تسلل اللصوص الثلاثة في شارع سريلانكا الهادئ ليلا بحي الزمالك في القاهرة.
الشوارع المظلمة القريبة من قصر الخديوي إسماعيل، فندق ماريوت الآن، كانت هادئة كالعادة، وهم يدخلون فيلا الثري سليمان شيكوريل. كان سائقه الجديد هو دليلهم الذي سهل لهم الدخول، وبدأ الأربعة في احتجاز شيكوريل وزوجته، وتخديرمها قبل السرقة. لكن الرجل قاوم، وكانت النتيجة مقتله طعنا، وكان ذلك في منتصف عام 1927 أثناء مقاومته عدداً من اللصوص هاجموا الفيلا لسرقتها.. وظلت حادثة مقتل التاجر اليهودي الكبير صاحب الجذور الإيطالية في ذاكرة المصريين كثيراً، يرددها الناس ويحكون خرافات عن أشباح تسكن الفيلا بعد رحيل صاحبها.
وانطلاقاً من هذه الحادثة القديمة نسج الروائي والقاضي المصري السابق أشرف العشماوي خيوط أحداث رواياته سيدة الزمالك، ليحاكم التاريخ المصري الحديث وُيشرّح جثته بطريقة تجمع بين التحقيق الجنائي المثير والسرد الروائي الجذاب.
عباس: اللص يعود إلى مسرح الجريمة ويبحث عن الكنز
تدور أحداث الرواية حول عباس الذي تعود أصوله إلى إحدى قرى محافظة الغربية، والذي لم يحظ من تلك الحياة سوى بالتعليم المتوسط و"هجّ" بعدها من القرية إلى القاهرة للعمل.
بدأ عباس مشواره في العمل ببيوت البغاء ثم الملاهي الليلية، إلى أن جمعته الصدفة بمجموعة من الرجال مختلفي الانتماءات والجنسيات تجمعوا لسرقة فيلا "شيكوريل"، وأصبح بالفعل واحداً منهم، رغم أن الجناة الأربعة في الحادثة الحقيقية من غير المصريين. ربما كان ذلك السبب في أن الرواية تمهد الظروف لمساعدة عباء على الهرب من العقاب، بالإضافة إلى حصوله على خارطة سرية تشرح الطريق إلى ثروة "شيكوريل" الحقيقية.
استطاع عباس الهرب حتى انتهت التحقيقات والأقاويل حول الجريمة، لكنه أصر على العودة مرة أخرى إلى مسرح جريمته بحثاً عن ذلك الكنز الذي لا يملك أحد سواه الدليل إليه.
وبالفعل استطاع الاستيلاء على تلك الممتلكات بمساعدة أخته الصغرى زينب، البطلة الثانية في الرواية، وهي الفتاة الريفية التي عمل على تدريبها وتعليمها قواعد الإتيكيت، كي تعمل لدى أرملة شيكوريل وتتعرف إلى سيدات تلك الطبقة المخملية، وتفتح له أبواب بيوت الزمالك وسراياتها. وبالفعل استطاعت، ذلك وأصبحت سيدة من سيدات الزمالك فيما بعد.
لم يترك الكاتب الجريمة لغزاً يتم حله بمرور الأحداث مثلما جرت العادة في هذا النمط من الروايات التي تتعرض للجرائم، بل كشف كل أوراق الجريمة السابقة وما تلاها من جرائم خطوة بخطوة لأنه كان مشغولاً بجرائم أكبر تقع على أرض الواقع وتمس التاريخ. وكل ما أجله بالفعل هو العقاب ونهاية هذا البطل الذي تحكم بحياة كل من حوله ومصائرهم.
زينب: عمة طاغية تتحكم بمصير زينب وتضطهدها
لم يركز الكاتب على عودة عباس إلى مسرح جريمته مرة أخرى للبحث عن الكنز فقط، بل ليدخل من خلاله إلى التاريخ بشكل غير المباشر. فلم يهتم الكاتب بذكر الأحداث التاريخية بالأرقام والتفاصيل الواقعية، بل من خلال معايشة أثر تلك الأحداث على بعض ممن قاموا باستغلالها ليصبحوا من الأثرياء ورجال العهد الجديد في مصر بعد ثورة يوليو 1952.
عاد عباس مع بداية هجرات اليهود بعد حادث حريق القاهرة الشهير في بداية عام 1952، ثم هجرتهم الثانية بعد فضيحة لافون عام التي تم فيها القبض علي شبكة يهودية تسعى لتنفيذ أعمال ارهابية في مصر 1955، ثم جاءت الضربة القاضية بصدور قوانين يوليو الاشتراكية عام 1961.وبدء عصر التأميم في مصر.
فتحت تلك الهجرات الأبواب أمام عباس وعديد من أصحاب الثروات غير معلومة المصدر، لشراء الأملاك العقارية للأجانب في ذلك الوقت، والقيام بحركة هدم عشوائية لتلك العقارات غير معنيين بالأصول التاريخية لها.
