مع الاضطراب.
ثمة مجال وضعه مع بداية هذا القرن العالم بيتر تيرتشن، يرتب الأحداث التاريخية بسلسلة خطوات رياضية. بعضها واضح -مثل المساواة- والبعض الآخر يلزمه القليل من التفصيل (فزيادة إنتاج النخبة على سبيل المثال جاءت نتيجة غياب المساواة، فكانت هناك فترات في التاريخ زادت فيها أعداد فاحشي الثراء قياساً بمراتب السلطة التي عادة ما يشغلها فاحشو الثراء، وهذا يدفعهم إلى التصرفات المارقة فيشترون المراكز والمراتب بالمال عبر نثره يمنة ويسرة في الانتخابات، وخير مثال على زيادة إنتاج النخبة هذه هو دونالد ترمب) .
تعطينا تلك الخطوات خريطة للتاريخ نرى من خلالها صعوداً في مستويات الغضب كل 50 عاماً: أعوام 1870، 1920، 1970 (كذلك على القارئ السماح ببعض المرونة لتتسع القائمة للحرب العالمية الأولى ولعام 1968). ليست دورات العنف هذه غير منتجة دوماً، فهي تضم تحت جناحها الحقوق المدنية والاتحاد وحركات حقوق المواطنة والتصويت.
ولا يرفض المنظور النفسي هذه العوامل الاقتصادية ولا يرى أن الغضب ظاهرة جديدة، ولكن ثمة عناصر جديدة للرحلة العاطفية البشرية وتتحكم بها شروط معاصرة.
العاطفة الهستيرية السلبية
آرون باليك معالج نفساني ومؤلف عمل أكاديمي ذو وجهة نظر تستحق القراءة، يقول: "أرى بالتأكيد أن الغضب صار أكثر تعبيراً، فما ترونه منه هو نتيجة تفشي عدوى عاطفية أرى أن الشبكات الاجتماعية مسؤولة جزئياً عن انتشارها. ثمة تأثير لانتشار الغضب، حيث يعبر عنه أحدهم وبالتالي يندفع شخص آخر للتعبير عنه أيضاً. لو تحدثنا من وجهة نظر سيكولوجية فالشيء المهم ليس العاطفة بل ما تفعله بهذه العاطفة: أتعبر عنها أم تعالجها أم تكبتها؟".
ويتابع باليك: "ما عادت الهستيريا لفظة صحيحة سياسياً لأن فيها كرهٌ للنساء على نحو ما، ولكنها تحمل معنىً تقنياً، فرد الفعل العاطفي الهستيري يحدث عندما تكون مفعماً بعاطفة جياشة زائدة عن اللزوم لأنك لست على تواصل مع الشعور الأساسي|.
التنمر في أماكن العمل
مثال على ذلك هو التنمر في مكاتب العمل، فالجميع في مكتب العمل يتنمر، فتشيع السلبية الهستيرية التي لا تعالج نفسها لأن أحداً لا يبدأ بالمضي في ذاك الاتجاه.
إذ يقول باليك: "لهذا الكلام تأثير عميق. فقد عملت في مكان ما عملاً، كانت فيه دوماً همهمة خفيفة من التذمر والتشكي، وكانت تجمع الموظفين بعلاقات قوية ومهمة لوحدة الحال ومشاركتهم الشكوى ذاتها، بيد أنها كانت ترتكز على تنازل متعمد عن القوة، فكان واحدنا يتذمر لأنه لا ينوي معالجة الشكوى بشكل ملموس ذي معنى".
انتشار العدوى الهستيرية
منحتنا الشبكات الاجتماعية طريقة لنقل الغضب من مكان العمل –الذي لا نملك فيه عادة قوة التغيير- إلى كل مساحات الحياة الأخرى. مثلاً يمكنك أن تدخل إلى موقع Mumsnet لكي تعبر عن غضبك مع بقية الزوجات إزاء الأزواج الكسالى والحموات الحشريات اللواتي يتدخلن فيما لا يعنيهن.
كما يمكنك الذهاب إلى تويتر لكي تجد رفاقاً لك في رابطة الغضب من السياسة وعلامات الترقيم، كما تذهب إلى فيسبوك لكي تشترك في الصراخ على أناس صرخوا في وجه طفل على متن قطار أو تركوا كلبهم في سيارة ساعة القيظ.
الربيع العربي عدوى من الغضب المفيد
إن هذه المنتديات الاجتماعية "تسمح بانتشار العدوى الهستيرية" حسب باليك، ولكن هذا لا يعني أن ذلك دوماً أمر غير مفيد، فالمثال الذي يستخدمه هو الغضب المعدي الذي تحول إلى حركة "الربيع العربي"، كما ثمة مواقع احتجاجية مثل موقع 38 Degrees و Avaaz أو مشاريع العدالة ذات التمويل الجماعي. معظم نداءات التعاون الموسعة المنادية بالتغيير بدأت بقصة أثارت غضب الناس.
اشتعل الغضب الجماهيري بعد إحراق محمد البوعزيزي نفسه في تونس، وسرعان ما انتشرت التظاهرات في تونس نتيجة الفساد والركود الاقتصادي والتضييق الأمني، لكن العدوى التي بدأت من مكان محلي في تونس سرعان ما تجاوزت البلد نفسه لتطيح بأربع رؤساء عرب في مناطق مختلفة من العالم العربي.