ولم يكتفِ بعض من هؤلاء بشراء العقارات مثلما فعل "عباس" حين زور أوراقاً للاستيلاء على ممتلكات الخواجه "يعقوب زنانيري" الذي توفي في حادث أليم، فاستولى على ممتلكاته ومنها ابنته "باتيل" التي اتخذها عباس ابنة له باسم ناديا، ونسبها لنفسه ولزوجته – فيما بعد – أرملة شيكوريل؛ التي تزوجها ليستولي على ممتلكات زوجها الراحل بصورة رسمية.
وبعد حادثة التزوير السابقة، ننتقل مع الرواية إلى ناديا تلك الفتاة التي لم تعرف سوى عباس أباً لها وزينب عمة طاغية تتحكم بمصيرها فى الحياة، وتقف أمام تحقيق رغباتها كافة، وكأنها تحارب البقية الباقية من تلك الطبقة التى عاشت في مصر وكانت جزءاً أصيلاً من ثقافتها وحضارتها في يوم من الأيام..
ناديا: يوميات توثق لسوء استغلال قرارات التأميم العشوائية
سلط الكاتب الضوء على كل من السيدتين في نقاط كثيرة ليدفع القارئ للتساؤل ربما: أيهما تستحق أن تكون سيدة الزمالك، زينب التي أصبحت سيدة من خلال التزوير والسرقة، أم ناديا التي سُلبت تاريخها واسمها بالتزوير لأسباب خارجة عن إرادتها؟!
مثلما جاء الكاتب بتلك الابنة ليدخل بنا إلى باقي تفاصيل الأحداث من خلال رواية يومياتها التي شهدت قيام ثورة يوليو/تموز 1952، وكيف استغل بعض الضباط – بحسب الرواية – قرارات التأميم العشوائية سلاحاً للقضاء على البقية الباقية من مظاهر الحياة الملكية وعلى حياة كثير من الإقطاعيين.
الكاتب الذي دخل إلى التاريخ بشكل غير مباشر، نسج أحداث روايته على فترة زمنية طويلة.. بداية من عهد الملك فؤاد الأول " 1868- 1936″ وحتى عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك.. بالتحديد عام 1990.
خلال تلك الفترة قدمت الرواية عددا من الشخصيات بحكاية لكل منها، وهو ما قد يهدد بالدخول في دائرة الملل.. لكن الكاتب نجح في التغلب على ذلك من خلال أسلوب السرد. فقد جاء سرد الأحداث بالتناوب بين الأبطال يروي كل منهم في فصل منفصل حكايته ويعرض لوجهة نظره ونظرته للأحداث من حوله، ولم يقدم الكاتب سرداً لبعض النقاط المهمة في التاريخ الحديث مثل أحداث نكسة 5 يونيو/حزيران 1967 حيث اهتم الكاتب بما أدى إليها فقط.
والنهايات تليق بمزوري التاريخ
ظل عباس يجمع الثروات وبجانبها السلطة حتى أصبح عضواً من أعضاء مجلس الشعب، ورجلاً من رجال الحزب الوطني الحاكم أيام مبارك؛ ليعبر من خلاله الكاتب عن هؤلاء الرجال الذين يتلونون بألوان السلطة الحاكمة ليحافظوا على وجودهم في كل زمان ومكان.
وقد أكد على ذلك أيضاً حين أصرت زينب أخت عباس على استمرار نشاطها في هدم المباني الأثرية من القصور والسرايات، لتحل محلها تلك العمائر التي شوهت التاريخ والهوية فيما بعد.
تنتهي أحداث الرواية بنهاية دموية لعباس تليق بتاريخه، على يد أحد أفراد الجماعات الإرهابية، ودخول زينب أحد بيوت رعاية المسنين. فيما بقيت "ناديا" تتخبط بين الأدلة التي وقعت في يدها حتى عرفت حقيقة نسبها الذي اختلف على الأوراق بين عباس وبين والدها الحقيقي التاجر اليهودي "يعقوب الزنانيري"، الذي ودع الحياة هو وزوجته، وتركها فريسة للصوص يزورن التاريخ ويحاولون أن يقضوا على البقية الباقية منه.
تختار "ناديا" انتماءها لمصر دون الاهتمام باسم محدد أو أصل معين أو دين.. وقد قررت بدلاً من أن تظل حبيسة الأحداث أن تقوم بسردها في كتاب يحمل كل ما سبق مولدها من أحداث وما عايشته أيضاً، في إشارة من الكاتب إلى أن التاريخ له من يحافظون عليه، وأنه حي باقٍ بحقائقه مهما حاول اللصوص تشويهه.
الرواية : سيدة الزمالك
صادرة عن الدار المصرية اللبنانية عام 2018.
عدد الصفحات: 375
الكاتب: المستشار أشرف العشماوي، قاض مصري سابق بمحكمة الاستئناف وروائي نشرت له ست روايات، منها "تويا" التي وصلت للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية البوكر عام 2013، وفازت روايته "البارمان" بجائزة أفضل رواية عربية عام 2014 من الهيئة المصرية العامة للكتاب، كما أصدر كتاباً عن سرقة الآثار المصرية وتهريبها بالصور والوثائق النادرة بعنوان "سرقات مشروعة."