انتقلت عدوى الغضب سريعاً من تونس لمصر وليبيا واليمن، وحتى الاحتجاجات في الأردن والبحرين والعراق والمغرب وغيرها، بدت نوعاً من العدوى أو "الغضب المعدي".
ولكي نميز الغضب "الحميد" من "السيئ" ولكي نتحقق فعلياً من أن أي شيء منتج قد يخرج من أي فورة غضب، حري بنا معرفة هدف الغضب. يقول باليك "هدفه المحافظة على الحدود الشخصية، فإن داس أحدهم على طرفك أو زاحمك في مكانك أو أهانك أو لمسك فستغضب وسيكون الاستخدام المنتج للغضب أن تقول له "اغرب عن وجهي".
الشبكات الاجتماعية، هل دعس أحدهم على هويتك ومعتقدك؟
إن السمة المعقدة التي تميز الشبكات الاجتماعية هي أن "أحدهم قد يدعس على هويتنا أو على معتقدنا." وهكذا فإن إحساس الحجم الطبيعي الذي تستشعره في عالم الأوفلاين يصغر في العالم الافتراضي، فمثلاً قد يدهس شخص غريب أصابعك بعربة تسوق، ولكن لأنه أجنبي غريب فإنك ستستصعب ترجمة ما تشعر به في دخيلة نفسك.
إننا عندما نذيع على الملأ من نحن وماذا نعتقد وكيف نبدو وماذا نأكل ومن نحب، فإننا نفسح مجالاً واسعاً من الحدود الشخصية التي يسهل أمام أي كان غزوها ومهاجمتها ولو بالصدفة. لكن الشائع هو أنه لا يحدث صدفة بل بشكل متعمد، حسب الصحيفة البريطانية.
ولكن إن كان يسرك أن تتمدد في سريرك وتطالع أي أخبار أو محادثة تثريك، ثم تمر بامتعاض قصير يشحنك، فهل هذا أمر سيئ؟ لعله يزودنا بالدعم الضئيل الذي كنا نحصل عليه من التدخين؟ لا شك أن ثمة جواباً هرمونياً (يقول باليك أنه دوماً هناك أثر ظاهري فيزيائي على الجسد فالمشاعر والعواطف ليست أمراً مختلقاً")، ولكنه ليس واضحاً جلياً.
الهرمونات وإدمان التوتر
الباحث في جامعة فالنسيا نيوس هيريرو عمل على "تحفيز" الغضب في 30 رجلاً (عبر إبداء ملاحظات من المتكلم) فوجد مجموعة متنوعة من التناقضات الظاهرة. فالكورتيزول الذي هو هرمون التوتر والذي نتوقع صعوده عند الغضب نجده ينخفض، فيما يرتفع التستوستيرون ونبض القلب وضغط الدم الشرياني، وقد اكتشف هيريرا تناقضاً في "الاتجاه التحفيزي" فالمشاعر الإيجابية عادة ما تجعلك تود الاقتراب من المصدر فيما المشاعر والعواطف السلبية تجعلك تنفر وتبتعد. للغضب "حافز على الاقتراب" يعلله هيريرا ببساطة قائلاً "عادة عندما نغضب نبدي ميلاً طبيعياً للاقتراب من الشيء الذي أغضبنا محاولين إزالته." حسب The Guardian.
وكأي محفز فإن للغضب خصائص إدمانية، إذ تعتاده فتبدأ بالبحث عما يثير غضبك. للغضب شعور خداع يوهمك بالقوة تماماً مثلما يفتخر "هالك الخارق" بقوته التحطيمية الناجمة عن قوة عاطفته، والعبارة الشهيرة "لن تحبني عندما تراني غاضباً" مثيرةٌ للاهتمام، والرد المنطقي الوحيد هو "لا أحب أي أحد عندما يكون غاضباً" بيد أن لهذا الرد وقعاً على مستوى أعمق وأكثر بدائية.
المجتمع كله يتأثر
التبعات الأهم ليست على صحتك أنت بل على صحة المجتمع ككل؛ فالغضب غير المعالج يلوث الدائرة الاجتماعية وكل فورة غضب تبرر وتسوغ أختها التي تليها؛ ونحن قد وصلنا– بالصدفة كما يحلو لي الظن – إلى تقنية تديمها وتضخمها أحياناً بشكل منتج، ولكن دونما أي هدف يذكر في أغلب الأحيان.
نرى بشكل واضح ساطع على الساحة الدولية– كترمب و فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر اللذين ينفثان حنقاً غير موارب بغية إحراز تأثير سياسي- نرى جلياً كيف أن هذا مغير للطبيعة وكيف أنه يطلق كافة الردود الأقل إثارة كالتعاطف مثلاً.
إن الناس الذين يُستفزون بشكل عارم من مخاريط المرور على الطرق أو الموضوعة لإنشاءات على جانب الطريق لدرجة تدفعهم لدفعها وضربها بسياراتهم أثناء التأفف والانهيال بالشتائم على العمال بستراتهم الفوسفورية، قد يكونون أو لا يكونون نذيراً لمزيد من الاضطراب الاجتماعي، وقد لا يكون الأمر حسناً أبداً.